لم تجد فكرة تعميم اللغة الإنكليزية في الجزائر توافقاً عاماً بين أبناء البلد، وخلقت نقاشا موسعاً بشأن أبعادها، خاصة وأنها جاءت في ظل مشهد سياسي غير عادي يشهد نقاشاً حادا مرتبطاً بالهوية. تجارب الجزائريين كشفت عن ذلك. في قسم اللغة الانجليزية بجامعة الجزائر، يستعد الطالب فتحي ياسين لأن يودع آخر عهده مع شهادة الماستر في اللغة الانجيلزية، اللغة التي أحبّها وعشقها مذ كان صغيراً. ياسين، وفي حديثه ل"دوتش فيله عربية"، قال إن "اختياره لدراسة اللغة الانجليزية بجامعة الجزائر لم يكن صدفة"، بل عشقه لهذه اللغة التي وصفها ب "أم اللغات" هو الذي كان سبباً في قراره منذ فصول الثانوية على أن يتخصص في دراسة هذه اللغة على مستوى الجامعة، وبحث أسرارها وفك رموزها. حينما كنت صغيرا يتابع ياسين "تعلق قلبي وعقلي بالانجليزية بسبب تعلقي ببريطانيا كدولة عظمى وقوية، كان حلمي زيارتها ودراسة تاريخها، لذلك قررت أن أتعلم لغتها، وأن أتمكن فيها، وكان حبي لهذه اللغة أكثر في مرحلة الثانوي بسبب أسلوب الأستاذة التي كانت تدرسنا بطريقة رائعة لم نعدها سابقاً". فتحي ياسين طالب لغة انجليزية بجامعة الجزائر ومع مرور الزمن يضيف قائلا "اكتشفت أن الانجليزية ليست وسيلة سفر وتخاطب فحسب، بل هي أكثر من ذلك، هي مفتاح العالم، وأدركت أنها توفر لصاحبها فرصاً أكبر للعمل في مهن متعددة سواء داخل الجزائر أو خارجها". حديث ياسين عن حبّه وتعلقه باللغة الانجليزية يأتي في وقت تشهد فيه الجزائر نقاشاً واسعاً بشأن استبيان أطلقته وزارة التعليم العالي حول تعميم تدريس الانجليزية في الجامعات الجزائرية، وتشير نتائج الاستبيان الذي شارك فيه أكثر من 90 ألف شخص إلى غاية 17 يونيو الجاري إلى أن 94.4 % من المشاركين يؤيدون فكرة التعميم في حين رفضها نحو 5.6 % من إجمالي المصوتين. ياسين رحب كثيراً بفكرة تعميم اللغة الانجليزية بالجامعات الجزائرية، فهي لغة ثرية وممتعة، مؤكدا أن "موقفه هذا لا يعتمد على خلفية إيديولوجية أو تاريخية بل يعتمد على أسس علمية تؤكد أن الانجليزية أثرى وأعمق وأفضل بكثير من الفرنسية"، وأكثر من ذلك عبر ياسين عن أمنيته بالقول "أتمنى أن تنتهي الفرنسية وتزول من الجزائر، لأن الانجليزية فعلا لغة عريقة وحيّة، وهي أم اللغات دون منازع ". نقاش الهوية وإذا كان ياسين قد رحب بفكرة التعميم، إلا أن الفكرة لم تجد توافقاً عاماً بين الجزائريين، وخلقت نقاشا موسعاً بشأن أبعاد ودلالات هذه الخطوة، خاصة وأنها جاءت في ظل مشهد سياسي غير عادي يشهد نقاشاً حادا مرتبطاً بالهوية، وهو النقاش الذي يٌغَذَّى بالتنوع اللغوي للجزائريين، وبالوصاية اللغوية الفرنسية المستمرة في البلاد، وخلال الحَرَاك برزت شعارات متعددة تنادي بإنهاء الوصاية الفرنسية على البلاد، ومن ذلك إنهاء سطوة اللغة الفرنسية على الإدارة، ومناهج التعليم. بالمقابل يطرح خبراء ومتابعون العديد من الأسئلة بشأن إمكانية نجاح فكرة التعميم في ظل النظام التعليمي بالبلاد، وعمّا إذا كانت الخطوة براغماتية تفرضها الحاجة أو مجرد خطوة ايديلوجية فرضها الحَرَاك؟ قسم اللغة الانجليزية في جامعة الجزائر الدكتورة بسعي نسرين أستاذة اللغة الانجليزية بجامعة بوزريعة بالعاصمة الجزائر ثمنت فكرة التعميم، بحكم أن اللغة الانجليزية حسب حديثها ل"دوتش فيله عربية"، هي "لغة علم"، وخلافاً لما يُشاع، تؤكد بسعي أن "الانجليزية توسعت بشكل لافت بين الجزائريين على حساب اللغة الفرنسية التي تراجعت مكانتها بينهم"، ومؤشر ذلك تؤكد أن "العلامات المحصل عليها في امتحانات اللغة الفرنسية أقل بكثير من تلك المحصل عليها في امتحانات الانجليزية". غير أن تعميم هده اللغة في الوقت الراهن برأيها يواجه عدة تحديات وصعوبات "نظرا لنقص التأطير والإمكانات خاصة في الجامعات، إذ أن معظم الأساتذة الجامعيين يتقنون اللغة الفرنسية أكثر ودرسّوا بها لعدة سنوات مما يجعل تعميمها أمرا صعبا، خاصة في مجال العلوم". الدكتور عبد الحكيم بليليطة الباحث في اللغات الأجنبية والمفتش السابق في وزارة التربية والتعليم تساءل في حديثه ل"دوتش فيله عربية"، بقوله "هل المبرر لأنجلزة الجامعة هو مبرر براغماتي هدفه الاستفادة من اللغة، أم أنّ المبرر إيديولوجي نريد أن نواجه من خلاله لغة بلغة وضرة بضرة أخرى؟". ومن زاوية البراغماتية، يجزم أن "الحاجة للانجليزية هي مسألة ضرورة وليست مسألة اختيار في عالم اليوم، لكن هذه رغبة، والرغبة لا تتحقق بقرار ارتجالي، الأمر يحتاج إلى استراتيجية تبدأ من إعادة النظر في كيفية تقديم وتدريس اللغات الأجنبية في المدارس الجزائرية“. مقاربات التدريس ويمضي الدكتور عبد الحكيم بليليطة الباحث في اللغات الأجنبية إلى القول "تدريس اللغات بشكل عام في المدارس الجزائرية هو تدريس غير طبيعي، بدليل أن الذين يدرسون الفرنسية مثلا من الثالثة ابتدائي أو إعدادي إلى الثالثة ثانوي أغلبيتهم في نهاية المطاف لا يستطيعون تحرير جملتين مفيدتين، والذين يدرسون الانجليزية لسبع سنوات لا يستطيعون الجمع بين كلمتين سليمتين"، الأمر برأيه "لا يخص المتعلم، ولكن كيف نقدم له هذه اللغات؟". الحاجة إلى استراتيجيات جديدة وإدخال عنصر التكنولوجيا في تعليم اللغات الأجنبية حسب حديث بليليطة مسألة ضرورية لا نقاش فيها، لكن بشرط توفير الأدوات لذلك، أما إذا كانت المسألة ارتجالية وأن المسألة ظرفية أملتها ظروف ايديولوجية مرتبطة بالمستجدات السياسية فلا يعتقد أن المشروع سيذهب بعيدا. وبالمقابل تساءل عن جدوى تعميم اللغة في الجامعات دون تعميمها في المدارس الابتدائية، فلا يمكن حسب حديثه أن "ينجح المشروع بالذهاب رأساً إلى الجامعة دون بداية المشروع على مستوى الابتدائي والإعدادي"، ويتساءل مجددا "هل يعقل أن الطالب الذي يأتيك للجامعة وهو لا يمتلك الحد الأدنى من اللغة الانجليزية أن تؤنجلزه بهذه السرعة، فلا يمكن أن نعلمه اللغة في وقت يحتاج اللغة كوسيلة للبحث العلمي"، لذلك وجب برأيه مراجعة المناهج التربوية واعتماد مقاربات حديثة في تقديم اللغات الاجنبية. ما يحدث الآن في المدارس الجزائرية برأي بليليطة "طريق فاشل، ما يحدث هو أننا نكتسب اللغة عن طريق حاسة البصر لا حاسة السمع، وهو خطأ منهجي جسيم، لذلك يجب العودة إلى المقاربات التعليمية السليمة بدل إضاعة الجهد والوقت في طريق خاطئ بقرارات متسرعة وارتجالية.