عبد القادر الفاسي الفهري عالم لسانيات، وخبير دولي، وأستاذ باحث في اللسانيات العربية المقارنة، ورئيس جمعية اللسانيات بالمغرب،. كما أنه حائز على دكتوراة الدولة ودكتوراة السلك الثالث بجامعة باريس السوربون في اللسانيات العامة والعربية وفقه اللغة، وهو أستاذ باحث ومدير دراسات السلك العالي والدكتوراة بجامعة محمد الخامس، حاز على جائزة الاستحقاق الكبرى للثقافة والعلوم، ويشغل منصب رئيس مؤسس لجمعية اللسانيات بالمغرب، وهو مدير معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، ومدير مؤسس مجلة "أبحاث لسانية" ونشرة التعريب، وعضو اللجنة الملكية الخاصة لإصلاح نظام التربية والتكوين بالمغرب سابقا...التقيناه على هامش آخر إصدار له بعنوان "السياسة اللغوية في البلاد العربية" وكان لنا معه هذا الحوار، الذي يطرح مجموعة من القضايا التي تهم الساحة اللغوية المغربية. - ما رأيك في اقتراح التدريس بالعامية؟ هل يمكن أن يكون معقولا؟ وكيف يمكن أن تقيم النقاش الدائر حول هذه المسألة؟ هذا الاقتراح عين العبث بأمور كثيرة، معرفية، وسياسية، وجيو-استراتيجية، واقتصادية، وثقافية، الخ. مسألة التدريس بالعامية إشكالية طرحت قديما، ابتداء من القرن 19 في مصر، فلم يتقبلها الناس، حتى عندما طرحها رفاعة الطهطاوي، أحد رواد النهضة العلمية في مصر، الذي كان متأثرا بإقامته في فرنسا، ثم المخططون الألمان والإنجليز، أمثال سبيتا وويلكوكس وفولز، الخ. وكانت الدعوة الأولى في مغرب ليوطي كولونيالية، وقد تحدثت عن هذا بالتفصيل في كتابي الجديد «السياسة اللغوية في البلاد العربية». وهناك جزء مفصل عن تاريخ هذه الإشكالية، التي لم تنشأ كإشكالية عربية أو مغربية أو جماهيرية، فهي إشكالية مستوردة، خلقها وأطّرها جامعيون فرنسيون في مدرسة اللغات الشرقية في باريس، أقاموا حملة في فرنسا في عهد حكومة جوسبان من أجل إحلال العاميات المغاربية في التعليم الفرنسي عوض اللغة الفصيحة، أو ما كانوا يسمونه العربية الكلاسيكية، لكنهم فشلوا في سعيهم. إذن الإشكالية موجودة منذ زمان، وبدأت في المغرب في السنوات الأخيرة مع بعض طلبة هؤلاء الجامعيين الفرنسيين الذين أشرت إليهم، والذين يشتغلون في إطار جمعية فرنسية للهجات العربية، أسستها دومينيك كوبي، وهم أعضاء مؤطّرون ونشطون فيها. وهناك شبكات لهجية أخرى نعرف جذورها وأصولها في بلدان غير عربية. والقضية أجنبية بالأساس وفوقية «أبراجية»، وليست مطلبا شعبيا، وهي تنقل إيديولوجية حاقدة على العربية وعروبة المغرب، وتختلف جذريا عن المطلب الأمازيغي، الطبيعي والشعبي والمشروع. هذه هي الملاحظة الأولى. أما الملاحظة الثانية فهي أن هذا المطلب في ربطه بالتعليم نشره بنطوليلة ابتداء من سنة 1998. وقد كان مستشارا للرئيس شيراك، فيما يدعي، وعين متصرفا في البنك المغربي للتجارة الخارجية، ومحررا في جريدة «الإيكونوميست». وكان قد نشر مخططه اللغوي للتعليم بالمغرب في أسبوعية «لوجورنال» أياما قليلة قبل أن تشرع