جاء التنصيص على مفهوم “التناوب اللغوي” في مشروع القانون الإطار الخاص بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، في المادة الثانية من الباب الأول: “التناوب اللغوي مقاربة بيداغوجية وخيار تربوي يستثمر في التعليم المزدوج أو المتعدد اللغات، يهدف تنويع لغات التدريس، وذلك بتعليم بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد باللغات الأجنبية قصد تحسين التحصيل الدراسي فيها”. وفي المادة 31 من الباب الخامس: إعمال مبدأ التناوب اللغوي من خلال تدريس بعض المواد، ولا سيما العلمية والتقنية منها أوبعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة اولغات اجنبية” . – التناوب اللغوي بين تقرير المجلس الأعلى للتعليم والإصلاح الاستراتيجي . التناوب اللغوي تقرير المجلس الأعلى للتعليم من بين المحاور الأساسية التي تناولها تقرير المجلس الأعلى للتعليم( 2015) حول منظوره للإصلاح، محور الهندسة اللغوية، ولعل البعد المفاهيمي الموظف ليشي بطبيعة المقاربة الموظفة في الإصلاح اللغوي المنشود، حيث تم التركيز على البعد التقني (هندسة) في تناول قضية خطيرة جدا في تاريخ منظومة التعليم في المغرب، هذه القضية التي يحاول التقرير تعويمها ضمن شعارات جوفاء من قبيل التعددية، التناوب، الانفتاح … لكن هذا البعد التقني الموظف في المقاربة يضمر أكثر مما يعلن، فهومن جهة يحاول تحقيق الإيهام بأن مقاربة الإشكالية اللغوية في المغرب لا تنطلق من تصور إيديولوجي بل تركز على البعد التقني/الهندسي، وذلك بهدف إقصاء أي نقاش يمكن أن يوظف البعد الهوياتي المنصوص عليه دستوريا، في علاقة باللغة العربية ذات الطابع الرسمي بمنطوق الدستور، مما يؤهلها قانونيا للعب الدور المحوري في العملية التعليمية التعلمية. ومن جهة ثانية، يتم توظيف هذا الادعاء التقني لفرض تصور لغوي بديل تحتل فيه اللغة الفرنسية مكانة محورية، وهذا ما يفضح الخلفية الإيديولوجية المتحكمة في اللوبي الفرنكفوني الذي وجه النقاش اللغوي داخل المجلس، وتمكن من صياغة التقرير من منظور أجنداته الإيديولوجية الخاصة. ولعل من بين المؤشرات التي تفضح ادعاء العلمية والتقنية والهندسية في صياغة التقرير، هو المكانة المركزية التي احتلتها الفرنسية ضمن هذا التقرير الإيديولوجي الملغوم، فبادعاء التعددية والتناوب اللغوي قفزت الفرنسية، بقدرة قادر، من لغة الانفتاح، كما هو شأن جميع اللغات الأجنبية في جميع منظومات التعليم عبر العالم، إلى لغة أساسية تتمتع بحق الترسيم الواقعي، ولعل التناقض الخطير الذي وقع فيه التقرير هو اعتباره أن الفرنسية لغة انفتاح، بينما فرضها كأمر واقع، بادعاء التناوب اللغوي، حيث تم إدماجها ضمن التعليم الأولي والابتدائي، كمرحلة يجب التركيز فيها على اللغة الأم، وبالإضافة إلى ذلك تمت ترقيتها إلى لغة أساسية في تدريس بعض المواد الدراسية (المواد العلمية والتقنية غالبا) ابتداء من مرحلة التعليم الإعدادي، وبالتأكيد المرحلة الثانوية والجامعية كاستمرار لسابقتهما. . التناوب اللغوي في الإصلاح الاستراتيجي إن هذا التوجه الفرنكفوني