عنوان هذا المقال ليس مجرد لعب بالكلمات أو تغيير لمواقعها، بغرض الإثارة أو التضليل؛ بل هو تعبير عن حقيقة ينبغي أن نتقاسمها جميعا، حتى يتأسس أي نقاش حول السياسة اللغوية ببلادنا على أرضية ثابتة تحسم في المفاهيم المؤثثة للموضوع. إن المواقف التي يعبر عنها كثير من المثقفين والمهتمين، بخصوص الجدل المفتوح حول موضوع تدريس العلوم على وجه التحديد، يطبعها تعسف إيديولوجي واضح، سواء كان ذلك عن نية مسبقة أو بسبب تشعب المسألة اللغوية وتعدد مساراتها. لنتفق أولا أن السياسة اللغوية في كل بلاد الدنيا تحكمها بالدرجة الأولى إشراطات هوياتية تعبر عن الخصوصية، وأخرى جيوسياسية تتأثر بالمحيط الإقليمي، وتفرضها التبعية الاقتصادية والثقافية والمستوى التداولي لهذه اللغة أو تلك. وهذا يعني أن الاختيار اللغوي هو قرار سيادي ينبغي أن تتخذه الدولة في إطار ميثاق اجتماعي يزاوج بين مطلب الحفاظ على الهوية (أو الهويات) الجماعية من جهة، وبين الحاجة إلى الانفتاح على الآخر والانخراط في ما هو عام وكوني. أما عندما تكون الخلفية الإيديولوجية هي المؤطرة والمتحكمة في هذا الاختيار، فإن ذلك سيؤدي حتما إلى تناقضات وتباعدات في المواقف تفرض المراجعة والنقد؛ وهو واقع الحال عندنا في المغرب. يصر دعاة التعريب على التمييز بين تدريس اللغات ولغات التدريس، وهو تمييز مطلوب على كل حال؛ لكنه يتحول عند هؤلاء الدعاة إلى حق يراد به باطل، فالتعريبيون لا يجدون مشكلة في تدريس لغات أجنبية في المدرسة المغربية، لكنهم يرفضون أن تتحول إلى لغات للتدريس، لأن ذلك يشكل خطرا على الهوية الوطنية للمغاربة التي يختزلونها طبعا في العروبة، بالرغم من أنهم يلحقون بها الأمازيغية على مضض. وتبعا لذلك، يدافع دعاة التعريب عن "شرعية" اللغة العربية كلغة رسمية للتدريس استنادا إلى المقتضى الدستوري؛ وهو ما يجعل التشبث بالعربية كلغة لتدريس العلوم لا يتأسس على رؤية علمية، ولا يستند إلى حاجة اجتماعية ملحة، بل هو اختيار إيديولوجي صرف. إن النقاش المرتبط بقضية لغة تدريس العلوم ينبغي أن لا ينفصل عن واقع المدرسة المغربية اليوم، لأن الجبهة التي ترفض فرنسة لغة العلوم في بلدنا يبدو أنها لا تهتم بالتردي الخطير الذي وصلت إليه هذه المدرسة، والذي كانت سياسة التعريب الشامل من بين أسبابه الرئيسية؛ وهو ما جعل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والتعليم العالي والبحث العلمي يوصي في وثيقة "الرؤية الإستراتيجية" بإعادة النظر في هذه المسألة، من خلال تنويع لغات التدريس في بعض المضامين أو المجزوءات الدراسية. ويبدو خيار تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية في هذه المرحلة ملحا وضروريا، وهو قرار تمليه شروط ثقافية وتربوية وبيداغوجية قد لا تكون حاضرة في لغة أخرى كالإنجليزية مثلا التي تعتبر حقا لغة العلم الأولى في العالم، لكن السياسات الرسمية اعتبرتها منذ الاستقلال لغة أجنبية ثانية، وهي بذلك لا تملك الحضور نفسه