شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الديموقراطية في نظر عصيد
نشر في هسبريس يوم 20 - 08 - 2011

سنحاول في هذه الكلمة نقد الخطاب المتطرف للأستاذ أحمد عصيد كلائكي درج على التعاطي السلبي مع الإسلام كنظام من خلال نسف بعض الأفكار التي أتى بها إبان الندوة التي انعقدت في 16 غشت تحت عنوان " اليسار و الحركة الإسلامية : نقاش حول الحريات و الديموقراطية " و التي نظمتها ( ائتلاف الملكية البرلمانية الآن ) في نادي المحامين بالرباط . فالسيد عصيد لازال يعيد علينا أقوال منتَحلة و أصبحت لكثرة دورانها على ألسن اللائكيين لعبة تقليدية مكانها في متاحف المثقفين اللائكيين بين متون الكتب المتمردة على الإسلام ، و أنا أقرأ للأستاذ النابغة لا أجد أي فرق بين عقله و بين بقية العقول اللائكية المأسورة في تجريدات التحليلات المُعلبة بفكر " الأنوار " ، مثلهُ في ذلك مثل قوافل الفكر الجاف الذي طبعَ المنطق اللائكي منذ أن دخل بونابرت الأزهر بخيله و أصبحوا أليات ترديدية بعقلية متكلسة جامدة لا تقدر التحرر و التجديد في فلسفة التغيير ( كمال عبد اللطيف ، عزيز العظمة ، عبد الرزاق عيد ، أركون ، سمير أمين ،...) ، و لم نخطأ حينما ذهبنا بالقول في مقال ( عقل اللائكي ) أن تخبطات هذا العقل يجعل منه عقلا مختلطا يريد أن يؤسس لنسق دهري غير تداولي ينتمي إلى نمط ثقافي منفصلة عن شروط بيئته و يسعى إلى تنميط أشكال حضارية تحركت في إطارات محددة و وصلها بالأطر المغايرة بحجة المعيارية " الكونية " التي يتم التسويق لها في منتديات الفكر المتغرب .
ما نلاحظه على الأستاذ عصيد في تكوينه النفسي أنهُ يتقمص الأستذة و يتحدث كما لو أن الآخرين يجهلون محفوظاته و أسطواناته المشروخة ، يناقش و في ذهنه صورة معيارية لما ينبغي أن يكون عليه التصور السياسي و يهجم و هو يجهل كتابات الإسلاميين . ينتقد و في خياله خطاب "كوني" ينبغي للجميع أن ينتظم تحتهُ ، عَقل متضخم بنزعة تجريدية هي من بلاوى الجدل الجاف و مماحكات اللائكيين ، يتصور الحقيقة تحت أحضانه لا يفارقها البتة و يرسل شواظ من نار لمن يخالفه و يعانده .
في ندوة " اليسار و الحركة الإسلامية " تلاحظ الجميع يتحدثون بأدب و احترام و يناقشون باستحضار الآخر المختلف معه في وقت يسعى الفرقاء لرأب الصدع و توحيد الرؤى ، في حين يتحدث الأستأذ عصيد كما لو أنه مالكا للمعرفة بنبرة استعلائية تضخمية تعيدنا إلى عقليات الاستئصال و احتقار الآخرين رغم شعارات لائكية صكت آذاننا كثيرا حول احترام الآخرين و الاعتراف بنسبية الحقيقة .
