استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا            تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    هجوم ماغديبورغ.. الشرطة الألمانية تُعلن توجيه تهم ثقيلة للمشتبه به    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    رشاوى الكفاءة المهنية تدفع التنسيق النقابي الخماسي بجماعة الرباط إلى المطالبة بفتح تحقيق    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    الشيلي ترغب في تعزيز علاقاتها مع المغرب في ميدان البحث العلمي    العرائش: الأمين العام لحزب الاستقلال في زيارة عزاء لبيت "العتابي" عضو المجلس الوطني للحزب    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الجيش الباكستاني يعلن مقتل 16 جنديا و8 مسلحين في اشتباكات شمال غرب البلاد    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود جلالة الملك من أجل الاستقرار الإقليمي    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحج عبادة وثنية
نشر في هسبريس يوم 26 - 06 - 2009

ها نحن في الجزء الثاني من المقال حول الحج . لا بأس أحيانا أن نستنشق الهواء القاسي الآتي من سيرة ابن هشام ، ولا بأس التذكير أيضا أن الإسلامويين سيحاولون دفن رؤوسهم في الرمل مواصلين كالعادة ألوان الشتائم والإرهاب دونما الإجابة عن الأحداث . وهذا ليس شيئا جديدا عليهم منذ فجر الإسلام . ها معاناة المفكر العقلاني والطبيب أبو بكر محمد بن زكريا الرازي من همجية هؤلاء - عاش في القرن 3 ميلادي - مثالا واضحا على طبيعة تفكير المنتمين إلى الفكر الإقصائي ، ولولا أن الكثيرين منهم تعرضوا لكتاباته وهاجموه ، لما وصلتنا الآن خلاصة أفكاره بعدما ضيعوا مجمل كتبه الفلسفية . لننظر بعض تعليقات كبار مفكرين البنية الإقصائية حول الرازي ، حتى نفهم أنه إن كانت تلك الهجومات هي ردود الخاصة من الإسلام على المفكرين العقلانيين ، فعلينا أن لا تأخذنا المفاجأة عن كيفية أخلاق وردود العامة : ""
- قال ابن ميمون القرطبي في كتابه دلالة الحائرين " للرازي كتاب مشهور وسماه بالإلاهيات ضمنه من هذياناته وجهالاته عظائم " ، إن الطبيب العبقري الرازي يهذي وجاهل حسب ابن ميمون القرطبي !!!
- قال صاعد الأندلسي في كتابه طبقات الأمم عن موقف الرازي من إبطال النبوة " تقلد أراء سخيفة وانتحل مذاهب خبيثة "
- كما وضع أبو حاتم الرازي في رده على أبو بكر الرازي كتاب " أعلام النبوة ، الرد على الملحد أبي بكر الرازي " وهو الكتاب الدي تعرض لكتاب أبو بكر الرازي " مخاريق الأنبياء " . الشيء الذي ساهم في بقاء كثير من أفكار الطبيب الرازي عبر التاريخ ، حيث كان مضطرا أبو حاتم في تفنيد أقوال الرازي أن يسوق بعض أفكاره ..وهو الكتاب الذي حاول تصوير الطبيب العظيم والمفكر الرازي كأنه شخص بليد !!! إنه مكر التاريخ ، في الوقت الذي حاول أبو حاتم تسفيه الطبيب العبقري أبو بكر الرازي ساهم في وصول أفكاره عبر التاريخ وأعطاها حياة مستمرة ، ومن جملة ما أورده الرازي في كتابه : إن سئل أهل هذه الدعوى عن الدليل على صحة دعواهم استطاروا وغضبوا وهدروا دم من يطالبهم بذلك ، ونهوا عن النظر وحرضوا على قتل مخالفيهم ، فمن أجل ذلك اندفن الحق أشد اندفان وانكتم أشد انكتام ... ويقول : وإنما أتوا في هذا الباب من قول الإلف لمدهبهم ومر الأيام والعادة ، واغترارهم بلحي التيوس المتصدرين في المجالس يمزقون حلقوهم بالأكاذيب والخرافات وحدثنا فلان عن فلان بالزور والبهتان وبرواياتهم الأخبار المتناقضة ...
فإذا كان هذا حال معاناة مفكر عبقري وطبيب عقلاني من طرف مفكري ومؤرخي الإسلام وتوصيفهم له بالجهل ، ودرجة جنونهم ، فلا تعترينا طبعا المفاجآة عندما نرى تعصب العامة وسلوكاتها ... ويكفي أن نعرف أنه كتب قرابة 200 كتاب ، طال معظمها الإتلاف ولولا وجود مؤلفات تذكر أسماء هذه الكتب له ، لما عرفناها . وأريد تنبيه القارئ إلى التدليس الذي يقوم به الإسلامويون عند ذكرهم الرازي ، حيث يوردون أحيانا إسم الرازي دون الإشارة إلى أي واحد يقصدون ، فثمة مثلا أبو حاتم الرازي الذي هاجم أبو بكر الطبيب ، وثمة أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى حوالي 370 هجرية صاحب الفصول في الأصول ، وفخر الدين الرازي ...لذلك ينبغي الإنتباه إلى أن الطبيب العبقري والعقلاني هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي المولود حوالي 250 هجرية ، واشترك معه كثيرون بالرازي أو أبي بكر ، وينبغي الملاحظة والتفريق بين أبو بكر الرازي الطبيب بغيره ... وهذا من تدليسات دفن الحق أشد اندفان من طرف لحي التيوس بأوصاف كلمات طبيبنا الرازي لهؤلاء الإقصائيين كما أوردناها أعلاه .