اللجنة الخاصة للتربية والتكوين في الانعقاد، وركز على مفهوم اللغة-الأم بالمعنى الضيق، الذي سأعود إليه، والذي يجعل الأمازيغيات لغات-أمهات والعربية المغربية الدارجة، ويدعو إلى تحويلهما إلى لغات تدريس في المدرسة، وجعل اللغة الفرنسية هي لغة العلم والأعمال والتقدم. وكان بنطوليلة قد باع لحكومة هايتي عددا من مشاريعه لبناء التعليم المدرسي على أساس مماثل، كما يبدو أنه باع مشاريع من هذا النوع للمغرب أيضا، سميت بالمدارس الجماعاتية. ويوجد هذا الخبر مسجلا بالصورة في جريدة «لوماتان»، بعيد انتهاء اللجنة الخاصة من وضع ميثاق التربية والتكوين. وكان بنطوليلة قد ادعى بأنه مستشار للجنة الخاصة للتربية والتكوين، فسألت مستشار الملك المكلف باللجنة الخاصة آنذاك، مستفسرا عن مزاعمه، فنفى ذلك. إذن القضية طرحت في كواليس اللجنة الخاصة، وطرحت عن طريق بعض الأشخاص الموجودين اليوم، منهم نور الدين عيوش، لكنها لم تطرح رسميا على جدول الأعمال، بل نوقشت في الكواليس، في ضوء مقترح بنطوليلة، وتقرير محمد المعموري، مدير معهد بورقيبة للغات الحية سابقا بتونس، الذي قدمه سنة 1998 في ورشة رسمية بمراكش. مصدر الاقتراح، إذن، لم يكن مغربيا في الأصل، ولكن بعض المغاربة أعادوا طرحه دون التمعن في محتواه. الملاحظة الثالثة هي توجيه النقاش حول إصلاح التعليم منذ البداية إلى مسألة كانت دائما وما زالت شائكة، ويكفي أن ننظر إلى ما سال من مداد حولها في مصر وفي أقطار عربية أخرى، وتدخل طه حسين في أمرها مرارا وتكرارا، كي نشم منها توجيها سياسيا يبحث عن كبش فداء، حيث تُحمل مسؤولية فشل إصلاح التعليم إلى اللغة، واللغة العربية على وجه الخصوص. وهذه الدعوى يمكن أن نقول إنها لا تقوم على أي دليل، إذ كان ينبغي على أصحابها أن يقيموا دليلا على أن هذا الفشل راجع إلى مشكل اللغة، والازدواجية اللغوية العربية بوجه الخصوص. فهذه الخرجة الغوغائية الحاقدة على اللغة العربية طرحت القضية دون مقدمات تربوية أو علمية مقبولة لدى المختصين (وإن ادعى صاحبها بأنه بناها على أقوال خبراء مختصين، يبدو أنهم لم يؤتوا من العلم الكثير!). ثم إن الطريقة التي أخرج بها هذا الطرح، بحضور مسؤولين كبار في الدولة ومسؤولين عن الإصلاح ووزراء، يبين أن هناك من يريد أن يدعم هذا التصور، بالإضافة إلى هذا، يريد كبش فداء مسبق سهل. الملاحظة الرابعة هي أن الطرح إيديولوجي بالأساس، يتوخى تمرير مفاهيم وأغاليط بعيدة عن الطرح العلمي، أو الطرح السياسي الذي يراعي أخذ مواقف المواطنين وآرائهم اللغوية بعين الاعتبار. خذ مثلا توظيف مفهوم اللغة-الأم توظيفا إيديولوجيا يخدم الدس للغة العربية، لغة الدستور. هناك عدة معان لهذا المفهوم يصعب حصرها، فهناك أولا المفهوم المرتبط ببيئة الأسرة، أي لغة الأم أو الوالدين، والتنشئة الأولى للطفل عبر اللغة في البيت، إن هو بلغ فيه سن السادسة أو أكثر. وهناك مفهوم اللغة-الأم الذي يرتبط بلغة الوطن أو الأرض، أو بجماعة إثنية داخل التراب، وهو