يعيد الأستاذ عصيد علينا تهما مُحنطة بخصوص موقف الإسلاميين من الديموقراطية و الحريات كما يتصورها روادها في كتاباتهم ، يحاول عبثا أن يجد رابطا بين الاستبداد السياسي للدولة و تصورها للديموقراطية و بين مقاربة الإسلاميين لموضوع الديموقراطية ، فيقرر أن الإسلاميين قد أخذوا بالذهنية التي أنتجتها الدولة المستبدة و التي تقضي بأن تصويت الأغلبية العددية على الدستور كفيل بالحكم عليها بالديموقراطية ، فكذلك الإسلامي غدا في نظره يقول أن الديموقراطية هي ما يريده الأغلبية فتصبح عندهُ الديموقراطية عند الإسلاميين هي ديكتاتورية الأغلبية العددية ( أجي تشوفو أشنو بغاو الشعب ) ، و في هذا تفصيل و مناقشة :
أولا ، نُذكِّر أن في عرف الديموقراطيات الحديثة أنها لا تتحدث عن ديكتاتوريات الأغلبية العددية ، فهذه بدعة تافهة رددها من قبله فؤاد زكريا إبأن المناظرة الشهيرة التي جمعته مع الدكتور يوسف القرضاوي و محمد الغزالي و التي رد عليها القرضاوي بكتاب مستقل معنون ب ( الاسلام و العلمانية وجها لوجه) ، هل الأستاذ عصيد يريد لنا أن يفصِّلَ لنا مقياسا للديموقراطية يناسب الرأي المعياري عنده ؟ أم يريد أن يعبر عن انفلاته من ورطة الارتباط بالمعنى الغربي المحدد للديموقراطية ؟ منذ متى أصبح يشترط في الغالبية المصوتة مثلا الاعتبار الكيفي و رفض الاعتبار الكمي العددي ؟ أم أن عصيد يحاول أن ينزع الشرعية عن تصويت الأغلبية على الإسلاميين باعتبارها لا تعبر عن فلسفة الديموقراطية ؟ هل طعن حزب ما في شرعية فوز أغلبية ما لعدم استيفائها لشروط الديموقراطية ؟ أي معنى للديموقراطية يريد عصيد أن يسوقها للناس ، فعلى الأقل أن يكون المريد وفيا لشيخه الغرب في التلمذة .
ثانيا : الأستاذ يخلط عن قصد بين ديكتاتورية الأغلبية العددية المصوتة على الدستور( و هي أصلا لم تصوت ) و التي أنتجتها الدولة عبر التزوير الممنهج و بين خطاب الإسلاميين في مقاربتهم للديموقراطية ، فالأولى هي أغلبية مُفتعلة مصنوعة لشرعنة القرارات السياسية و الثانية تؤمن بأن صناديق الاقتراع صاحبة الفصل في مسألة الشرعية و أن الأغلبية التي تفرزها عمليات التصويت هي من تكون مؤهلة لقيادة المجتمع بعون الشعب شرط أن تمر من قنواته التنظيمية دونما استعمال للمال الحرام أو تزوير للإرادة الشعبية ، فالخطاب الإسلامي لبساطته لم يعد يطرح إشكالا إذا كنا نثق بقيادات الحركات الإسلامية و كتبهم العلنية ، فكل التوجهات الإسلامية تنزع لاحترام الاختيار الحر للشعب و الاعتراف بالنتائج التي تفرزها الصناديق ، و إذا كان الأستاذ يذهب بكون أن أغلب التنظيرات الإسلامية تؤمن بأن الديموقراطية هي ديكتاتورية الأغلبية العددية و لم يذكر لنا واحدة منها فإنهُ يمهد بذلك بدوره لديكتاتورية أخرى تحرم الأغلبية من حقها في تمثيل من تراها جديرا و تضع ديموقراطية في يد أقلية تتصرف في رقاب أغلبية ، و لا أدرِ هل خفي على الأستاذ أن الحركات الإسلامية على اختلاف توجهاتها لم تقل يوما أنها تقبل الأغلبية على طريقة الاستفتاءات العربية الخادعة ؟
