مسامير: يكتبها كل أسبوع : مولاي التهامي بهطاط يقف المواطن العربي اليوم من المحيط إلى الخليج منبهراً بما يحدث في تركيا، وإن كانت المواقف الخارجية لساستها الجدد تحظى بالقسم الأكبر من الإعجاب بعد أن خلت الساحة العربية من زعماء يردون الاعتبار لأمة تعيش على هامش التاريخ والجغرافيا. ففي ظل التهليل لخرجات أوردوغان وغضباته التي أعادت الأمل لملايين “الخشب المسندة” في هذه المنطقة الجغرافية، غاب عن كثيرين أن الحكومة التركية الحالية اكتسبت كل تلك القوة والصلابة من الداخل. فهذه الحكومة لم تأت اعتمادا على انتخابات مزورة ولا على أكتاف المهربين وتجار المخدرات وأباطرة اقتصاد الريع، ولا بضغط من أية جهة خارجية، بل عبر صناديق الاقتراع الشفافة رغم أنها كارتونية عندهم وليست زجاجية كما عندنا.. لم يتساءل أحد كيف أن أمريكا وأوروبا لا تتجرآن على “الضغط” على تركيا، رغم أن ساستها الحاليين تجاوزوا كل الحدود في مواجهة إسرائيل “المدللة”، في الوقت الذي نشاهد فيه أن مجرد الاحتجاج الشكلي لأية حكومة عربية على مجزرة بشعة ذهب ضحيتها فلسطينيون أبرياء، تعتبر تلقائيا “انقلابا على السلام”، وتهديدا للمفاوضات، وتغييبا للشروط الضرورية لاستمرار “حسن الجوار”.. التفسير هنا بسيط للغاية، فحكومة تركيا منتخبة من الشعب، بينما حكوماتنا غالبا ما تفرزها أغلبية مغشوشة.. وينبغي أن نعي جيدا أولا وقبل كل شيء، أن الغرب لا يرى أي فرق بين أوردوغان وبن لادن على مستوى النتيجة والهدف النهائي وإن اختلفت الأساليب، لكنه طارد بن لادن إلى ان اقتنصه، وبمباركة الجميع، بينما ينحني أمام إرادة الشعب التركي..لأن الحكومة التي يكون الشعب خلف ظهرها لا تحتاج إلى الحصول على الرضى من أي أحد. ويكفي الرجوع إلى تصريحات بعض الساسة الأوروبيين في تعليقهم على طلب انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وكيف أنهم استنجدوا بمخزونهم التاريخي من قاموس الحروب الصليبية، إلى درجة المطالبة بالتنصيص على “الجذور المسيحية” في الدستور الأوروبي في دول تعلن بالإجماع علمانيتها.. المعادلة باختصار تتمثل في أن الحكومة التي تكون قوية اعتمادا على الديموقراطية الداخلية، يكون لها مكانها ومكانتها في الساحة الدولية، حتى لو لم تكن تتوفر على ترسانة نووية، ولا على وسائل للضغط والابتزاز. لكن النجاح التركي لم يأت من فراغ، بل بجد واجتهاد أجيال متلاحقة سلمت المشعل لبعضها البعض، وشاءت إرادة الشعب أن يجني جيل أوردوغان وغول ثمار هذا العمل المتواصل. لقد وقف الحكام الفعليون لتركيا على مدى عقود، من سدنة المعبد الأتاتوركي، مكتوفي الأيدي وهم يرون قلاعهم تهوي الواحدة تلو الأخرى، منذ سنة 2002، ولم تنفعهم كل المناورات والتهديدات في وقف قطار الديموقراطية الذي وضع على سكته الصحيحة. لقد كتبت سابقاً أن كثيرين في الداخل والخارج لم ولن يرضوا عن نجاح حزب العدالة والتنمية لأنه ببساطة شديدة سيعيد عقارب التاريخ إلى الوراء، بما أن الصوت “الإسلامي” سيكون حاضرا هذه المرة للدفاع