مفهوم أوسع، لا يقتصر على صيغة لغوية دون غيرها، وتدخل فيه اللغة المعيارية وغير المعيارية، وعادة ما يرتكز على الرسمية. وهناك مفهوم اللغة-الأم في التعليم أو المدرسة، وهو ذو محتوى مختلف، لأن لغة الهوية في المدرسة تنزع إلى المعيارية والتجريد والارتقاء باللغة للتعبير عما هو معقد أو راق ومهذب، وهو ما ليس متاحا في الشارع أو الأسرة في غالب الأحيان. وكل من هذه المفاهيم الثلاثة يرتبط بهوية وبيئة متباينة، وإن كان مصطلح اللغة-الأم قد ينطبق على كل منها، أو واحد منها، أو حتى على معان أخرى. تحديد «اليونيسكو» نفسها يتردد بين هذه المعاني، وهي بكل تأكيد لا تقصد المعنى الأول، دون سواه، لأنها تتعامل مع دول أعضاء، رسمت لغاتها، ولا يمكن أن تنزع عنها الفطرية، أو تتدخل في تحديد ما تعتبره هويتها اللغوية. فالدول العربية تحتفل باليوم الدولي للغة-الأم، الذي أقرته «اليونيسكو» يوم 21 فبراير من كل عام، وتحتفي باللغة العربية فيه بالأساس، ولا إشكال في هذا، ولا إشكال في الاحتفال بالصيغ العامية كذلك، لأن الهوية العربية تشمل الازدواجية اللغوية العربية، أو المتصل اللغوي الذي يضم أيضا اللغة الوسيطة، وهذا يقع عموما في جل البلدان، أو كلها، حيث لا فصل، إلا في المدرسة، بين الصيغة المعيارية للغة والتنويعات غير المعيارية. والمواطن العربي لا يريد تجزيء هويته اللغوية، وهو يعتبر أن لغته الأم هي العربية بكل صيغها، وهو وحده من يحدد هذه الهوية. أما أصحابنا التلهيجيون والأمزوغيون، فهم لا يترددون في خلط المفاهيم لأسباب إديولوجية. فاللغة العربية الدارجة ليست لغة-أما بالمعنى الأسروي الضيق، وكذلك الأمازيغية ليست لغة-أما بهذا المعنى. فاللغات-الأمهات بالمعنى الأول هي الجبلية والحسانية والفاسية والبيضاوية، وتريفيت وتشلحيت وتمازيغت وغيرها. أما ما يدعى العربية الدارجة أو الأمازيغية أو العربية الفصيحة، فهي صيغ لغات-أمهات بالمعنى الثاني، والعربية والأمازيغية لغات أمهات بالمعنى الثالث كذلك، الخ. الطرح الإيديولوجي يتبين بوضوح حين تريد جماعة ذات نيات غير سليمة تجريد المواطنين مما يعتبرونه هويتهم اللغوية، والإساءة إلى اللغة العربية، مع أنهم اختاروها لغة لهم منذ أقدم العصور! الملاحظة الخامسة هي أن تعريب التعليم، الذي قرر في الثمانينيات، جاء بموافقة الملك المرحوم الحسن الثاني، وبدعم من البنك الدولي. وفي تصريح للدكتور عز الدين العراقي آنذاك بمجلة «جون أفريك»، قال جملة لا زلت أذكرها بوضوح وهي: «Nous sommes condamnés à arabiser»، يعني أنه محكوم علينا بأن نعرب، وعرض عددا من الحجج، منها الهدر المدرسي، وعدم وجود الأطر الكافية المغربية لتدريس المواد بالفرنسية، وعدد من الأمور التي ذكرتها في اللجنة الخاصة حينما أرادوا العودة إلى الفرنسة. وقد كان ردي هو أن هذه الحجج التي يذكرونها اليوم هي التي ذكرها عز الدين العراقي سنة 1980، ولهذا لا يمكن أن نعرب لهذه الأسباب، ونعيد الفرنسة لنفس الأسباب. فنحن، كمواطنين