الواضح، الساعي إلى فرض اللغة الفرنسية كأمر واقع على منظومة التعليم في المغرب يتناقض مع توجه الإصلاح الاستراتيجي الذي يمثله الميثاق الوطني للتربية والتكوين نفسه، حيث كان التوجه نحو تفعيل الطابع الرسمي للغة العربية في التعليم الجامعي في علاقة بالتخصصات العلمية والتقنية، وذلك لتحقيق الانسجام بين لغة التدريس في الثانوي والجامعي، في أفق توحيدها في اللغة العربية كلغة رسمية للدولة بمنطوق الدستور. ولذلك نجد الدعامة التاسعة من الميثاق تقدم تصورا واضحا لهذا التوجه الخاص بإدماج العربية كلغة أساسية للتدريس في جميع أسلاك التعليم . . يتم تجديد تعليم اللغة العربية وتقويته، مع جعله إلزاميا لكل الأطفال المغاربة في كل المؤسسات التربوية العاملة بالمغرب مع مراعاة الاتفاقيات الثنائية المنظمة لمؤسسات البعثات الأجنبية. . يستلزم الاستعداد لفتح شعب للبحث العلمي المتطور والتعليم العالي باللغة العربية، وإدراج هذا المجهود في إطار مشروع مستقبلي طموح ذي أبعاد ثقافية وعلمية معاصرة. ولتنزيل هذا التوجه الاستراتيجي تم التنصيص على إحداث أكاديمية اللغة العربية، ابتداء من السنة الأكاديمية 2000-2001 باعتبارها مؤسسة وطنية ذات مستوى عال مكلفة بتخطيط المشروع وتطبيقه وتقويمه بشكل مستمر. . التناوب اللغوي في القانون الإطار وخرق التوافق الوطني كل هذا التنظير الاستراتيجي المتوافق عليه وطنيا، والنابع من توجهات وطنية صرفة يقودها الموقع الرسمي للغة العربية في جميع التعديلات الدستورية، كل هذا يبقى حبرا على ورق، وذلك لأننا نعيش على وقع مفارقة غريبة بين التوجه الدستوري والنصوص القانونية الداعمة للطابع الرسميللغة العربية في مختلف المجالات، وبين واقع عنيد يتحكم فيه اللوبي الفرنكفوني الذي تمكن من تحقيق استمرارية المشروع الكولونيالي في المغرب، على المستوى اللغوي والثقافي، وذلك في إطار توجه عام نحورهن مستقبل المغرب بمشروع ثقافي ولغوي فاشل على المستوى العالمي. هذا يتجسد من خلال إفشال مشروع أكاديمية محمد السادس للغة العربية، التي كانت جزءا من اسراتيجية تأهيل اللغة العربية لتقوم بمهمتها الدستورية في التعليم، بمختلف أسلاكه، وقد كان إجهاض هذا المشروع الأكاديمي الطموح مقدمة لإجهاض مشروع إدماج اللغة العربية كلغة أساسية في التدريس، خصوصا في علاقة بالمواد العلمية والتقنية، وذلك لأن جميع اللغات الحية في العالم هي في حاجة إلى تأهيل علمي لتقوم بدورها الفعال في مجال التعليم والبحث العلمي، وذلك ما حدث مع مجموعة من التجارب الأسيوية الناجحة، وكذلك مع اللغةالعبرية التي كانت ضمن اللغات الميتة، وتم إحياءها لتقوم بدورها المدرسي والعلمي. – التناوب اللغوي في أفق فرنسة التعليم المغربي . قراءة في سياق المفهوم في سياق الحملة الفرانكفونية الشرسة، التي تسعى إلى تحقيق الترسيم الواقعي للغة الفرنسية وإفراغ الطابع الرسمي للغة العربية من محتواه يطل علينا، من حين إلى آخر، بعض الخبراء الذين يحاولون تبسيط الأمور عبر الاستناد إلى تجارب مقارنة ( مع أن المقارنة لا تصح مع وجود الفارق) ويستندون في ذلك إلى التجربة الأوربية