ليس أمام المدافعين عن الخرافات إلا خيارات محدودة وهي :
1 - الإعلان أن ما أقوله من روايات نسبتها لابن هشام لا يوجد في سيرة ابن هشام ، وهذا مستحيل لأنهم يعرفون أن كل الأحداث كتبها ابن هشام . وهذا سهل التحقق منه ، بقراءة بسيطة لسيرة ابن هشام .
2 - الإعلان أن سيرة ابن هشام غير صحيحة ويتبرؤون من كل رواياته ، وهذا يستدعي أنهم عندما يحتجون عندنا بأخلاق الرسول أو التاريخ النبوي عليهم أن ينسوا سيرة ابن هشام تماما لأنهم كذبوها ، ويختارون سيرة يثقون في كاتبها ، أو كتاب تاريخ موثوق عندهم . ويعطوننا إسمه وسنستخرج لهم منه تناقضاتهم . وأنا أنتظر من هؤلاء جميعا أن يأتونني بمصدر تاريخي لسيرة النبوية، وسأستخرج لهم منه ما يريدون إخفاءه على الناس ، شريطة طبعا أن يكون مكتوبا قبل القرن التاسع الهجري ، أليس غريبا أن يكون لهم تسعة قرون من الإختيار ويصيبهم العجز عن ذكر كاتب واحد ؟؟؟ . طبعا ، نعرف أنهم يريدون كالعادة الإنتقاء من هنا وهناك ، ويختارون من نفس الكتاب ما يعجبهم ويرفضون ما لا يعجبهم ويكذبون على الناس !!! إن تلك المؤلفات والمصادر كلها كتبت في ظل سلطة إسلامية سياسية ، أي أن تلك التناقضات إنما هي تعبير عن طبيعة الفكر الخرافي من داخل نفس البنية الدينية ، فعندما كانوا يدونونها لم يراودهم الشك أنها ستكون حجة ضدهم ، رغم ما بدلته الرقابة من محو التاريخ الحقيقي ، ومحو الوجه السلبي للبنية الدينية الجديدة وتقديمها كعالم مثالي . وإلا ما معنى أن تصلنا مؤلفات كثيرة من تلك الحقبة وتختفي معظم مؤلفات العقلانيين كالطبيب الرازي أو ابن الراوندي ...!!!
3 – الإعلان أنهم لا يثقون في أي كتاب سيرة أو مؤرخ إسلامي ، وأنهم يشككون في كل المؤرخين !! من ابن سعد ، وابن هشام ، والطبري ، وابن كثير ، وابن عبد ربه ، والأصفهاني ، والمسعودي .... وأنهم لا يؤمنون إلا بالقرآن والبخاري ومسلم !! ولهم الحق في ذلك ، رغم أنه أمر مضحك ، لأنهم كيف عرفوا أنها مصادر صحيحة إن لم يطالعوا مصادر تقول أن هذه المؤلفات صحيحة !!! بالمقابل يكون لزوما عليهم مسح مخيلتهم من كل الخرافات خارج هذه الكتب التي آمنوا بها ، وأن لا يذكروا لنا من التاريخ إلا ما جاء عن طريق القرآن والمؤلفات التي حددوها لنا . بمعنى أننا عندما سنناقشهم في القرآن سوف لن يحيلونا على تفاسير أشخاص أو أسباب نزول ذكرها هؤلاء المؤرخون الذين رفضوا كتاباتهم أصلا ، وهذا مثال على تناقضاتهم ... وعندما يتكلمون عن خرافاتهم فليلتزموا فقط بكتب حددوها لنا . وليس كما يفعلون الآن ، بتقديم كوكتيل تاريخي منتقى للمتلقي من هنا وهناك بما وافق هواهم . فعندما يقول ابن هشام أو المسعودي مثلا يتحدث عن معجزات النبي والأخلاق العالية فهو على صواب وتلك حقائق تاريخية ، أما عندما يذكر أحداثا تكشف فضائحهم فإنه على خطأ ولا يثقون فيه !!!!!
4 – الإعلان أن التاريخ تعرض لتزوير ، وأن الحقيقة نسبية . وهذا يعني أن : لا أحد منا عاش في القرون الأولى ، ويستدعي إعادة النظر في كل شيء ، من أخلاق الرسول الفاضلة أو مثالية المجتمع الإسلامي أو أكذوبة التسامح الديني ... فما داموا شككوا في كل شيء ، فالمنطق يفرض أن يشككوا في كل الروايات حول الرسول أيضا والدين الجديد وأن تكون كلها تحت النقد والتمحيص ...
5 – ثمة خيار آخر يمتلكونه طبعا ، وهو خيار سهل ويركن إلى الكسل المعرفي ، وهو دفن رؤوسهم في الرمال ، ووضع القطن في آذانهم ، أو اللجوء إلى الشتائم ، وتعويم النقاش إلى أماكن لا علاقة لها بالموضوع لأن هشاشة بنية التفكير الإسلاموي لا تتحمل استعمال العقل .
وقبل أن أفتح باب موضوع أسطورة الكعبة ، أقول أنني أنتظر من هؤلاء الذين يرفضون ابن هشام كمصدر تاريخي إخباري بمصدر يعتمدونه كي أتمكن من تلخيصه وتقديمه إلى المتلقي لكشف تناقضاتهم ...
