إن التخلف الشامل والبعيد الذي دخل فيه المسلمون والتطور الواسع والكبير الذي شهدته الحضارة الغربية، يجعلنا نتساءل عن السبل العلمية والعملية التي تبين للآخر حقيقة الإسلام، وتقنعه بضرورة هذا الدين في الحضارة العالمية اليوم. ولمعرفة الوسائل الناجعة لإقرار دين الإسلام وتقريبه من الآخر علينا أن نقف على العلل التي كانت وراء نفوره منه. يأتي على رأس هذه العلل سوء التقديم، قال د.طه عبد الرحمان:"إذا كان الحكام والمفكرون قد أساءوا تقديم الإسلام من حيث كونهم يظنون أنهم يحسنون هذا التقديم حتى صار عند مخاطبهم أشبه بالنافلة التي لا تنفع منه بالفرض الذي ينفع، فإن الفئة المعارضة لهؤلاء الحكام وهم زمرة ممن دعوا ب"الأصوليين" قد أساءوا تقديم الإسلام من حيث يظنون أن هذه الإساءة مطلوبة، لأن المخاطب عندهم عدو والعدو لا هوادة معه، حتى صار الإسلام في عين هذا المخاطب نقمة عالمية يجب استئصالها لانعمة إلهية يجب الإنتفاع بها. وما أغنى العصر عن دين هو في أحسن الأحوال نقمة لا ترحم... إنها الصورة التي رسمها المسلمون عن قصد أو عن غير قصد للآخرعن دينهم في أواخرالقرن الماضي، وهي التي يستعد الغرب أن يستثمرها في عهد العولمة بما يزيد من قوة برهانه وسلطانه.. نفهم من هذا النص أنه لا جدوى من تقديم كل القيم، وأنه ينبغي أن نقدم للآخر من القيم ما يفتقده حتى يحس بالحاجة إليه، ولن يحس بالحاجة إلى قيم الإسلام إلا إذا كانت هذه القيم تصحح القيم المادية التي نشأ عليها، وتعلوعليها، وهذه القيم الروحية الخالصة التي لن يسعه في سياق طغيان ماديته إلا الأخذ بها والتمسك بقوتها. بعد هذه التوطئة يفور السؤال التالي: هل تركز الأصوليات المعاصرة أو بعضها على الجانب الروحي، وعلى فرض أنها ركزت، فهل أحسنت تقديمه بشكل يجلب الإطمئنان إلى المخاطب، ويحقق التجديد لأنسنته؟ للجواب على هذا السؤال نورد فقرات من الحوار الذي أجراه فرانسوا بورغا François BURGAT مع ذ. ياسين في أكتوبر 1987 وقد تضمنه كتابه: "L'islamisme au Maghreb la voix du sud" ف.ب: ماذا عن الله تعالى؟ ع.ي: إنكم أنتم المراقبون من الخارج لا تدركون وأنتم تقرأون نتائج الإسلاميين... وتحللون خطاباتهم سوى الجزء البارز من الجبل الجليدي العائم، وهو الشيء المشترك الذي يمكن رؤيته مباشرة... أي فضح الهيمنة الثقافية الغربية.. وفضح فساد تدبير الأمور، ووجود هذا الظلم الإجتماعي.. أما الباقي المضمر والمتمثل في هذه الروحانية وهذه الإنابة إلى الله موجود بالنسبة لنا نحن الذين لم يطمس فينا كلية العضو الروحاني وهو الأمر الذي يجمعنا. إني ألاحظ أنكم تسرون وتوقعون بعناد على الجانب المادي وأنكم أكثر من غيركم متأثرون بهذه الجدلية المادية التي يمثلها الغرب، اعترف بذلك أو لم يعترف.إنكم لا تزعمون أنكم ماركسيون، لكنكم تصرون على جعل كل شيء نسبيا بإزاء هذا المطلق الذي هو عندكم: الجدلية الإجتماعية والجدلية بين الغرب والشرق.. ف.ب: وماذا عن الإسلام؟ ع.ي: إن الإسلام بوصفه دينا لا يعدو أن يكون عاملا تكميليا لا يشكل عمق المشكلة ولا جوهر المسألة..وأنا يمكن أن أقول لكم: إن ما يجمعني بهؤلاء الناس..أمامكم ليس هو التعبئة الإديولوجية باسم الإسلام لمحاربة أولئك الذين ينكرون شخصيتنا وأصالتنا..وخصمنا التاريخي..بقدرما هو تعلقنا بالله عز وجل. أقرأ في مقالاتكم تحليل رجل غربي قح يتعاطف مع الإسلامية ..هذا نعم..فالإسلام يوصي لكم بالود، لكن بالنسبة لكم تبقى تلك المنطقة الروحانية بداية مغلقة عن طواعية. إنكم لا ترغبون في النظر إليها ولا تريدون رؤيتها، وإني لأجد فعلا نقائص أولئك المثقفين الذين يجعلون اللعبة تجري لصالح وجهة نظرهم من غير اعتبار وجهة نظر الآخرين، وهذا ما يجعلهم يأخذون بهذا التأويل الذي أراه..