منشغلين بمستقبل هذه الأمة، نريد فقط أن يكون هناك استدلال كاف ودراسة كافية للملف، وتبرير كاف كذلك، قبل اتخاذ قرار خطير من هذا النوع، وهو اعتماد الدارجة لغة تدريس في التعليم، وقتل اللغة الدستورية الرسمية تدريجيا. الملاحظة السادسة هي أنه إذا استقرينا تاريخ النظام التعليمي بالمغرب سنجد أن أول شيء يطبعه هو عدم الاستقرار في القرار اللغوي، بمعنى أنه يأتي وزير يعرب وآخر بعده يُفَرْنِس، بدءا بالمرحوم محمد الفاسي، مرورا بعدد من الوزراء أمثال عبد الكريم بنجلون، ويوسف بلعباس، ومحمد بنهيمة، الخ. فنتج عن هذا تردد وتذبذب في القرار، بمعنى أن القرارات كانت تغير كل سنة، أو كل بضع سنين. إذن مشكل اضطراب القرار في التعليم وسلبياته ليس جديدا علينا. ونطرح السؤال اليوم: هل سيُحل المشكل، مشكل اختيار لغات التدريس، بالتسرع والغوغاء الإعلامية، وبتزعم أشخاص لا علم لهم ولا دراية بقضايا اللغة وتدبير شؤونها في التعليم؟ وهل سيُحل مشكل التعليم إذا قمنا بتلهيجه وفرنسته؟ أنا أشك ثم أشك ثم أشك في ذلك، بل ستكون هذه كارثة وطنية كبرى. إن التعليم، حتى في جانبه اللغوي، مشكل تربوي، ولإنجاحه هناك شروط الاستقرار، والبيئة الصالحة، لأن هذا التردد وكثرة القرارات المتضاربة هما اللذان جعلا الناس يشكون في مصداقية التعليم العمومي. ويجب ألا ننسى أن التعليم له الوظائف الأساسية في النهوض بالطاقات البشرية والتنموية للأمة، وبالقيم الجماعية وتكافؤ الفرص، وبجعل الناس متعايشين في فضاء واحد، وغير ذلك من المفاهيم التي من أجلها أقامت الدول المدرسة العمومية وأنفقت عليها، وكانت الحركة الوطنية في منطلقها تحرص على قيام المدرسة العمومية وتقويتها وتعميمها. نحن الآن مجددا أمام مسألتين طرحتا في سنة 1999 هما مشكل لغات التعليم ومشكل المجانية، وكلاهما مرتبطان بوضع المدرسة العمومية. لهذا ينبغي أن نتعاون بجد في حل هذين المشكلين ومشاكل أخرى مثيلة طرحت من قبل. وهناك مشاكل جديدة تتعلق بالتعدد اللغوي، كما ينص عليه الدستور الجديد. لا يمكن أن نوهم الناس بأن المشكل هو اختيار اللغة العربية أو الدارجة أو الفرنسية. هناك فعلا ملف لغوي، وهو موجود في كل الدول، ويعالج بالتحليل والإقناع، وبالتفاوض والتضامن. إذن الخلفية السياسية لهذه الخرجة غير الموفقة بدون شك موجودة، وصاحبها يبدو أنه خرج بصوت عال، وبجمهور من المسؤولين، ويتكلم من موقع صاحب النفوذ الذي يأمر الوزراء، وليس من موقع المواطن العادي. فكم من مواطن عادي كانت له اقتراحات جيدة وجديرة بالاهتمام، لكن لم يسمعه أحد، ولم يعط له هذا الحجم وهذا الاستثناء الإعلامي، في حين يهمش أصحاب الرأي والمعرفة والعلم. إذن هناك ضرورة لإعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة الأشخاص إلى حجمهم الحقيقي، والسياسة إلى مكانها، لأن الملف اللغوي ملف سياسي وطني، لا يمكن أن ينفرد به أي أحد، إذا كنا نريد بالفعل إصلاح التعليم بطريقة جدية. ينبغي أن تطرح المشاكل بطرق