عندما نتحدث عن أساطير كعبة مكة ، الأمر ذاته لا يختلف كثيرا عن أساطير بيوت بويا عمر ، أو سيدي أحمد البوهالي . وعندما نتحدث مثلا عن بئر زمزم ، يمكننا إستحضار الأساطير المرتبطة بالعيون المختلفة في المغرب كعائشة البحرية أو للا الشافية ، حيث يقصد عشرات الآلاف سنويا تلك البيوت والآبار للزواج أو لأمور مرتبطة بالشعوذة والخرافات . فإذا كان الحال هذا ، في القرن الواحد والعشرين مع كل التطور الهائل المعرفي والعلمي ، يمكننا أن نتصور حجم الخرافات قبل 15 قرنا من الزمان .
الكثير منا اليوم لا يستطيع إقناع بعض الجدات أو حتى بعض الأمهات على أن ما يروونه عن تلك الشعوذات هو محض خرافات وأساطير . الأمر نفسه مع الرجال ، وإن كان أقل حدة بحكم تفشي الأمية بشكل أكثر في أوساط النساء . بل ، ربما سوف ينظرون إليك بتهكم واستغباء إن واجهتهم بتلك الحقائق ، ويخبرونك بالعجب العجاب عن المعجزات التي حدثت بالفعل بعد زيارة تلك البيوت . وهذه خرافات معروفة لا يمكن إنكارها .
حقيقة ، إن الأمر يتعدى الأمية والجانب النفسي .. لكن بشكل عام ، إن تراجع نسبة الأمية ، وتفشي المعرفة والعلوم يساهم في الإبتعاد عن الخرافات . وذلك ما يحدث بالضبط في العالم اليومي بخصوص علاقة الإنسان مع الديانات ، رغم الكلام الدي تسوقه الإحصائيات العالمية حول الأديان من طرف بعض المنظمات أو بعض المواقع . حيث موقع ويكيبيديا مثلا تضع المسيحية بعدد 2.1 مليار في العالم ، والإسلام ب 1.7 مليار ، والهندوسية بما يقارب 1 مليار نسمة ، والبودية ب 376 مليون نسمة ، إلى جانب بعض الديانات الأخرى كالسيخ ب 27 مليون نسمة ، واليهود ب 13 مليون ، والبهائية ب 6 مليون ، والزرادشتية ب 250 ألف ...ويكون نصيب اللادينيين حسب مثل هده الإحصائيات هو قرابة المليار نسمة .
صحيح ، أن الإحصائيات العالمية في الميدان متقاربة جدا . لكن لا ينبغي إغفال أن هذه الإحصائيات تعتمد على الإنتماء الديني بالولادة وهو مؤشر مغلوط عموما . إذ لا يعني مثلا أن كل المغاربة مسلمون فقط بطرح عدد اليهود والمسيحيين المغاربة من مجموع المواطنين ، فلا أحد بإمكانه إنكار أن بعض المغاربة لا يؤمنون بالإسلام وهم ليسوا لا مسيحيين ولا يهودا . كما أن أوهام تزايد عدد المسيحيين والمسلمين والهندوسيين والبوديين هي مجرد دعايات للترويج لدين ما ، فالتزايد السكاني لا يعطي الإنطباع بالضرورة بانتشار دين من الناحية العقدية . إذ لا يعدو سوى أن يكون إنعكاسا للتزايد السكاني ،وهو ما سيقف لزوما عند حد ما ...
كما أن عدد مليار من الهندوسيين لا تعني أن الهندوسية هي دين الإله وأن صمودها التاريخي يعطيها قوتها وحجيتها ، الحال عينه مع عدد المسلمين . أما تلك الكاميرات حول أناس يعتنقون الإسلام يوميا أو البودية أو باقي الديانات ، فذلك فقط في مخيلة البعض . فلا يعني أن أشخاص يعتنقون الإسلام أنه في مراحل الأوج ، بل هي ديناميكية كل الديانات والإيديولوجيات والفكر البشري عموما . لأنه في المقابل يمكننا رؤية عدد المتنصرين من المسلمين الدين يعتنقون المسيحية عن اقتناع وعقيدة ، دونما الحديث عن المغادرين لقطار الإسلام من داخل نفس البنية .
نعم ، سيقول البعض أن بعض المتنصرين يبحثون عن المال ، ربما علينا أن لا ننسى أيضا أن بعض الناس الدين اعتنقوا الإسلام كان من أجل البترودولار والشهرة ... إذن ، فالأمر سيان .
إن طبيعة الفكر الخرافي السائد في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام أو في مرحلة انتشاره ساهم بشكل كبير في استمرار مناولة الأساطير وكأنها حقيقية . إنه من المستحيل على الإنسان أن يتخلص من الخرافات والأوهام والخطوط الحمراء حول كعبة هبل من دون إستعمال العقل ، كما لا يمكن للمؤمنين بشعوذة بويا عمر وزيارة للا الشافية وعائشة البحرية من أجل الزواج والحياة السعيدة أن يقتنع بأن تلك الأمور خرافات . كلاهما يقبل بالمسلمات الجاهزة على أنها حقائق كونية تابثة لا تحتاج لبرهان . لكن البحث والتمحيص واستعمال العقل هو الوحيد الكفيل بكشف تناقضات هذه الخرافات .
فالدوران حول حجر ، والضرب بالحجارة وغيرها ... لا يمكن أن تأتي من طرف شخوص يستعملون العقل ، كما أن الإله لا يمكن أن يأمر عباده بمثل هذه الأمور التي هي أقرب من الجنون إلى شيء آخر ... وهذه أمور تكلم فيها القدماء والمحدثين ، وفصلوا فيها .
فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون شعائر الله من الأمور التي يستنكرها العقل والتي لا فائدة ترجى منها . فالإله العادل ليس بالإمكان أن يأمر عباده بأمور قبيحة من أجل عبادته . وهذا من الفخاخ الذي سقط فيه الأنبياء ، وهو الأمر الذي كان يستدعي من كل نبي أن ينظر في عبادات النبي السابق له وتعديلها بعد مرور الزمن وظهور عيوبها . فما حجة البعض أن يغير الإله شرائع عباداته مع كل نبي ؟؟؟ إنه الجواب الجاهز دائما :إن اختلاف طبائع الشعوب وزمانهم هو ما يدعو الإله إلى تغيير شرائع عبادته لحكمة يعرفها !!! وهذا جواب ساذج جدا ، وواهن جدا ، إذ نقول لهم : إذا كان الإله أمر النبي محمد بتغيير الشرائع فقط بعد 6 قرون من شرائعه التي أمر المسيح بها ، فما هو حالنا اليوم بعد مرور 15 قرن من النبي محمد ؟؟؟
أليس الأمر يستدعي التغيير أيضا ؟ فإذا قالوا أن النبي محمد هو خاتم النبيئين وهذه هي الشرائع النهائية ، قلنا لهم : ألم يستطع الإله أن ينتظر قليلا بدل تغيير عبادات موسى إلى عبادات عيسى وهو يعرف أن هذه العبادات ستتغير بعد ستة قرون لتصبح نهائية ؟؟؟ ثم أنه لماذا لم تكن هذه العبادات منذ البداية على شكلها الحالي مع الرسل السابقين ؟؟؟ فهذا يؤكد قولنا أن الأمر لا يتعلق بتغير الزمان لتتغيرعلاقة الإنسان مع الله ، ولا الأمر يتعلق بالثقافات واختلاف الشعوب ، لأنهم إن قالوا ذلك قلنا : فلماذا لم تأتي تشريعات مختلفة حسب المكان ، وتكون عبادات إفريقيا ليست كعبادات أستراليا لما بينهم من اختلاف مثلا ، فليس بالإمكان أن تفرض العدالة الإلهية نفس الشرائع والعبادات بين أماكن مختلفة تتكلم بألسنة مختلفة في حين راعى إله الأنبياء نفس الأمر سابقا وحرص على تغيير العبادات بين موسى وعيسى والنبي محمد !!! ...سيقولون إنما يجمعنا التوحيد وكل شيئ آخر من العبادات هو عابر . سنقول : نعم للأولى ، ولا للثانية . لأن العبادات الموجهة إلى الله لماذا سيلزمها تحريف ؟؟؟ وهو ما يجعلنا نقول أن العبادات إن تعرضت للتغيير فهي ليست شيئا ذا أهمية
إن اختلاف العبادات هو خاضع للفكر الزمني والمكاني للأنبياء . ومن هنالك تكون عبادات الدين الجديد ركاما من الأفكار السابقة الرائجة بالإضافة إلى موقف وإضافات النبي . فمثلا عبادات الإسلام بطبيعة الحال هي عبادات قريش وما حولها وما وصل إليه الفكر النبوي ، حيث يكون إقرار بعض العبادات المسيحية وإنكار بعضها وإقرارأخرى يهودية وإبعاد بعضها ، وتبني معتقدات وثنية ومهاجمة بعضها ... فإن كان مثلا حج الكعبة هو من فروض إبراهيم ، فلماذا لم تكن من فروض المسيحية الذهاب إلى كعبة مكة ؟؟؟ والمسيحية جاءت بعد إبراهيم !!! أو لماذا لم يفرض عيسى على أتباعه عيد الأضحى ؟؟ إن كانت هذه الحادثة تعود إلى إبراهيم ، والمسيح جاء بعد إسماعيل وإبراهيم !!!
إنه من التناقض أن نقول أن أول بيت لله هو بمكة وثواب الحج عند الإله عظيم جدا ، لأنه مكان الإله المقدس الأبدي !!! فلماذا لم يخبرالإله عباده المسيحيين واليهود الصالحين أتباع موسى وعيسى بهذا الثواب ؟؟؟ أم أن العدالة الإلهية خصصت فقط أتباع النبي محمد بهذا الثواب !!! ،وفوتت الفرصة على المسيحيين واليهود . ولماذا لم يقل لهم أن أرض الإله المختارة هي مسقط رأس النبي محمد ؟؟ فإن قال البعض " وهذا جنون " بل إن الإله أمر موسى وعيسى بالحج وحرفه أتباعهم !!! نقول : هذا كلام غير صحيح ودليلنا أن النبي كان يصلي لبيت المقدس قبل أن يبدل القبلة إلى الكعبة بعدما تفاقمت مشاكله مع اليهود ومحاججتهم له في المدينة ...
كما قلنا إن العبادات هي رهينة بالسياق الزمني والمكاني للنبي ، ولو أن الإله كان يبدل شرائعه وعباداته من عبادات مسيحية إلى أخرى مختلفة تماما إسلامية بعد 6 قرون فقط بين النبيين ، كان من الأولى أن تتغير العبادات الإسلامية بعد 15 قرن من ظهور الإسلام .