في تدريس المواد الدراسية باعتماد لغات أجنبية، والتي يرمز لها بالإنجليزية (CLIL) Content and language integrated learning ويرمز لها بالفرنسية (EMILE) L'enseignement d'une matière intégré à une langue étrangère وقد ظهرت البوادر الأولى لتجربة تدريس المواد المقررة بلغة أجنبية في كندا، إبان مرحلة السبعينات والثمانينات، حيث كان مفروضا على الكنديين الأنجلوسكسون الذين يريدون الإقامة في منطقة الكيبك. وقد تطورت التجربة، فيما بعد، عند انتقالها إلى الفضاء الأوربي الذي يتميز بالتعددية اللغوية، مما دفع صناع القرار إلى التفكير في نقل التجربة الكندية وتطويرها بهدف تحقيق تداول لغوي ناجح داخل الفضاء الأوربي، وهكذا تم تدشين هذه التجربة إبان عقد التسعينات، وتطورت فيما بعد إلى أن وصلت إلى مرحلة النضج، واستطاعت أن تحل إشكالا لغويا وثقافيا عويصا كان يعانيه الاتحاد الأوربي، في علاقة بغياب الانسجام الثقافي واللغوي بين مكوناته، مما كان يساهم في عرقلة المسار التنموي. ( يمكن الاطلاع على تحقيق صادر في الموضوع بعنوان: L'enseignement d'une Matière Intégré a une Langue étrangère (EMILE) a L'école en Europe- Eurydice- Direction Générale de L'éducation et de la culture- Commission Européenne . تساؤلات مشروعة وهنا يمكن أن نتساءل مع هؤلاء (الخبراء) الذين يجنون في سلة اللوبي الفرنكفوني عبر ادعاء الخبرة التقنية: – هل هناك من مشترك بين التجربة المغربية في التدريس، وبين التجربة الأوربية التي يتم نسخها من أصلها ولصقها ضمن بيئة ثقافية ولغوية مغايرة ؟ – هل يتعلق الأمر، ضمن الفضاء الأوربي، بتبادل لغوي بين تجارب تعليمية متكافئة، أم إن هناك ميتروبول استعماري يسعى إلى توظيف لغته لتحقيق الهيمنة والسيطرة ثقافيا ولغويا في البدء، ثم اقتصاديا وسياسيا في المنتهى ؟ ! – هل هناك من نظام تعليمي، داخل الفضاء الأوربي، تخلى عن سيادته اللغوية الموثقة دستوريا لصالح لغة بديلة، أم إن الأمر يتعلق فقط بالانفتاح على لغات إضافية دون المساس بالسيادة اللغوية لأية دولة ؟ – ما دام المجلس الأعلى للتعليم، ومعه خبراؤه، يسعون إلى ربط التعليم المغربي بالتجارب العالمية الناجحة، من خلال توظيف اللغات الأجنبية في التدريس، أليس الأولى أن تعطى الأسبقية للغة الإنجليزية، التي يجب أن تأخذ مكانة اللغة الفرنسية، وذلك من منظور قانون السوق اللغوية Le marché linguistique بتعبير السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو؟ – لماذا تم إعطاء الأولوية للغة الفرنسية كلغة أساسية في التدريس منذ التعليم الأولي، وبالتأكيد إلى حدود التعليم الجامعي، دون الالتفات إلى وضعية هذه اللغة في السوق اللغوية العالمية، حيث تعيش على وقع تراجع خطير جدا يعترف به الفرنسيون أنفسهم، ويسعون إلى توظيف اللغة الإنجليزية في التدريس ؟ – وفي المقابل، لماذا عبّر المجلس الأعلى للتعليم عن انفتاح محتشم على اللغة الإنجليزية، حيث تم تأجيلها إلى السنة الأولى إعدادي، بينما كان الأحرى أن تأخذ مكانة الفرنسية، ما دام أن التفكير منصب حول تحقيق انفتاح حقيقي على العلوم والمعارف الإنسانية المتداولة عالميا ؟ – بين تجربة التناوب اللغوي وتجربة المدارس الفرنسية-البربرية من حق أي متابع أن يتساءل، حقيقة، عن الخلفيات المتحكمة في هذا التقرير الإيديولوجي الملغوم، الذي يمارس لعبة خطيرة حينما يغامر بمستقبل التعليم في المغرب، ويرمي به في أحضان فرنسا التي تمتلك رصيدا كبيرا في استئصال الخصوصيات الثقافية واللغوية لمجموعة من المجتمعات الإفريقية التي تمت فرنستها بالكامل، لكن ذلك كان جزءا من المشكلة السياسية والتنموية في إفريقيا، ولم يكن جزءا من الحل. وفي علاقة بالمغرب، يجب أن نذكر بأن المشروع الذي (يبشرنا) به المجلس الأعلى للتعليم فيما يخص المسألة اللغوية، هو نفس المشروع الكولونيالي السابق الذي سعت فرنسا إلى استنباته في المغرب، عبر تجربة المدارس الفرنسية – البربرية التي كانت توظف اللغة الفرنسية كلغة أحادية في التدريس، منذ المراحل التعليمية الأولى، مع منع اللغة العربية من العملية التداولية برمتها. إن اللوبي الفرنكفوني المهيمن على المجلس الأعلى للتعليم، وهو يوصي بتعليم الفرنسية ابتداء من التعليم الأولي، مع توظيفها لتدريس بعض المواد الدراسية ابتداء من المرحلة الإعدادية، يكون قد نجح في إجهاض المشروع المجتمعي الوطني المنشود تحقيقه في المغرب، والذي تلعب فيه اللغة العربية دورا محوريا، وفي المقابل يكون قد نجح في فرض أجندته الخاصة عبر الولوج من بوابة التعليم، بعدما حقق اختراقا لمنظومة الإعلام وساهم في توجيه فئات عريضة من المجتمع المغربي إلى الوجهة لفرنسية، ضدا على إرادتها وطموحها في الانفتاح على تجارب عالمية مغايرة وناجحة. هل يجب أن نستسلم لهذه الوضعية الجديدة المدعومة بقوة الرأسمال المادي والرمزي ؟ تعلمنا التجارب السابقة أن الشعب المغربي كان دوما عصيا على الاختراق، وقد جربت فرنسا جميع الوصفات لإخضاعه لكنها كانت دائما تفشل في تحقيق رهانها، لقد تسرب إلى اللاشعور الاجتماعي المغربي نوع من الفرنس- فوبيا، ولا يمكن لأي مغربي يقيم علاقة تصالح مع ذاته الجماعية أن يقبل أية وصاية ثقافية أو لغوية فرنسية، وهنا يجب أن نذكر بأن الأغلبية الساحقة من الشعب المغربي لا تقيم علاقة ود مع اللغة والثقافة الفرنسية لأنها واعية بأنها جزء من المشروع الكولونيالي السابق الذي تطور، اليوم، إلى مشروع نيوكولونيالي يوظف أسلحة رمزية لتحقيق نفس الأهداف الاستعمارية السابقة. لذلك، يجب على الفاعلين الثقافيين والسياسيين والمدنيين الوطنيين أن يستثمروا هذه الحالة النفسية والاجتماعية لخلق حركية مقاومة للمشروع الفرنكفوني في المغرب، من خلال فضح جميع المحاولات التي توظف مؤسسات الدولة لإعلان حرب مكشوفة على مكونات الهوية الوطنية التي تشكل اللغة العربية محورها الأساس. نعم للانفتاح على اللغات العالمية الحية التي تساهم في تقدم الدولة والمجتمع مثل: الإنجليزية والألمانية والصينية في الطريق، ولا للفرنسية التي ساهمت في تخريب كل الامتداد الإفريقي عبر استئصال ذاكرته الجماعية وتخريب حاضره السياسي والاقتصادي. أبدا لن نكون فئران تجارب مرة أخرى.