يزداد السجال الفكري والنقاش الحاد في الوسط السياسي والاجتماعي في قضية تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية واعتراض أطراف أخرى عن ما يسمى "فرنسة" المواد العلمية وتفضيل لغة الضاد . ويستند كل طرف على رؤى ودوافع ليست بالجديدة في غمار تجارب سابقة ويبقى الطرف الثالث من يريد أن يصنع من الحدث نقاشا ورأيا مركبا يستهدف التعليم والإبداع ولا يقسم القضية في صراع جانبي مسيس وإيديولوجي بين من قرأ في الحي اللاتيني بلغة موليير ومن عشق لغة الجاحظ في البيان والتبيين . فالعربية لغة العلم من زمن ابن سينا وجابر ابن حيان وابن رشد . ولغة الأمة ووعاء الثقافة التي تتضمن مزايا في مضمونها وقواعدها . الأمر الذي يجعلنا نزيد في اغنائها وإدخال مفردات ومصطلحات علمية وتقنية في صميمها . لغة الضاد كما يعرفها النحات لغة غنية في معانيها وصارمة في قواعدها وتراكيبها ولذلك فهي الوعاء الذي يحتوي الفكر والثقافة . لغة شعرية تتدفق عذوبة في الوصف والتغني بالكلمات السلسلة لغة فحول الشعراء وطبقات الأدباء . في قوة المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية . اللغة وسيلة وغاية في نفس الوقت كما قالت جوليا كريستيفا والذات المتكلمة في الكلام غير منفصلة عن التفكير. وفي التعبير بلغتنا ندرك معاني الأشياء بدقة ولا نشعر باستلاب لغة أخرى .ونعود إلى ذواتنا في مونولوج للتفكير واتخاذ القرار وما يناسبنا من مواقف في الحياة .في خصائص ووظائف اللغة تتجلى بالفعل دراسة اللغة وتعلمها وبذلك فاللغة في تعريف علماء اللسانيات نسق من العلامات والرموز تؤدي وظيفة التواصل ونقل الكلام والمعاني من المرسل إلى المرسل إليه بشفافية .إذن أين المشكلة ؟ أدبيات اللغة ومضمونها ليس بيت القصيد وليس صلب المشكلة في واقعنا السياسي المغربي . يبدو أن هناك مزايدات وصراعات ايديولوجية وقوى معينة وراء قرارات صعبة في تمرير قانون الإطار المتعلق بتدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية . قانون الإطار الذي اعترض عليه حزب العدالة والتنمية وقوى أخرى في البرلمان بدعوى المساس بالهوية والخصوصية وتجاوز بنود الدستور.فالأمر يتنافى وسيادة البلدان وحقها في اختيار ما يناسبها بناء على ارثها التاريخي والحضاري .السيد بنكيران طالب الرئيس العثماني بالاستقالة من الحكومة على قبول قانون الإطار الذي يجيز تدريس العلوم باللغة الفرنسية . اقتراحات نابعة من مجلس عزيمان ومن رغبة مجموعة من الأطراف في إنهاء سياسة التعريب في المغرب والعبور بقطاع التعليم نحو التجديد والابتكار . ولا حلول إلا بلغة موليير والانفتاح على الانجليزية التي اثبت الكل أنها اللغة الممكنة في استيعاب مضامين العلم ولغة العصر والتوجه بالعقول نحو ممارسة التفكير العلمي .لغة العصر والتقنية .واللغة الفرنسية لغة رسمية في 32 دولة . و274 مليون ينطقون بلسانها. وتشير المنظمة الدولية للفرانكفونية أن اللغة الفرنسية تاسع أكثر لغة نطقا في العالم . ومع ذلك تتعرض اللغة الفرنسية في عقر دارها للغزو من قبل الانجليزية .ويفضل الفرنسيون الكلام بلغة شكسبير حيث يناقش الفرنسيون على المستوى الإعلامي والأكاديمي مخاطر تراجع اللغة الفرنسية بين صفوف الشباب وتراجع مستوى النطق والتعبير بالكلمات الأصلية . وأبناء المستعمرات السابقة مستواهم أفضل بكثير من شباب فرنسا اليوم . اللغة العربية تحتل المرتبة الرابعة عالميا من حيث التداول وهي لغة تعرف تزايدا ملحوظا للمقبلين في تعلمها من أسيا وأمريكا وإفريقيا إضافة أنها لغة غنية بدلالتها وتراكبها .لغة القران والإسلام . ومن قال أنها ليست لغة علم فالأمر يعود إلى ذويها الذين لا زالوا بعيدين عن النهضة والدخول في عصر العلم والتكنولوجيا . مسؤولية الشعوب الناطقة باللغة العربية أنها لا تتوفر على برامج علمية .