ونعود إلى ما أورده السيد ابن هشام في سيرته النبوية عن الكعبة :
- " قال ابن إسحاق : فلما بلغ رسول الله خمسا وتلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها ... وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم ، فتتشرق على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون ... فبينما هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله إليه طائرا فاختطفها ..فقالت قريش إنا لنرجو أن يكون الله قد رضى ما أردنا ، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب ، وقد كفانا الله الحية ...
وقال ابن إسحاق أن عبد الله بن صفوان قال أن أبا وهب هو الذي أخذ حجرا من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها فوثب من يده ، حتى رجع إلى موضعه . فقال عند ذلك ، يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا ، لا تدخلوا فيها مهر بغي ، ولا بيع ربى ، ولا مظلمة أحد من الناس .. "
من رواية ابن هشام هنا نرى أن قريش بنت الكعبة فعلا بعدما هدمتها لإعادة بنائها ، وكيف كانوا يتخوفون من عاقبة هدمها ولو كان من أجل صلاحها ، كما أنهم كانوا يستنكرون الربا والبغاء والظلم قبل مجيئ الإسلام ، فها هو أبو وهب بعدما وثبت الحجرة من يده – الفانتزم والتخييل لحركة الحجارة – يدعوهم لبنائها بالمال الحلال ...
ثم يواصل ابن هشام القصة " قال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها ، فأخد المعول ثم قام عليها ... ثم هدم من ناحية الركنين ، فتربص الناس تلك الليلة وقالوا ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ، ورددناها كما كانت ، فإن لم يصبه شيء فقد رضي الله صنعنا .. فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله ، فهدم وهدم الناس معه ... "
إن أسطورة إصابة أبرهة بطير أبابيل وليس بالجدري والحصبة كما أوردها ابن هشام عندما قال أن الجدري والحصبة ظهرا ذلك العام الذي جاء فيه أبرهة لهدم الكعبة ، إختفت هنا أمام رغبة الإله في تجديد كعبة إبراهيم . حيث الإله الذي حماها من أبرهة لم يكن قادرا على حمايتها من الأمطار وتشققات الزمن والظروف الطبيعية !!!
ثم يواصل إبن هشام عن الأشياء التي وجدوها فيها : " وحدثت أن قريشا وجدوا كتابا بالسريانية ، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هو : أنا الله ذو بكة ، خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض ، وصورت الشمس والقمر ، وحففتها بسبعة ملائكة ... مبارك لأهلها في الماء واللبن "
إنها رواية تدل على شيئين أساسيين هنا ، هما أولا تداول الأفكار السريانية ووجود من يتكلمون بهذه اللغة من قريش ، وهو ما يؤكد إطلاع قريش على ثقافات مختلفة . والمسألة الثانية هي عقلية قريش ، حتى تخيلوا أن كتاب الإله يبارك لهما في الماء واللبن ، وطبعا فاللبن والماء كانا شيئين مهمين في تلك الفترة التاريخية ، فهل يا ترى لا زال سكان مكة اليوم محتاجين إلى مباركة الإله لهم في لبنهم ؟؟ أم هم في حاجة إلى مباركة في البترول ومأكولات المطاعم !!
ثم يورد إبن هشام : " ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الركن ، فاختصموا فيه ... ثم يتحدث عن إشارة أبي أمية بتحكيم أول داخل فكان الرسول .. ثم قالوا هذا الأمين ، .... فقال الرسول : هلموا إلي بثوب ، فأتي به ، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال لتأخد كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ... ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه بيده ثم بنى عليه .."
غريب أمر الإسلامويين ، يوردون هذه القصة في كل كلامهم ، ولا يؤمنون بأن قريش أعادت بناء الكعبة !!!! وهذا يبين حجم التدليس في التاريخ الإسلامي ، وهنا أيضا يمكننا ملامسة بعض جوانب شخصية النبي القوية المتسمة بردود الأفعال الذكية القادرة على إدارة الصراع والتحكم فيه . فالنبي لم يكن بالشخص الأمي الذي لا يعرف شيئا قبل الوحي ، بل إنه كان شخصية متفاعلة في الواقع السياسي والمجتمعي ، ومؤهلا لخلق نقلة نوعية في العلاقات السياسية الإجتماعية والدينية لقريش والمنطقة المجاورة لها ، ولا داعي للإشارة إلى إختيار خديجة للنبي من أجل الخروج على رأس قافلتها التجارية ، وهذا أمر يتعلق بتجارة خارجية تتطلب أموالا مهمة وحسابات دقيقة ..
ويحدثنا ابن هشام عن الحمس وبعض شعائر الحج الوثني قائلا : " وقد كانت قريش ، لا أدري أقبل الفيل أم بعده ، ابتدعت أي الحمس رأيا رأوه وأداروه ، فقالوا : نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة ، ولاة البيت ... فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها ، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج .. ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها ويفيضوا منها ... "
إذن ، فالإسلام لم يأتي بالوقوف على عرفة والإفاضة منها ، وإن كانت قريش والحمس بشكل عام ومن دان دينها لم تفعلها لتتميز على باقي العرب الحجاج ، فالنبي مارس فقط ما قامت به القبائل العربية في الوقوف على عرفة والإفاضة منها ، خاصة إذا عرفنا الصراع الذي كان بين النبي وقريش في تلك الفترة ، وأنه كان يطمح لإستمالة القبائل العربية أكثر من طموحه إلى دخول فريش في الدين الإسلامي طواعية . وهذا فعلا ما حدث بالضبط ، وهو ما حصل بعد صلح الحديبية الذي سنأتي لذكره ، وفتح مكة الذي كان بالقوة . فطبيعي أن يكون ثمة إشارات إجابية من طرف النبي للقبائل العربية ، كما حدث هنا أو في مواقف أخرى ..