ثالثا : الأستاذ عصيد و هو يتحدث عن الديموقراطية لا يختصرها في آليات إجرائية بموجبها يتم حفظ السلطة من الاستبداد ، و إنا ينتصر لروحها القديسة اللائكية و يعتبر أن الديموقراطية لا تتم إلا بعد بث قيم و تربية يتم فيه إعداد المواطن " ليعيش الديموقراطية بشكل طبيعي " . فهو يمارس تسلطا فكريا و يصادر الآخرين في حقهم في تحديد نمط التربية التي تعد المواطن ليعيش مع الديموقراطية ، فيضع نفسه مرة أخرى معيارا و حكما و لا يترك للمختلف معه أن يرسم معالم القيم التي تكوِّن الفلسفة الديموقراطية . على أن عصيد إذ يتعامل بصنمية بالغة مع التصور الغربي للديموقراطية تجده محتشما في تعامله مع معيارية الأغلبية في الوطن العربي لخوفه من أن يكتسح الإسلاميون الصناديق كما اكتسحوها في العديد من المواقع . و حينما كشف عن ازدواجية معاييره راح يلعب بأوراق أخرى ملَّ المسلمون من اعادة ترانيمها المنحلة : الحرية ، الكلمة السحرية التي يختبأ ورائها اللائكي و يواجه بها من وراء جدر، فعصيد لازال يواجه بأسلحة متصدأة تقوم على اللعب بالكلمات و تختبأ تحتها عالم آخر من التحلل و الشرود القيمي و الانخلاع الديني و التأله الذاتي ، يتحدث عن الحرية كما يريدها أن تكون مفصولة عن الالتزام و القيم ، يتحدث عن التربية الإعدادية و في عقله تربية لائكية غازية ، أراد مرة أخرى أن يكون معيارا للحرية تماما كما أراد أن يحسم بروتاغوراس في ماهية الحقيقة بالقول إن الإنسان مقياس كل شيء ، عالم مستبطن في خطاب اللائكيين و إن أحجموا عن الإفصاح عنه في منتديات النقاش الحر . لكن دعونا نقلب الصورة التي رسمها الأستاذ و نضعها أمام السكة السليمة كما يلي :
إذا كان الأستاذ يشترط اللائكية لحضور الديموقراطية كفلسفة بدعاوى " الكونية " الغازية أفلا يُعد هذا قضاء على الديموقراطية بصفتها ضامنة للحريات ؟ ألا يعطي للآخر الحق في اشتراط الشورى في الديموقراطية لتستوفي معاني الانتماء للمجال التداولي ؟ كيف يجيز الأستاذ تحديد طبيعة التربة المطلوبة و هو أصلا مكوّن من تربية لائكية دخيلة ؟ أيجوز في عرف الديموقراطيين التحكم باختيارات الشعوب في موالاة من ترشحه للقيادة ؟ ثم دعونا نسأل و نصارح : ماذا لو قلنا من جهتنا أن الاستبداد الذي أنتج ذهنية تقبل "ديكتاتورية الأغلبية العددية" هو نفسه الذي أفرز عقلية لائكية شاذة تقبل بديكتاتورية الأقلية ؟ فالاستبداد عندنا ليس معزولا مطلقا عن عقليات الاستئصال اللائكية و ليس مرتبطا بالضرورة "بالدولة الدينية" لأن اللائكية ببساطة ليست مفهوما عقلانيا يحترم الآخرين و إنما مرجعية دهرية لها رؤية لمسار الحياة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية تجعل " العقل المجرد " حاكما في كل شيء ، فهو عقل يغتصب لنفسه كل الصلاحيات و يقدم نفسه بديلا عن كل شيء ، و لا داعي لاستظهار المحفوظات حول كون اللائكية نزعة علمية تحترم الأديان و تلتزم الحياد و أنها الحل الوجيه للخلافات العقدية و التيارات الدينية المختلفة ... فنحن في زمن لم نعد نهتم كثيرا بالبلاغة السفسطائية و الإيحاءات الماكرة بقدر ما نسبر أغوار المفاهيم و نحلل أصول الخطاب اللائكي في تكوينه البنيوي و ارتباطاته اللادينية ، فإذا كان و لا بد من نقد للذهنيات التي أفرزتها سياسات التبعية للعقل اللائكي الغربي فأولى لنا أن نبطل ذهنيات الإلحاق الاستبدادي التي تحاول أن تعزل نفسها عن استبداد النظم اللائكية .