الذي تحظى به الفرنسية في بلادنا بفعل التبعية الثقافية والاقتصادية التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار في هذا الشأن؛ وهو ما يعني أن اللغة الفرنسية هي الاختيار الأصلح لتدريس العلوم مع مزيد من الانفتاح طبعا في المستقبل على اللغة الإنجليزية بما يحقق "الانخراط الفاعل في اقتصاد ومجتمع المعرفة... والانفتاح على المعارف والعلوم والثقافات والتكنولوجيات المتجددة في عالم اليوم" (وثيقة الرؤية الإستراتيجية. ص: 63). إن التمييز بين لغات التدريس وبين تدريس اللغات هو الأفق الذي ينبغي أن نضعه في اعتبارنا عندما نتحدث عن السياسة اللغوية ببلادنا، وخصوصا في ما يتعلق بتدريس العلوم في المدرسة المغربية؛ إلا أن هذا التمييز سيكون بدون جدوى عندما تحكمه نوازع هوياتية وإيديولوجية بدل أن يستند إلى مؤشرات علمية وبراغماتية... فالعربية والأمازيغية لغتان رسميتان بالمقتضى الدستوري، وينبغي أن تحظيا معا بنفس الاهتمام والإمكانات اللازمة لتطويرهما وتهيئتهما. لذلك، يجب أن تجسد المدرسة هذه العدالة اللغوية المنشودة من خلال تمكين الأمازيغية من الحضور الفاعل في مختلف تفاصيل الحياة الاجتماعية؛ وهو ما لا يمكن أن يتحقق بدون تعميم الأمازيغية كلغة دراسية رسمية وإجبارية في كل الأسلاك التعليمية. وهذا ما يفرض أيضا جعلها (أسوة باللغة العربية) لغة لتدريس بعض المضامين المرتبطة بالقيم والتربية الدينية والآداب والتاريخ... لأن الارتباط بالهوية والانتماء يفرض أن لا تكون العربية والأمازيغية مجرد محتوى لغوي في المدرسة؛ بل يحتم حضورهما كلغتين لتدريس محتويات ومضامين أخرى أيضا. وهذا أمر واقع بالنسبة إلى اللغة العربية، لكنه مازال مطلبا ينتظر التحقق بالنسبة إلى الأمازيغية. هذا الانتقال من تدريس اللغة إلى لغة التدريس لا يمكن أن ينطبق على كل المضامين، فقد أثبتت التجربة أن تدريس العلوم باللغة العربية أدى إلى نتائج سلبية بكل المقاييس؛ لأن قرار التعريب صدر عن اختيار إيديولوجي يختزل المغرب في انتماء حضاري وحيد هو الانتماء العربي الإسلامي، وهو قرار لم يكن مؤسسا على حاجة بيداغوجية أو مطلب تنموي، والدليل هو أن تعريب العلوم توقف في المرحلة الثانوية، ولم يمتد إلى الجامعة، لأن ذوي القرار يدركون أن التعليم الجامعي يتطلب إمكانيات معرفية وبحثية لا يمكن أن تتيحها اللغة العربية... وحتى لا ننهى عن أمر ونأتي مثله، نجدد التأكيد هنا على أن الأمازيغية بدورها لا يمكن أن تكون لغة لتدريس العلوم في هذه المرحلة؛ لأنها في حاجة إلى سنوات طويلة من التهيئة والتقعيد والتطوير، ويجب أن تنال حقها الأساسي في ولوج المدرسة أولا. ومن ثمّ، فإن تدريس العلوم باللغة الفرنسية آنيا وبالإنجليزية مستقبلا يظل أمرا ضروريا ينبغي المضي فيه بعيدا عن المسوغ الهوياتي الذي يستخدمه التعريبيون كورقة للتخويف والضغط وفرض الأمر الواقع... وهو مسوغ يحركه عمى إيديولوجي واضح ضيع على المغرب عقودا من الزمن التنموي والديمقراطي.