سطحيا والذي يتعلق بتفسير الظاهرة الإسلامية بحتميات اقتصادية وسياسية. وأتذكر جملة قالها ج. فرانسوا كليمون الذي تستشهدون به وهي: لكي يكون المرء إسلاميا يجب أن ييأس من الوضع الإقتصادي وأن يكون منعدم الإمكانيات والمنافذ..ان يكون بشكل من الأشكال قانطا. وإني أرى أن هذا التفسير ..لايعير العامل الداخلي.. أي اعتبار، فالناس لا يلجأون للإسلام للتعويض عن همومهم الإجتماعية، بل للإستجابة لنداء له صدى بعيد في أعماق الروح الإنسانية، ولست أعرف الحادثة التاريخية أو السوء الذي به ضيع الرجل الغربي هذه الملكة التي تسمح بإدراك الأشياء الروحانية ..فلم يبق في حوزته إلا العناصر الوحيدة للتحليل الإقتصادي والسياسي والإجتماعي.. التحليل الأرضي- إن صح التعبير- كل شيء بالنسبة لكم هو عمل غربي ثم رد فعل من الدول المتخلفة في سبيل إيجاد لغة للمعرفة وأدلوجة. وهو المطلب الذي وجدته جاهزا في العقيدة الإسلامية التي تمثل بناء صلبا ..تمتد جذوره في الشعب. إذن فقد وجد الشيء الذي تمثله الإسلاميون لمحاربة الغرب، ولا في النية تجاوزه ونفيه من أجل استرجاع ما استرجعه الغرب نفسه كإنجازات مادية.. ولكم هنا تعبير جميل تقولون: الغنيمة التكنولوجية. ف.ب: لا نقول مأدبة ولكني أستعمل العبارة في سياق مغاير قد يكون قريبا من تحليلكم. ومهما يكن من أمر، فإن البعد الحضاري التحليلي في الكتاب سيلطف بتعليقاتكم التي ستعبر عن نفسها في صورتها الخام. ع.ي: هذا أحسن وبذلك سيكون كتابكم أجود..إن استطعتم أن تضعوا هذه المواجهة بين الغرب والإسلام في مستوى كوني..وليس في مرحلة تاريخية معينة، ولكن على مدى المسيرة الإنسانية الطويلة .ان الغرب فقد دينه ..إنه تنكر لدينه الذي لم يبق له منه إلا الذكريات، فالفاتكان موجود دائما والبروتستانية لا تزال راسخة، لكن الثقافة العلمانية والمادية هي المسيطرة عندكم في حين ملاك الأمر عندنا هو هذا السؤال الأساس: هل الله موجود أم لا؟ وحرصا منا على إزاحة التعقيدات الثقافية والمعرفية نقول: إن أسلم السبل لتقديم الإسلام للآخر تكمن في بيان قيمه الروحية وأنه جاء بالدين أعمالا مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها. إنه يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وبحكمة. إنها حقيقة الإسلام في أخص معانيه لا يغني عنه في ذلك دين آخر ولا يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدب ولا علم ولا فلسفة.. إنه دين يعلو بالقوة ويدعو إليها ويريد إخضاع الدنيا وحكم العالم ويعمل جاهدا لتحقيق ذلك لا لإعزاز الأقوى وإذلال الأضعف ولكن للإرتفاع بالأضعف إلى الأقوى، وفرق ما بين شريعته وشرائع القوة، إن هذه إنما هي قوة سيادة الطبيعة وتحكمها، أما هو فقوة سيادة الفضيلة وتغلبها، وتلك تعمل للتفريق وهو يعمل للمساواة، وسيادة الطبيعة وعملها للتفريق هي أساس العبودية، وغلبة الفضيلة، وعملها للمساواة هي أعظم وسائل الإنطلاق والحرية. (انظر وحي القلم، صادق الرافعي، 2/6 والعمل الديني وتجديد العقل، د. طه عبد الرحمان). وأرى أنه لتحقيق الإنطلاق والحرية والرفعة يلزم الإهتمام بتكوين العقل المسلم وتحريره من الكسل الفكري الذي غطاه قرونا ويلزم بالمقابل تغذية الروح وتجديدها قصد تجديد فكر الأمة الأصيل ومن تم التأسيس لأنموذج معرفي بديل يصلح لتصحيح الصورة التي رسمها الآخر عنا انطلاقا من واقعنا الراهن، ناسيا أو متناسيا أننا أصحاب ماض تاريخي وحضاري مجيد، وأهل تراث عظيم، ولنا رصيد قيمي كفيل بصناعة الفارق، وعندما نعقل ويعقل غيرنا هذه الحقائق، فإن تقديم فلسفة إسلامية تجعل الأصل في تجديد الأمة هو تجديد الإنسان، وتجعل الأصل في تجديد الإنسان هو تجديد الروح وتزكيتها أمرا يسيرا... وتجعل التقريب بين الشرق والغرب موضوعا هينا...