عن “مصالح الأمة” -التركية أولا، والإسلامية ثانيا- وليس لمباركة الإملاءات الأجنبية. غير أن هذا الرفض اصطدم بإرادة الشعب التي تكرست في الاستفتاء الدستوري الأخير، والتي أكدت أن ملايين الأتراك يريدون التغيير، وأنه لا مجال لدفن هذه الإرادة أو تأجيلها، بما أن الشعب اختار السفر نحو المستقبل.. لقد بدا الأمر في انطلاقته صعبا إن لم يكن مستحيلا، فنحن نتحدث عن حزب ذي توجهات إسلامية في بلد قائم على العلمانية الصارمة التي تتدخل حتى في أخص الخصوصيات، وفي زمنٍ العدو الوحيد فيه هو الإسلام الذي تحركت لمواجهته أمريكا وحلفاؤها، في دول أنهكتها الحروب الداخلية (أفغانستان، الصومال، العراق..)، بجيوش بأعداد لم تسجل ربما منذ حرب فيتنام والكوريتين..غير أن ذلك كله لم يقف في وجه إرادة التغيير.. ومن المفارقات اللافتة، أن أوردوغان اقتبس خلال إحدى خطبه، دون أن يدري ربما، مقولة شهيرة للمغفور له محمد الخامس حينما وصف الحماية بالثوب الذي ضاق بالمغرب، وهو نفس الكلام الذي قاله رئيس الحكومة التركية عن دستور بلده الذي وضعه الانقلابيون الاتاتوركيون. هي في النهاية، سنة من سنن الكون، فالدساتير ليست قدرا نازلا من السماء ولا كتبا لا يأتيها الباطل من فوقها ولا من تحتها، أو قانونا من قوانين الطبيعة التي لا يمكن تغييرها أو التحكم فيها، بل هي مجرد بنود ضمن تعاقد اجتماعي قابل للمراجعة وإعادة القراءة كلما تغيرت أسباب النزول، أو تبدلت موازين القوى بين المتعاقدين. لكن مع ذلك يظل الخوض في شؤون الدستور عندنا في المغرب مثلاً، حتى بعد التعديل الأخير، أحد نواقض الوضوء السياسي، حيث ينصب سيل جارف من الاتهامات الجاهزة على كل من سولت له نفسه حتى مجرد الدعوة لفتح نقاش عمومي حول بند من البنود. فكثير من مهندسي المرحلة ما زالوا يراهنون على سقي الديموقراطية بالملعقة، في إطار مسلسل أصبح يضاهي المسلسلات التركية والمكسيكية في الطول.. وهذا هو الفرق مع الحالة التركية، فالساسة هناك يملكون تصورا متكاملا عن دولتهم في شؤونها الداخلية وفي موقعها على الخريطة الدولية، ولذلك كانت ثماني سنوات كافية لتحويل معالم الدولة من النقيض إلى النقيض، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا..وحتى فنيا بما أن المسلسلات التركية أصبحت عابرة للقارات.. بل أصبحت مواقع تصويرها مزارا سياحيا للعرب ذكورا وإناثا.. وخلف هذا تقف عقول وأدمغة حقيقية، فلو انشغل أوردوغان وزملاؤه بالنقد الفني، وبأخبار السينما، وبحروب الحجاب والنقاب..لما نجحوا في هذا الوقت القياسي في الانقلاب على الانقلابيين دون إراقة قطرة دم واحدة. كما أنهم برهنوا في أقل من ولايتين تشريعيتين على أنهم قادرون على الإصلاح والتغيير.. وغيرها من المصطلحات التي صارت مبتذلة عندنا بل فقدت معانيها من كثرة التكرار. لقد حققت حكومة العدالة والتنمية معجزة اقتصادية، وفتوحات في السياسة الخارجية، ولم يعد اسم البلد مرتبطا بالمافيا والفساد وخرق حقوق الإنسان، بل إن رجال المال والأعمال في هذا البلد