لا أدر هل يقرأ الأستاذ عصيد كتابات الإسلاميين المغاربة و المشارقة و اجتهاداتهم المتنوة في شأن العلاقة بين الإسلام و الدولة ، فيبدو لي أنه يتحدث كما لو أنه يخاطب عالما يسكنه جون لوك و روسو و مونتسكيو و هوبز ، يلوم الآخرين حينما يضعون الإسلام مرجعية عليا في التدبير النسقي لقضايا الدولة و المجتمع و لا يلوم نفسه حينما يجعل اللائكية و " القيم الكونية " مرجعية يتم بموجبها تصريف الفعل السياسي ، يشترط في الديموقراطية الحقة أن تكون العقل الإلهي الذي يدير الشأن العام و ما تحته لواحق و هوامش ، يقرر بوقاحة أن أي ارتباط بين الإسلام كنظام بهرمية الدولة هو تعبير عن " نسق استبدادي " محدد فأعاد علينا من جديد المعيارية التقليدية البائسة التي حلم بها رواد التغريب الثقافي و تلامذة مدارس التبشير المسيحي ، تلك الاسطوانة الاستعمارية التي وأدوها مفكري الإسلامي في الشرق الإسلامي و أهالو عليها التراب بمنطق الرد العلمي و التحليل التاريخي ، لسنا هنا بصدد إثبات الصلة البنيوية بين الدولة و الإسلام لأنني أعتقد أن الخطاب الإسلامي الآن أقوى من أن يصير سجين الردود الانفعالية السطحية التي اتسمت بها كتب اللائكيين و مناظراتهم الهزيلة ، و إنما نناقش مكونات عقل لائكي مُشبع بأساطير " الكونية " و فلسفات التعليب المصدَر ، لكن دعونا نسأل ونحكي عن الجد : إذا كان الأستاذ عصيد يرفض أن يكون الإسلام مرجعية عليا ناظمة للديموقراطية من منطلق أن الديموقراطية " لا تتحدد في إطار دين معين" فعن أية مرجعية تتحدث ؟ أعن مرجعية اللائكية التي تعادي ( نعم تعادي )الإسلام و تنزع نحو تشويه حقائقه و لا تأبه بنظمه و قوانينه التشريعية أم عن مرجعية أمازيغية – و هي براءة منه – تؤمن بالأعراف التاريخية كمحددات للفعل السياسي و التدبير الاجتماعي ؟ ألا يدر الأستاذ عصيد أن معظم الحقوق لا تُنال إلا بوجود الدولة الإسلامية و لذلك قال الأصوليون أن الدولة ثابتة بالاقتضاء ؟، فإثبات وجود الدولة الإسلامية لا تحتاج منا نحن مجهودا عقليا و دلائل شرعية و تاريخية ، لكن مع عصيد يريد للديموقراطية أن تكون فوق الإسلام حتى يتحول إلى قماش بيده يغسل به النجاسات الفكرية ؟ ليعلم الأستاذ أن الفكر الإسلامي المعاصر قد تجاوز خطاب اللائكيين حول مقاربتهم للديموقراطية و أصبح الحديث الآن عن منظومة القيم الإسلامية كبديل لقيم الأليكة التي حرمت الإنسان من شقه الروحي و انتقل فيه الحديث عن دولة الإسلام كنظام تدبيري إلى الحديث عن الدولة الإسلامية كدولة الإنسان ، أيتصور أن الديموقراطية جهاز كامل لا يحتاج لتعديل أو نظام علوي يضبط حركته و يصوب أحكامه ؟ فهل تقبل إن حكمت الديموقراطية بالأغلبية و بطرق نزيهة و شفافة و أمام مسمع و مرأى مراقبين دوليين بنسبة 51 بالمئة على إبادة الأمازيغ من الخريطة ؟ أم أنك سترفض لأن ذلك ضد الإنسانية و العقل ؟ حتما سترفض لأن الديموقراطية هنا هي ديكتاتورية تجاوزت القيم و المبادئ ، فالديموقراطية كآليات ليست مرجعية مطلقة و إنما تحتاج إلى نظام كبح يرسم لها حدود المعقول من اللامعقول ، و هنا تكمن إحدى مطبات العقل اللائكي حينما يراهنون بتبعية بئيسة على " المواثيق الدولية " و " حقوق الإنسان " و " قيم المواطنة " و يجعلون منها عنوانا عريضا يُساق إليها كل دول العالم خضوعا و انقيادا دونما نظر دقيق في الاختلافات الحضارية و الملابسات التاريخية المختلفة ، ثم من قال بأن الديموقراطية اللائكية على النحو الذي نشاهده في بلادها تضمن التعايش بين الأديان ؟ أترى أن الديموقراطية الفرنسية ساوت بين الأديان في موطنها و المسلمون فيها محرومون من مساجد العبادة حتى غدوا في شوارع البلاد يصلون ؟ أترى أن الحقوق لدى الجالية الإسلامية هي نفسها لدى أهل البلد ؟ أترى أن تعليق الرمز الصليبي في المؤسسات الرسمية يدانيه تمتع المرأة المسلمة بحجابها الإسلامي؟ لا حياد مطلقا لأن الديموقراطية لن تستطيع الانفكاك عن أصولها حتى لو ادعت ذلك ، أما الحديث عن تساوي الأديان من حيث قيمتها الإنسانية عند الديموقراطيين فوهم آخر يكذبُه التاريخ الحالي حيث أصبح "المؤمن" المسيحي من حيث الامتيازات و الحقوق أكثر بكثير من حقوق المؤمن الإسلامي حيث حُرموا من عدة حقوق حتى يستكمل مواطنته داخل البلد .
ثم تجد الأستاذ يهرف حين الحديث عن الخصوصية فيعتبرها إعاقة لمسار الديموقراطية ، و كأنه يريد أن يناطح الواقع المشهود له بوجود الخصوصية الثقافية و الدينية و التاريخية لكي يصل إلى قاعدة المعيارية اللائكية كناظم فوق الجميع و إلا فمن حقنا أن نسأل عن الأعراف الأمازيغية التي صك آناننا بها و ألحقها بالقيم "الكونية" عنوة ؟ لو تعارضت هذه الأعراف بالقيم اللائكية – و هي فعلا كذلك – فهل ستُلغى بدعوى عرقلتها عن مسار الديموقراطية أم تكون لديك الجرأة على نقد أصول القيم " الكونية " و ترفضها ؟ . و يبدو لي أن الأستاذ لم يقرأ شيئا عن معنى الخصوصية الحضارية الإسلامية كما أصلها مفكرين كبار أتمنى أن يفتح عقله ليقبل ذلك ( قضايا التنمية و الاستقلال في الصراع الحضاري للأستاذ منير شفيق و كتابات الدكتور محمد عمارة و طارق البشري و القرضاوي و فهمي هويدي و الشيخ محمد الغزالي ... و إذا كان الغرب قد جعل الدين شيئا فرديا تعلوه القيم " الكونية " فلأن ذلك لا يثير أي تناقض في الشخصية الغربية و لا يفرض أي مساس بالدين نفسه باعتبار الرسالة الروحية التي تحددت مهامه فيها ، بينما الدولة في المجتمع الإسلامي يكون علو قيم التغريب فيها انتهاك صارخ لمجال تطبيق الإسلام و لحق الأغلبية المسلمة في اختيار نظامها الشوري .
يبدو لي أن نزعة الأستاذ الإستئصالية للإسلام ( تماما كالدغرني ) لا تحدها حدود ، فهو يقاتل من أجل معركة خاسرة يلفضها الشعب بهويته و ثقافته ، و يعاند من أجل ثقافة متحللة من القيم الإسلامية تتحرر من كل ضابط و وازع أخلاقي و يفرض على الآخر بحد العنف الرمزي و التحليل الجاف ما يعتقد أنه الخلاص لمشكلة الاستبداد السياسي ، بل و يكيل التهم الجاهزة بعدم الاستعداد للحوار للآخر لمجرد أن هذا الآخر يقول بغربية الديموقراطية في تكوينها التاريخية و فلسفتها الفكرية ، يصبح عند الأستاذ من يشكك بغربية الشكل الديموقراطي طرفا غير مرغوب فيه للتفاهم : هذه هي العقلانية و الحرية و احترام الآخر عنده .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.