وساق ابن هشام أشياء كثيرة عن لباس الإحرام في الجاهلية نورد منها " فكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقى ، فحملوا على ذلك العرب ، فدانت به ، ووقفوا على عرفات وأفاضوا منها ، وطافوا بالبيت عراة ، أما الرجال فيطوفون عراة ، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعا مفرجا عليها ، ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها من الحل ألقاها "
وروى ابن هشام رواية غريبة تستدعي التأمل عن جبير بن مطعم قال : " لقد رأيت الرسول ، قبل أن ينزل عليه الوحي ،وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم منها توفيقا من الله "
أي أن مخالفة شعائر الحج لقريش من طرف النبي كانت قبل الوحي !! إن فهم هذه الإختلافات المشار إليها عابرا في التاريخ الإسلامي لبعض ممارسات الرسول قبل الوحي أو بعض معاصريه ربما ستوضح الكثير من الأشياء الغائبة المدفونة في الموروث الإسلامي ..
ويقول ابن هشام في مقطع بعنوان " البراء بن معرور وصلاته إلى الكعبة " : " ... وكان كعبا ممن شهد العقبة ، وبايع الرسول قال : خرجنا في حجاج قومنا من المشركين ، وقد صلينا وفقهنا ، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة ، قال البراء لنا ياهؤلاء ، إني قد رأيت رأيا فوالله ما أدري ، أتوافقونني عليه أم لا ، قال قلنا : وما ذاك ؟ قال قد رأيت أن لا أدع هذه البنية مني بظهر ، يعني الكعبة ، وأن أصلي إليها ... قال فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة ، حتى قدمنا مكة ... قال فخرجنا نسأل عن الرسول ، وكنا لا نعرفه ولم نره من قبل ..قال : فدخلنا المسجد ، فإذا العباس جالس ، والرسول جالس معه ، فسلمنا ...ثم قال له البراء بن معرور : يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا ، وقد هداني الله للإسلام ، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر ، فصليت إليها ، وقد خالفني أصحابي ... فقال الرسول : قد كنت على قبلة لو صبرت عليها "
من الواضح من هذه الرواية أن هناك من استقبل الكعبة قبل النبي سواء في الإسلام أو في الجاهلية كما هو حال زيد بن عمرو بن نفيل ، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال حول مصادر العبادات ، وأن نقول بأن استبدال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كان تكتيكا سياسيا بامتياز ، بل قام به البعض قبل أن ينزل الوحي بشأنه .
ويواصل ابن هشام حكاية تحويل القبلة إلى الكعبة : " ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة ، وصرفت في رجب على رأس 17 شهرا من مقدم الرسول المدينة ... "
وسنتحدث عن هذا الموضوع لاحقا لأنه يطول شرحه وتمحيصه هنا ، لكنه لا يمكن لأحد إنكار أن فرض الصلوات الخمس كان في المدينة ، وهو ما يعني أن الإسراء والمعراج كان في المدينة !! لأن فرض الصلوات الخمس كما يروون كان خلال الإسراء والمعراج !! وقد انتبه المؤرخون لهذا التناقض ، لأنه سيق الإسراء والمعراج على أساس أنه كان في مكة ، وجاءت الحكايات لتروي المجريات والسرد بخصوص الإسراء والمعراج في مكة ، حتى قال البعض أنه حدث الإسراء والمعراج مرتين !! وسنخصص للواقعة موضوعا منفصلا . حيث إن كان الإسراء والمعراج حدث في مكة ، كان من اللازم أن تكون الصلوات الخمس فرضت في مكة بعد عودة النبي من الإسراء والمعراج ، علما أن كتب التاريخ والسيرة والحديث تقول أن فرض الصلوات الخمس كان في المدينة !!! فإن قالوا لنا إن الإسراء كان في مكة ، قلنا لهم : إذن ، فالصلوات الخمس فرضت في مكة . وإن قالوا لنا أن الصلوات الخمس فرضت في المدينة بشهادة المصادر التاريخية ، قلنا لهم : إذن ، فيجب أن يكون الإسراء والمعراج في المدينة !! وهذا ما يناقض المصادر التاريخية والقرآن الذي يقول أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أي بشهادة قاطعة عن حدوث الإسراء والمعراج في مكة . فلماذا يقولون أن فرض الصلوات الخمس في المدينة ، والمعروف أنها كانت في الإسراء والمعراج ؟؟؟
ثم يتحدث ابن هشام عن عمرة القضاء التي قام بها الرسول قائلا : " وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه في عمرته تلك وهي سنة سبع ، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه ، وتحدثت قريش بينها أن محمدا وأصحابه في عسرة وجهد وشدة .. قال : صفوا إليه عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه ، فلما دخل الرسول المسجد اضطبع بردائه ، وأخرج عضده اليمنى ، ثم قال : رحم الله امرأ أراهم اليوه من نفسه قوة ، ثم استلم الركن ، وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه ، حتى إذا واراه البيت منهم ، واستلم الركن اليماني ، مشى حتى يستلم الركن الأسود ، ثم هرول كذلك تلاثة أطواف ومشى سائرها ، فكان ابن العباس يقول : كان الناس يظنون أنها ليست عليهم وذلك أن الرسول إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم ، حتى إذا حج حجة الوداع فلزمها ، فمضت السنة بها "
هذه قصة الهرولة التي تكون في الحج كما ساقها العلماء المسلمون كسنة . فالهرولة حسب رواية ابن هشام كانت لتمويه المشركين وإدعاء القوة ومباهاة القرشيين الذين كانوا ينظرون للنبي وأصحابه ، حتى إذا تواروا عن المشركين أخذ المسلمون أنفاسهم ولم يهرولوا !! ثم إذا وصلوا إلى المكان الذي يراهم فيه المشركون بدأت الهرولة مرة أخرى . أليس هذا نفاقا في الحج حسب رواية ابن هشام ؟ هل المسلمون كانوا يتعبدون إلى الإله أم يتباهون ضد قريش !! ...