ولا تستثمر في العلم والمعرفة .البحث العملي في نسب متدنية في عالمنا .فلماذا نحمل المسؤولية للغة العربية ؟ أقطاب الصراع في التدريس بالفرنسية بين القوى المحافظة والتيار التقليدي .حراس القيم والهوية المغربية في الثبات على الأصيل من الثقافة وترسبات القيم الثابتة ودعاة التجديد والابتكار من التيار الفرانكفونية المضاد للقومية العربية وكل ما يأتي من الشرق . والذين يعتبرون أن التراث واللغة العربية لا يسايران منطق العلم والمعرفة العلمية وبالتالي يستحسن تلقين المعرفة بإقفال قضية التعريب نهائيا وفسح المجال للفرنسية .تجريب الفكرة جزئيا من الثانوي التاهيلي وبعد ذلك الجامعات ثم تعميمها في كل المستويات. لغة العلم واحدة .انتاجات العلم من اليونان إلى الآن عرف نشاط مكثفا للترجمة الواسعة للتراث العلمي والفلسفي. في لغة العلم القوانين الصارمة ثابتة .لغة معممة يفهما ذوي التخصص .وفي خروج المغاربة للدفاع عن المدرسة العمومية والسجال الدائر عن "فرنسة التعليم . ومن قبل إدخال العامية في المقررات الدراسية وما تلاه من نقاشات موسعة أخرجت المفكرين عن صمتهم أمام ارتجالية القرارات وهيمنة البعد الإيديولوجي واللوبي الفرانكفوني في تغيير هوية المغاربة ولغتهم الرسمية .من اللغة العالمة إلى اللغة العامية .ودفاع بعض أعضاء المجلس الأعلى للتربية والتكوين عن خيارات ليست نابعة من الإجماع الكلي ومن استشارة الشعب. فالمجلس هيئة استشارية وليست تقريرية و تنفيذية .والعودة للمجتمع والفضاء العام يعني تكريس ما يسمى الديمقراطية التشاركية والقرار يكون نابعا من النقاش العمومي في الرفض أو القبول .نحن دخلنا في سياق العولمة أحببنا أم كرهنا. رياح العولمة جاءتنا محملة بالصورة والنماذج المعقولة في التدبير والتسيير والتفكير . فأصبحت القنوات الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي شبكات للرصد والإخبار وبناء أنماط سلوكية . في الشرق العربي هناك الانجليزية كلغة ثانية والعربية لغة الشعب والعقود في الإدارة والمؤسسات .مطلوب في العمل في الشركات والمقاولات أن تجيد استعمال الانجليزية في التعامل والتواصل . تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية مخالف للدستور وفق القوى المعارضة. ويخالف الدستور الذي ينص في فصله الخامس أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة .وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها . وتعد الامازيغية أيضا اللغة الرسمية للدولة باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء . رؤية القائمين على الشأن التعليمي ببلادنا يستند على تبعية وواضحة لفرنسا في البرامج والمقررات والسياسة التعليمية كما في تشخيص محمد عابد الجابري للتعليم في الأقطار المغاربية "المغرب – الجزائر – تونس " حيث كانت ولازالت تعتمد على تركة الاستعمار الفرنسي والمخططات النابعة من توجهات فرنسا في علاقتها المستمرة مع مستعمراتها في إطار رابطة الدول الفرانكفونية . فعندما نتأمل مليا في برامج الإصلاح والتدابير الممكنة للرفع من مستوى التعليم وحل الإشكالات الأفقية والعمودية نعود بالأساس إلى تجارب فرنسا . نعلم باليقين أن دول تدرس بلغتها فأصبح تعليمها يتبوأ الصدارة في العالم. التعليم في فلندا باللغة الفنلندية .برامج هادفة وتعليم يعتمد التنشيط والتحفيز والمبادرات الفردية والجماعية في عملية التعلم . كفايات حقيقية وتمرس المربين والأطر في تحفيز المتعلم نحو بناء الذات ولا يشعر الناس هناك بمركب نقص في اللغة والثقافة .وعندنا لا زال الصراع بين الأصيل والحديث .بين العلم والأيديولوجيا . اقتراحات نور الدين عيوش للتدريس بالعامية نالت عدم الرضا في المغرب. وقرارات المجلس الأعلى للتربية والتكوين نالت النقد وتوجهات السيد امزازي نحو تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسة نالت نصيبا أوفر من الرفض .