أخرى، أساسها التداول الديمقراطي المسؤول، والخبرة العلمية التي غيبت في هذا النقاش. وهناك، من جهة أخرى، حلول لهذه الإشكالات بروح الدستور الجديد، الذي يدعو إلى تقوية استعمال العربية والعمل على نشرها، لا الاعتداء عليها ومحاولة تهميشها، والتخطيط للقضاء على لغة تحتل موقعا متميزا في النظام اللغوي العالمي، من بين الخمس أو الست لغات الأولى الأكثر استعمالا عبر العالم. وفي تقرير British Council حول مستقبل اللغات في بريطانيا، تحتل اللغة العربية المرتبة الثانية (بعد الإسبانية) في اهتمام البريطانيين بتعلم اللغات الأجنبية، وتأتي الفرنسية بعدها، بعد أن كانت تحتل المرتبة الأولى. - على ضوء ما ذكرت هل العربية قادرة على الانفتاح ومسايرة التطور؟ ثم إن اللسانيين يعتبرون أن كل دارجة لغة، إذا ما تم التقعيد لها؟ ما رأيك في ذلك على ضوء ما صرحت به في أكثر من مرة حول استحالة استعمال الدارجة في المجالات المعرفية؟ أولا، تاريخ العربية الفصيحة وحاضرها يبين أنها لغة كانت وما زالت منفتحة. إذا استقرينا تاريخ اللغة العربية سنجد أن هناك فترة أولى هي الجاهلية قبل مجيء الإسلام، تكونت فيها اللغة العربية في صيغة ما يسمى «كويني» koinè، وهو مصطلح إغريقي يعني نوعا من اللغة «الجامعة»، تكونت فيما وصل إلينا من تاريخها انطلاقا من بعض اللهجات التي سادت في الجزيرة العربية في الأسواق الأدبية والتجارية، ووقع نوع من التوحيد النسبي حول اللهجة القرشية وتطعيمها بلهجات عربية أخرى. إذن هذه اللغة ولدت لغة جامعة. وبمجرد مجيء الإسلام، نزل بها القرآن، بلسان عربي مبين، أي أنها صارت لغة القرآن، وبالتالي لغة العبادة عند كل المسلمين. وبحكم أنها صارت كذلك، أصبح المسلمون، من الفرس والهند ومن جميع الإثنيات، ينقلون إليها العلوم من لغاتهم، فتغيرت تدريجيا، في كتاباتها إلى تنميطها. إذن اللغة العربية كانت دائما منفتحة، ودخلت فيها عدد من الكلمات الأجنبية وانتشرت. وكلما انتشرت اللغة تبتعد عن الهوية الضيقة. وبالنسبة للدستور المغربي الجديد، وللمشروع المجتمعي المغربي، نحن شعب منفتح نتوق إلى مواطنة كونية، والانفتاح على الثقافات بقيمها الكونية الإنسانية، وعليه نقترب من اللاهوية، أو على الأقل نبتعد عن الهوية الضيقة. فحينما تتحدث عن اللغة العامية، وتحصرها في بيئة محدودة جدا، أو في بيئة الطفل وأبويه، هذا يعني أنه بمجرد ما يخرج هذا الطفل عند الجيران فهو مضطر إلى أن يوسع هويته اللغوية، فيسمع لغة جبلية أو فاسية ويتأثر بها، والعكس صحيح. هذه اللغة التي ندعي بأنها لغة-أما غير موجودة. لا توجد هناك لغة مغربية، وحتى لو وجدت، فإننا سنجد أنفسنا منحصرين داخل قطر. فهذه دعوة إلى قومية لغوية، والمغاربة ليسوا قوميين، أي ليست لهم قومية لغوية، فهم تكونوا كأمة ودولة بحكم تمازجهم وانفتاحهم منذ العهود الغابرة، ولم يتكونوا كأمة حول اللغة، بل تكونوا بالتاريخ المشترك، بالأرض المشتركة، إلى غير ذلك من العوامل. ولكن لم يكن الإحساس عندهم