عرفت المسيحية قبل الإسلام في كل أنحاء الجزيرة العربية، ولكنها في واحات الحجاز، أو مدنه الثلاث: (مكة والمدينة والطائف) كانت أقل انتشارا وظهورا مما هي في أطراف الجزيرة، سواء في الشمال (فلسطين) أو الجنوب (اليمن) أو الشرق (العراق ولاسيما الحيرة، ومناطق الخليج). وقد وفدت إليها المسيحية متأخرة بعد ظهورها، خلال فترات متباعدة غامضة لا يتسع المقام لذكرها. وأهم وسائل انتشارها هناك دخول المبشرين، وهجرة بعض الأفراد والطوائف للإرتزاق فيها بأداء الخدمات أو بالحرفة، والرحلات التجارية بين الجزيرة وجاراتها المسيحية، وهناك المطامع الاستعمارية من جانب الدولتين المسيحيتين : الروم شمالا والأحباش غربا، وكانت كلتاهما تطمع في امتلاك الجزيرة، أو أقرب أنحائها إليها على الأقل، وقد ملكت جيوش الأحباش اليمن قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبلغت أطراف مكة عام مولده، ثم ارتدت خائبة، واستعمر الروم فلسطين، وكانت المسيحية منتشرة بين عربها، وقد حاولوا الاستعانة بهم في غزو الحجاز دون جدوى، بل إن فارس المجوسية – مع معاداتها لدولة الروم ومسيحيتها – كانت تشجع الطوائف المسيحية الذين تخالف مذاهبهم المذهب الإمبراطوري الرسمي (وهو المذهب الملكي أو، الملكاني) وتحفزهم على التوغل في الجزيرة، لتستعين بهم على نشر نفوذها في الجزيرة ومقاومة النفوذ الرومي. ومهما يكن من انتشار مذاهب المسيحية وغيرها من الديانات في أنحاء الجزيرة فقد كان نفوذها في مكة وسائر الحجاز ضعيفا، وذلك مع وجود أعداد مستضعفة غير ظاهرة من الرقيق المسيحي روما وأحباشا، ومع تتابع رحلات التجارة (شتاء وصيفا) من جانب قريش أهل مكة : وغيرها – وهم يومئذ ملوك التجارة في الجزيرة – إلى الشام واليمن والعراق، ورحلات أهل هذه البلاد وغيرهم إلى مكة، وكانت تسكن مكة أيضا جماعة من الحرفيين المسيحيين. ولسنا نعرف على وجه اليقين أن أحدا من عرب مكة يومئذ اعتنق المسيحية عن فهم واقتناع، بل إن كثيرا ممن اعتنقوها في أطراف الجزيرة لم يعرفوا منها إلا شرب الخمر كما قال الإمام علي، ولم يكن في مكة للمسيحية كنيسة أو هيئة دينية. ولعل من أسباب عدم انتشار المسيحية في مكة وسائر الحجاز، وضعف انتشارها في أطراف الجزيرة بعامة أنها لم تدخل صافية، بل جاءتها بأكثر ما بين مذاهبها يومئذ من اختلافات وتعقيدات حادة، مع طعن كل طائفة في مذاهب غيرها، وكل ذلك يحول دون الاهتداء إلى حقيقتها، والاهتداء بها في الحياة، وقد ناقش القرآن آراء بعض مذاهبها، وأنكر هذه الآراء، كما ذكر القرآن صورا وأحداثا من قصة السيد المسيح وأمه عليهما السلام ورفعهما مكانا عليا وأثنى على الإنجيل والمسيحيين، كما تذكر بعض كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة (8 ه) وجد في الكعبة صورة لهما، ولاشك أن أهل مكة من أصلاء ووافدين كانوا يعرفون أطرافا من المسيحية. أصيلها ودخيلها، ولكنا لا نعرف أحدا من الوافدين عليها كان ضليعا فيها أو في أي مذهب منها. وقد نسب إلى نفر من قريش أنهم كانوا يدينون بها، وليس من دليل قاطع ولا راجح على ذلك، وغاية ما يفهم من أخبار هؤلاء أنهم كانوا من العقلاء الذين أنكروا ديانة قريش الوثنية، فالتمسوا الهداية في غيرها، وبعضهم كان يقرأ ويكتب فساعده ذلك في الاطلاع على بعض ما عند المسيحيين واليهود من آراء دينية، كما أن بعضهم رحل خارج الجزيرة لالتماس الهداية، فبقي حائرا، وهؤلاء النفر يسمون "الحنفاء". وقد كان القرآن صريحا في ذكر كل ما رمت قريش به النبي من مغامز لتصد عن دعوته، كما كان قاطعا في رده عليها، ومن ذلك ادعاء قريش أن النبي يختلق القرآن مستعينا ببعض الرقيق الأعجمي، وقد تكرر ذكر هذا المغمز في عدة آيات، مع الرد عليه في كل آية، ومن ذلك قوله تعالى:"وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ"[النحل :103]. وليس يعنينا هنا معرفة اسم هذا الأعجمي واسم مولاه، ولكن حسبنا الإشارة إلى قلة المسيحيين في مكة، وأن جلهم من الرقيق، وأن المسيحية – كما قال بعض المستشرقين – لم تعرف هناك غير أطراف منها مفككة متضاربة بعد أن اختلطت ببعض الأساطير الوثنية أو التعاليم اليهودية بسبب اجتهادات بعض مجتهديها وتدخل بعض الأباطرة في مسائلها الاعتقادية، وكل أولئك مما صد الناس في الجزيرة عن فهمها واعتناقها، فكان أثرها هنا ضعيفا وكان في الحجاز أضعف. ومن أجمع الكتب لأطراف هذا الموضوع كتاب "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" للدكتور جواد علي. والله الموفق 29/09/2013