وكان حسب الصلح المبرم بين قريش والنبي أن الرسول سوف يقيم تلاثة أيام في مكة فقط ، فعندما انقضت تلك الأيام جاءه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش لنبي لتذكيره أن أيامه المتفق عليها قد انقضت .. لنسمع القصة من سيرة ابن هشام : " ... فقالوا له : إنه قد إنقضى أجلك ، فاخرج عنا ، فقال النبي : وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم ، وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه ، قالوا : لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا . فخرج الرسول وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة ، حتى أتاه بها بسرف ، فبنى بها الرسول هنالك ... "
ونعود لبعض الكعبات التي أمر الرسول بهدمها حيث يقول ابن هشام : " ثم بعث الرسول خالد بن الوليد إلى العزى ،وكانت بنخلة ، وكانت بيتا يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها ، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من بني سليم ... "
وتسترسل حكايات ابن هشام كألف ليلة وليلة حتى يصل بنا إلى حادثة فنح مكة حيث يقول : " وحدثني بعض أهل العلم أن الرسول دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم ، فرأى إبراهيم مصورا في يده الأزلام يستقسم بها ، فقال قاتلهم الله ، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ...ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست .."
ما أريد الإشارة إليه هو صورة إبراهيم التي جاءت من الوثنية وعرفه النبي أنه الصورة نفسها لإبراهيم ، هذا يعني من ناحية أن رسام قريش كان يعرف صورة إبراهيم !! ما دامت قريش أعادت بناء الكعبة عندما كان يبلغ النبي 35 سنة . إذن ، فالرسام هو من قريش . أما تأكيد النبي على أن الصورة المرسومة هي لإبراهيم
فهذا بدوره يؤكد أن الرسام كان عبقريا جدا ويعرف وجه إبراهيم جيدا رغم كل السنوات الكثيرة !!
حادثة غريبة ومريبة توضح حجم الصراع بين المساجد والبيوت حتى داخل الإسلام نفسه ، يقول ابن هشام : " ثم أقبل الرسول حتى نزل بذي أوان ، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فقال : إني على جناح سفر وحال شغل ، ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه . فلما نزل بذي أوان ، أتاه خبر المسجد ، فدعا الرسول مالك بن الدخشم أخ بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي ، أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلان ، فقال : إنطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه ... ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه ... "
حقيقة ، لا أنوي التعليق كثيرا على الحادثة ، الحادثة التي لو كتبنا فيها عشرات المؤلفات لما وفيناها حقها من التمحيص . لا يسعني القول هنا إلا " هذا نموذج صارخ للمعنى الحقيقي للتسامح والأخلاق !!! ، أتيت بالحادثة هنا فقط لإلقاء الضوء على التنافس بين بيوت الإله !!!
وقد أشار ابن هشام حين حديثه عن وفد ثقيف إلى النبي للتفاوض معه حول إسلامهم حيث يقول مثلا : " ولما قدموا على الرسول ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده ، كما يزعمون ، فكان خالد بن سعيد بن العاص ، هو الذي يمشي بينهم وبين الرسول ، حتى اكتتبوا كتابهم ، وكان خالد هو الذي كتب كتابهم بيده ، وكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند الرسول حتى يأكل منه خالد ، حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم ، وقد كان فيما سألوا الرسول أن يدع لهم الطاغية ، وهي اللات ، لا يهدمها 3 سنين ، فأبى الرسول عليهم ، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم ، حتى سألوا شهرا واحدا بعد مقدمهم فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى ، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يتسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام ، فأبى الرسول إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها ، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة ، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم ، فقال الرسول : أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه ، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه . فقالوا : يا محمد ، فسنؤتيكها ، وإن كانت دناءة "
لا تعنينا في هذه الحكاية كيفية تفاوض الوفود مع النبي على إسلامهم ! وطريقة اعتناق القبائل له ودخولهم في الدين الجديد ، بقدر ما يعنينا وجود بيوت منتشرة في شبه الجزيرة العربية كبيت هبل أي كعبة مكة ، بل حتى وبعد مفاوضاتهم للدخول في الإسلام امتنعوا عن هدمها بأيديهم كما حدث مع وفد ثقيف ...