بالانتماء إلى الوطن مبني على اللغة القطرية، وبالتالي لا توجد عندهم قومية لغوية مثل ما وجد في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، الخ. فهذه شعوب كانت بأصول مشتتة، وتكونت كأمة باللغة، ولذلك كان شعارها هو «دولة واحدة، أمة واحدة، لغة واحدة». فأصحاب التلهيج يريدون أن ينقلوا المغاربة من معتزين بانتمائهم للمغرب، ومعتزين بأنهم غير منغلقين، بل منفتحين على مختلف اللغات والحضارات، إلى مجتمع منغلق في إطار ما يسمى باللغات-الأمهات بالمعنى الضيق، وهذا ما لا يمكن تحقيقه. إن العربية والأمازيغية تجمعان المغاربة، ثم إنه لا يضيرنا أن نتعلم اللغات الأجنبية بأنواعها. فالمغرب في عهد الاستعمار كانت به مناطق تتكلم الإسبانية، ومناطق أخرى تتكلم الفرنسية، وأحيانا لغات أخرى كالإيطالية والبرتغالية والإنجليزية. إذن هذا البلد منفتح بطبعه، لكن ما يمكن أن نؤكده هو أن هذه اللغة التي نريد أن نحولها إلى كبش فداء هي رأس مال المغاربة، حيث إننا نربح منها ولا نخسر. ونحن لسنا ضد نبذ الدوارج، بما فيها اللهجات الأمازيغية، ولا إلى التخلي عن اللغات الأجنبية. تصور الخسارة التي وقعت لنا عندما خسرنا اللغة الإسبانية، وكما ذكرت فيما سبق فإن الإسبانية تأتي كلغة أولى جديرة بالاهتمام كما جاء في التقرير البريطاني، فهذه لغة قوية أضعناها، وأضعنا لغات أخرى مثل الألمانية، لأن بيننا أحاديين في التفكير، وهم يدعون إلى التعددية. - ما هو دور السلطة في اتخاذ القرارات الخاصة بالمناهج التعليمية، ومن بينها الدارجة، مقارنة بالقرارات السابقة فيما يخص تدريس الأمازيغية, دون استشارة العلماء والمختصين في هذا المجال؟. في الأنظمة الديمقراطية المتعارف عليها، يكون الحكام في خدمة المحكومين، أو على الأقل يكون التعاون وثيقا بينهما، من أجل ترجمة اختيارات الشعب. وحتى إذا كان هناك قرار من الدولة يكون المسؤولون خبيرين بشأنه وليس الشعب، وهم يقنعون الشعب ويفاوضونه، وهناك آليات ديمقراطية كالمشورة والاستفتاء واستطلاعات الرأي وغيرها من الأمور التي توضح للحكام كيف يتعاملون مع هذه القضايا. وبالنسبة للتعليم نجد الشيء نفسه، بمعنى أنه لا يمكن أن نتصور اختيارات تتم في التعليم دون استشارات واسعة وإشراك الخبراء، لأنها قرارات تقتضي أحيانا خبرة عالية ووطنية، وليست أجنبية لها مصالح معروفة وعينية، لأن الأطر الوطنية التي لها غيرة على بلدها لا يمكن أن تفتي بخراب بلدها. إن تغييب الخبرة الوطنية شيء غير مقبول في قضايا التعليم. الذي أثارني في النقاش الحاصل في موضوع الازدواجية هو أن الناس يتحدثون في كثير من الأحيان وكأن هناك ازدواجية واحدة ومسار واحد للازدواجية، باستعمال نموذج اللاتينية، في حين أن الازدواجيات لها مسارات متعددة، فاللغة العربية تختلف عن اللاتينية لأن اللهجات الرومانية تولدت بالفعل كبنات للاتينية، فالعلاقة كانت من الأعلى إلى الأسفل، لكن في الحالة العربية كان العكس هو ما حدث، وهذه سيرورة تعطي نتائج مختلفة