ونقلت القضية للبرلمان وتم إرجاء التصويت إلى زمن آخر . يعني أن القضية سيادية بامتياز . والتضاد بين الرفض والقبول يعني أن القضية عامة وليست مسألة خاصة بحزب أو هيئة استشارية أو تصويت في البرلمان بالإجماع .رفض السياسة اللغوية برفض فرنسة المواد العلمية والعودة للمرحلة قبل التسعينيات من القرن الماضي وإدخال القضية ضمن البعد الاديولوجي في صراع الأجنحة من داخل الحكومة المغربية وخارجها .من أهم القضايا الجوهرية التي يعتبرها السيد بنكيران أكثر من إصلاح صناديق التقاعد .وينظر إليها الفاعل الآخر ومنهم وزير التعليم امزاازي واطر المجلس الأعلى وفعاليات أخرى في المجتمع المدني أنها مهمة في تكريس العقلية العلمية والانفتاح على العصر . وتبقى القضية تراوح ذاتها بين أطروحتين متناقضتين. الأولى تعميم لغة موليير في المسالك العلمية والأطروحة المضادة الإقرار بأهمية لغة الضاد الضامنة للهوية والحفاظ على الثوابت . يبقى الطرف المحايد غائبا في تصور إمكانية التنوير والعقلانية بلغة الأم مع الانفتاح على لغات العصر الأكثر تداولا واستعمالها . وتدريس اللغات من الابتدائي سائدة في تعليمنا بهدف تعزيز التنوع اللغوي والاندماج المهني . فهناك بالفعل توجهات عامة للدولة في تقوية المسالك العلمية والشعب التقنية والمهنية والأكيد أن الفاعلين في الشأن السياسي يستلهمون التجربة الكورية في ميدان التكنولوجيا والخبرات المهنية والمهارات .فتضارب الآراء عن المسألة اللغوية في المغرب يعود بالرأي المضاد للدستور الذي يقر صراحة على أهمية اللغتين العربية والامازيغية. والرأي الآخر الذي يعتبر تدريس العلوم باللغة الفرنسية قفزة نوعية في تربية المتعلم على الإبداع والتحفيز على الابتكار . فالمعاينة من واقع الدول المتقدمة والصاعدة في النمو كالصين وسنغافورة وماليزيا التي باشرت عدة إصلاحات جوهرية في سبيل الارتقاء بالإنسان وتوسيع هامش الإبداع وتكريس ثقافة الانضباط والواجب .وكانت النتائج مفيدة ومبهرة في التقدم . يبدو الصراع اليوم في معركة المدرسة العمومية والمسألة اللغوية في المغرب لازال في بدايته . فمهما قيل أن الصراع لا يرتبط بالسياسة والسيادة ولا يحمل في عمقه أبعاد ايديولوجية أو سمات سلطوية في إرغام الكل على اختيار اللغة الفرنسية في تدريس العلوم يبقى التوجس وصراع التوجهات سائدا بين قوى متباينة الإرادة. كل ما في الأمر العبور نحو القرن الجديد والرهان على التكنولوجيا في السيطرة على البطالة والأزمات التي تعصف بالمجتمع يستدعي تغيرات جذرية في صلب العقليات والالتفات على المصلحة العامة .ومن يدعي أن اللغة العربية أخرجت لنا ذهنيات مقولبة في توجهات طلبة العلوم في الجامعة المغربية نحو الحركات الراديكالية والتشدد .فان الأمر هنا حسب المفكر محمد أركون يتعلق بإشكالية أخرى للقولبة الذهنية منطقها غياب العلوم الإنسانية والفكر الفلسفي. الفكر الذي يمنح لطلبتنا آلية النقد والتحليل والتفنيد وقراءة ما وراء الأشياء بعيدا عن الاستقطاب الإيديولوجي وبالتالي سيادة الروح العلمية النقدية . نريد أن نقتنع بفكرة واحدة أن اللغة الفرنسية مكتسحة في فرنسا من لغة شكسبير .والعالم الذي أضحى قرية كونية يفتح لنا إمكانية تنشيط الترجمة الواسعة وإنشاء مراكز للترجمة على غرار بيت الحكمة في عهد المأمون في الدولة العباسية . وتحفيز الترجمة في الزيادة من الساعات المخصصة لها في الثانويات والجامعات المغربية . والعمل على تطوير اللغة كما يشير إلى ذلك الدستور المغربي علما أن إبداعات المفكر المغربي ترجمت للعديد من اللغات عندما كتب باللغة العربية. ومن يكتب بالفرنسية عاد ليلامس القضايا الخاصة بلغة موليير وينطبق الأمر على كتاب ومنهم الروائي الطاهر بنجلون وأمين معلوف وياسمينة خضرا …