لنر بعض الأحداث الأخيرة بعد سيطرة الإسلام على مكة ، حيث يورد ابن هشام إرسال النبي لعلي إلى الحج: "... والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر ، قام علي بن أبي طالب فأذن بالناس بالذي أمره به الرسول فقال : أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند الرسول عهد فهو له إلى مدته ، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم أو بلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند الرسول عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته ، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان ... ثم ذكر قريش : إنا أهل الحرم ، وسقاة الحاج ، وعمار هذا البيت ، فلا أحد أفضل منا ، فقال : إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ... ثم قال تعالى : - أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله - "
وفي معرض ذكر ابن هشام ما نزل في الأمر بقتال المشركين قال : " ... ثم القصة عن عدوهم ، حتى انتهى إلى ذكر حنين وماكان فيه ، وتوليهم عن عدوهم وما أنزل الله من نصره بعد تخاذلهم ، ثم قال تعالى : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ، وإن خفتم عيلة .. " وذلك أن الناس قالوا : لتنقطعن عنا الأسواق ، فلتهلكن التجارة ، وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فقال الله : وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله .... "
كل الروايات أجمعت أن قريش والمشركين واصلوا الحج بشعائره مع المسلمين إلى غاية حدوث الخطبة التي ذكرناها سالفا . حينما سيطر الإسلام على الكثير من القبائل العربية واستطاع فرض شعائره وبدأ في محو معارضيه ، كما تغيرت نبرة الخطاب من الجدال بالحسنى إلى الحسم المباشر بالسيف ... الرواية أعلاها توضح الهاجس الإقتصادي للحج أيضا والذي كان لزاما أن يتحدث فيه القرآن ، حيث نزلت الآية التي ترسل الطمأنينة إلى المسلمين وأنهم سيصيبهم الغنى من الله بعد حجاجهم للنبي على أن التجارة ستبور وتتناقص بعد حرمان المشركين من حضور الحج ...
بخلاصة عامة فإن كل شعائر الحج من طواف حول بيت كان بداخله الإله الوثني هبل كما كانت اللات في بيتها ، وتلبية وسعي بين الصفا والمروة وهو سعي بين صنمي إساف ونائلة كما أشرنا في المقال السالف ، وتحليق للرأس ورمي بالحجارة وذبح للبهائم وأشهر حرم... هي كلها شعائر من الجاهلية مع بعض الروتوشات الفنية . وذلك بشهادة سيرة ابن هشام وكتب السيرة الأخرى المختلفة ومصادر التاريخ ... بل يمكننا أن نقول أن سيرة ابن هشام من السير الأقل تناقضا في تاريخ الرسول ، والأقل كشفا للفضائح الإسلامية في شبه الجزيرة العربية ، ولذلك اخترناها لتقديم موضوعنا عن الكعبة ، فلو اخترنا مثلا مؤلفا آخر لجاحدونا أنهم لا يؤمنون بهؤلاء المؤرخين وأنهم يحتكمون إلى سيرة ابن هشام !!! كما أنني لم أذكر إلى القليل من الروايات مما ورد في السيرة ، والتي تكشف تناقضاتهم ، إذ أحتاج إلى كتابة كتاب في هذا الباب بخصوص الحج استينادا فقط على سيرة ابن هشام ...
فإن كانوا لم يتمكنوا من قراءة السيرة النبوية لابن هشام من قبل فتلك مصيبة عظيمة وجهل وعار كبيرين ، وإن كانوا تفحصوها ، ويكذبون على الشعب محاولين تغطية الشمس بالغربال ، فتلك مصيبتين .
أما إن رفضوا ما أخذناه عن سيرة ابن هشام فإننا نرفض ما يأخذونه منه . فكيف يرفضون ما يوافق هواهم وينكرون ما يكشف فضائحهم ، ثم يأتوننا مهللين بحكايات من نفس سيرة ابن هشام .
كما أننا نوافقهم إذا أرادوا تشطيب سيرة ابن هشام من السير النبوية ، لكن المؤسف أنهم سيجدون أنفسهم أمام سير أخرى أكثر فضائحية !!! ونحن ننتظر أن يقولوا لنا مصادرهم حتى لا يمارسوا التدجيل المعرفي على الشعب بسلطاتهم وكوكتيلهم الذي يجمعونه من هنا وهناك ، على أساس أن يلتزموا بالأخبار التي وردت فقط في الكتب التي قبلوها . فإن قالوا لنا أنهم يؤمنون مثلا فقط بالقرآن والبخاري ، فليلتزموا بأن لا يأتوننا فيما بعد بأحداث ووقائع خارج هذين المصدرين ... ونحن مستعدون أن نأتيهم بعشرات المصادر التاريخية التي تكشف فضائحهم في شبه الجزيرة العربية ونحيلهم عليها لقراءتها ...
وأخيرا ، أريد أن أطلب من المتلقي أن يقرأ سيرة ابن هشام التي اعتمدتها هنا ، والتي حققها مصطفى السقا الأستاد بكلية الآداب جامعة القاهرة ، وإبراهيم الأبياري مدير إدارة إحياء التراث القديم ، وعبد الحفيظ شلبي مدير المكتبات الفرعية بدار الكتب المصرية ، وهي في طبعتها الثانية . وهذا وحده كفيل بأن يتعرف المتلقي على بعض التاريخ المدفون للتراث الإسلامي .
وللإستئناس قراءة كتاب " أعلام النبوة ، الرد على الملحد أبي بكر الرازي " لصاحبه أبو حاتم الرازي ، عن دار الساقي بالإشتراك مع المؤسسة العربية للتحديث الفكري في طبعته الأولى 2003 ، وكتابي السيرة الفلسفية ، والطب الروحاني لأبي بكر الرازي ، للإطلاع على التفكير العقلاني عند بعض العلماء في فجر الإسلام ، وكيف تعرضوا للهجوم والتشنيع من طرف الفكر الإقصائي ...
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.