جدا، فهذا فرق أول. وإذا نظرنا إلى السيرورات التي ذهبت في هذا الاتجاه نجد أنها كلها مبررة سياسيا، ولا علاقة لها بالعلم ولا بالتربية. إذن ينبغي، أولا، أن نقول إن اقتراح الدارجة عوض الفصحى هو اقتراح سياسي، وليس تربويا، حتى لا يذهب أحد في اتجاه أنه يريد إصلاح التعليم، ثم إذا نظرنا إلى تجارب من هنا وهناك لدول اتخذت الدارجة كلغة، سنلاحظ أن جل قراراتها كانت فوقية واستبدادية، كقرار إيزابيلا الكاثوليكية بالنسبة للقشتالية، وقرار فرانسوا الأول، والقرار الإيطالي الذي جعل صيغة من التوسكانية لغة إيطاليا. ثانيا، إن الاستبداد اللغوي يتجلى في قتل اللغات الأخرى، كالقتل التدريجي للأكسيتان في فرنسا، أو تهميش اللغات الأخرى مثل البروتون والباسك. ففي فرنسا، ومن خلال الإحصاء الذي تم في عهد جوسبان على يد بعض اللسانيين المجتمعيين، وجدوا أن هناك 75 لغة محلية، فماذا فعلوا بها في المدرسة العمومية؟ ابتداء من جول فيري، جعل الفرنسيون من المدرسة فضاء لتعميم اللغة الفرنسية، وكانت الفرنسية لغة أقلية إلى حدود أواخر القرن التاسع عشر. إذن يجب علينا أن نفهم بأن هذه الاختيارات التي كانت سياسية من قبل لم تعد الآن ممكنة، مع ظهور ثقافة حقوق الإنسان، والحقوق اللغوية، الخ. فالذين يريدون أن يطلبوا من الملك أن يتخذ قرارا بإدخال الدارجة إلى التعليم يريدون توريط رئيس الدولة، وهو الملك الجامع للجميع. وقد علت الأصوات بكثافة وبأغلبية ساحقة تندد بهذا النوع من الاقتراحات، فكيف يمكن لهذا الاقتراح أن يكون في الاتجاه الصحيح؟ الزمن السياسي تغير، ولا ننسى أن السياسة اللغوية الفرنسية هي السياسة الجاكوبينية التي ذكرتها، كسياسة تمثل الإرهاب اللغوي الذي بدأ مع الثورة الفرنسية، وهو وضع لم يعد ممكنا الآن. إذن نحن هنا نناقش قرارا سياسيا بدون أن نموضع أنفسنا في الزمن السياسي، مما سيتولد عنه خرق للدستور، لأن الدساتير المغربية كلها تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، والدولة تعمل على نشرها وتسهيل استعمالها وتقويتها، وهناك قوانين تتعلق باللغة العربية وما إلى ذلك. كل هذه الأشياء سنخرقها، ونخرج إلى اقتراح شخص من الأشخاص بتبعات سياسية كبيرة. ينبغي وضع مقاربة استراتيجية جديدة للاختيارات اللغوية تراعي النظام اللغوي العالمي - ما موقفك من التعدد اللغوي في المنظومة التعليمية بالمغرب؟ أولا، تعدد اللغات، خصوصا بالنسبة للتعليم، أصبح موضوعا لا يناقش، لأننا مضطرون إلى تعلم أكثر من لغة، ولكن أي لغات، وكم من اللغات سنتعلم، زيادة على اللغات الوطنية؟ إن الدستور يشير إلى اللغات الأكثر انتشارا في العالم، وهذا لا يجيب عن السؤال على أرض الواقع، لأن اللغات الأكثر انتشارا في العالم هي الإنجليزية والصينية والإسبانية والفرنسية إلى حد أقل. والجواب الطبيعي عن السؤال هو أن نتعلم اللغة التي ارتبطنا بثقافتها في العهد الكولونيالي، وهي الفرنسية، ونتعلم كذلك اللغة الإسبانية المرتبطة أيضا بالتاريخ الكولونيالي، وبالتاريخ الذي كنا نحكم فيه في الأندلس. يبدو أن هاتين اللغتين ضروريتان في لائحة اللغات الأجنبية التي يمكن أن نتعلمها. وطبعا لابد من تعلم الإنجليزية لأنها اللغة العالمية بامتياز، من الناحية العلمية والعملية الخاصة بالتبادل التجاري وغيرها، وهي اللغة التي تسمى بلينكوا فرانكاlingua franca ، أي اللغة المشتركة في التواصل العالمي. بالإضافة إلى هذا، هناك لغات أخرى لها حضارتها وأهميتها مثل الألمانية والروسية والبرتغالية. السؤال إذن يبقى هو: كيف نختار؟ وماذا وكم يمكن أن نتعلم من اللغات؟ لأن دماغنا محدود ولا يمكن أن نتجاوز خمس لغات بسهولة، ووقت التعلم محدود. هذا إذن يقتضي اختيارا. وإذا ما تم ذلك، فهل ستكون لهذه اللغة وظائف مثل ما هي عليه اللغة الفرنسية الآن؟ الفرنسية هي لغة العمل شبه الرسمية، وهي لغة الاعتبار، ولغة التدريس في الشعب العلمية المتخصصة في الجامعة، مع أن مصالح المواطنين قد تكون خلاف هذا، فلا أحد في شعب العلوم أو شعب الإنسانيات يمكن اليوم أن يدعي بأنه يقوم بالبحث العلمي دون أن يتعلم اللغة الإنجليزية، وجل المجلات ذات الاختصاصات العلمية، وما يزيد على 80 في المائة منها، تصدر باللغة الإنجليزية، وكذلك لغة المؤتمرات الدولية إلى غير ذلك، فهذه اللغة تبقى في الأخير ضرورية. لذلك ينبغي أن نعطي حرية اختيار عدد من اللغات، وأن نسند المسؤولية في الاختيار للمواطن، الذي قد تكون مصلحته في أن يتعلم الإيطالية أو غيرها. فبأي حق سنفرض عليه تعلم اللغات الأخرى كالفرنسية أو الإنجليزية إذا كان لا يريدها؟ هذا مناف لمبدأ التعدد، الذي يعني إتاحة الفرص لأن يكون الناس مختلفين في اختياراتهم. فرغم كتابة الدستور ما زلنا نعيش ثقافة أحادية، على أن الفرنسية هي لغة الفرص الوحيدة، رغم أن هذا يتناقض مع الواقع، والدليل على ذلك هو عندما يوجد الفرد منا في جولة سياحية أو عملية في بلد ما خارج المغرب، فإن اللغة السائدة هي الإنجليزية، ويصعب عليه أن يتواصل بالفرنسية، لنخلص إذن إلى أن المواطن هو الذي بإمكانه أن يحدد اختياراته اللغوية. واللغة العربية لها فرص كبيرة كلغة وطنية وبينية تتميز عن اللغات الأخرى. لذا ينبغي أن نضع مقاربة استراتيجية جديدة للاختيارات اللغوية تراعي النظام اللغوي العالمي، والمصالح الاقتصادية الوطنية، وميول واهتمامات المواطنين، خاصة أنه في كل الدول الكبرى الآن كأمريكا وكندا وبريطانيا هناك إقبال على تعلم اللغة العربية. ثم إن التعدد اللغوي أفرز وهما بأن هناك لغة تتفوق على أخرى، ولكن لغة العلم تتحدد بإحصاء دقيق في المجالات والمنشورات والمؤتمرات العلمية، وهناك نسب ترتب من خلالها أهمية اللغات في هذا المجال أو ذاك. ثم إن فرنسا نفسها أدخلت مؤخرا ما يسمى بقانون فيوراسو، ومفاده أن عددا من التخصصات يمكن أن تدرس بالجامعات الفرنسية بالإنجليزية. ثم إن هناك حاجة في التعليم إلى بيداغوجية جديدة وديداكتيك جديد يراعيان تعددية تعلم اللغات. أجرى الحوار - شفيق الزكاري