يدعمون الحكومة “الملتحية”، رغم أن العادة جرت على العكس من ذلك في بلاد الإسلام، لأن رأس المال يبحث عن الربح السريع والمضمون، والحكومة التركية الحالية فتحت أمامه أسواق الشرق حتى أن البضائع التركية، من اللوازم المدرسية إلى المسلسلات المدبلجة، تجاوزت حدود الأمبراطورية العثمانية في عصرها الذهبي.. ووصلت إلى أعماق إفريقيا.. ومن هنا فإن المشكلة في اعتقادي تكمن في وجود عنصرين حاسمين في الحكم على تجاربنا السياسية بالجمود والفشل، ليس في المغرب فقط، بل حتى لدى باقي “الأشقاء”: العنصر الأول يتمثل في غياب الإرادة الحقيقية للتقدم والارتقاء بشكل عملي وليس عبر الشعارات الزائفة التي يصوغها ويسوقها الإعلام الحكومي الموجه. أي أنه لا وجود لرغبة صادقة في الخروج من التقوقع الحالي. أما العنصر الثاني فيتعلق بعجز الطبقة السياسية -خاصة في البلدان العربية التي تعرف انفتاحا نسبيا كما هو الشأن بالنسبة للمغرب الذي وصلت فيه المعارضة “التاريخية” إلى سدة الحكم، وسكنت فيها لأكثر من عقد من الزمن حتى الآن- عن تحقيق شيء يذكر، بل إن الإبداع الوحيد تمثل في اختراع مشاجب جديدة لتعليق الفشل عليها، علما أنه منذ إطلاق تجربة التناوب وإلى الآن لم تكن أية حكومة مغربية في مواجهة “جيوب لمقاومة التغيير” من حجم وقوة تلك التي واجهتها وتواجهها الحكومة التركية الحالية، بل لربما سيجل التاريخ أن الأحزاب “الوطنية والديموقراطية” ضيعت على المغرب فرصة التغيير الحقيقي بسبب عجزها عن الاستغلال الأمثل للحظة تاريخية لا تتكرر في حياة الشعوب إلا نادرا. إن أهم ما في الدرس التركي، بالنسبة لنا نحن في المغرب تحديدا، هو أن الديوقراطية في الداخل تتحول إلى مكاسب ثمينة في الخارج، فتركيا واجهت الانفصاليين الأكراد بسلاح الديموقراطية الحقيقية الذي يظهرهم في حجمهم الحقيقي كأقلية في مواجهة أغلبية. فقبل عشر سنوات كانت تركيا مجرد مخزن أسلحة للحلف الأطلسي، وقاعدة لتهديد الجيران والتجسس عليهم، ومع ذلك كان الانفصال حاضرا بقوة والإرهاب كذلك، واليوم اختفى كل شيء اللهم بعض العمليات التي تنفذ تحت الطلب من شمال العراق وبتمويل وتخطيط إسرائيلي..بل خفتت أصوات دعاة حقوق الإنسان التي غالبا ما تحاصرنا في المغرب حتى لو تعذر على أميناتو حيدر الذهاب إلى “حمام الحومة” بسبب انقطاع الماء عن الحي لأسباب خارجة عن إرادة الإدارة. ختاما، هناك طريقان لا ثالث لهما: إذا كنا نريد أن نجد لأنفسنا مكانا على “المائدة”، فلا مناص من الاتجاه نحو الديموقراطية الحقيقية التي تعطي لكل ذي حق حقه، بعيدا عن ممارسة الوصاية على الشعب والتفكير نيابة عنه ومصادرة حقه في الاختيار..فحتى لو أخطأ في المرات الأولى..فإن كل شعوب العالم تعلمت من أخطائها.. أما إذا كنا سنستمر في ادعاء أننا تجربة “يتيمة الدهر وفريدة العصر”، ونكتفي بما يقوله في حقنا حفنة من المنافقين الأجانب ممن يرون فينا ما لا نراه حتى نحن في أنفسنا من رقي وتقدم وازدهار..فالمعروف أن مزبلة التاريخ لا تحتاج إلى اقتطاع تذكرة..