تناسلت في الآونة الأخيرة مقالات وجدت طريقها إلى النشر خاصة عبر العديد من مواقع الأنترنيت، تتقاطع جميعها في تقديم تعريف جديد للديموقراطية، لا يمكن هذه المرة إدراجه تحت مسمى “الخصوصية المغربية” التي اعتاد البعض التخفي وراءها لتحريف الكثير من المفاهيم والمصطلحات. النغمة الجديدة يعزفها أشخاص يدركون قبل غيرهم أنهم لا يملكون أية أسهم في البورصة الانتخابية، بل منهم من هو على يقين بأنه كلما ارتفع معدل الشفافية والنزاهة إلا واتجه هو نحو قعر أعمق، لأن السبب الوحيد لاستمراره في إحداث الضجيج يرجع بالأساس إلى حالة عدم الوضوح في الرؤية وإلى غياب الحسم في الخيارات بشكل نهائي : إما الديموقراطية الفعلية، وإما الهاوية. والحالة المغربية هنا ليست استثناء، بل هي حالة عامة في المنطقة العربية حيث انعزلت النخب عن محيطها، واكتفت بالنظر إلى الواقع من فوق، وعندما تحركت الشعوب، لم تجد هذه “النخب” سوى الهرب إلى الأمام وسيلة للتغطية على غيابها، عكس ما حدث في أوروبا الشرقية وفي كل الدول التي تخلصت من ديكتاتورياتها، حيث تلمست طريقها نحو الديموقراطية بيسر وسهولة وتلقائية..بتوجيه طبعا من “النخب” التي حمت الشعوب والدول من الوقوع في الفراغ ومن الدوران في متاهة “المرحلة الانتقالية” اللامتناهية.. ذلك أن المكان الحقيقي للنخب هو في المقدمة، لأن دورها هو إنارة الطريق أمام الجماهير، لا الاعتكاف في أبراجها أو جحورها وانتظار حصول الفعل لتسجيل ردود الفعل. فخلال الأسابيع الأخيرة، أي قبل أقل من شهرين على أول انتخابات تشريعية تحت الدستور الجديد، وعلى هامش تفاعلات “الربيع العربي”، تواترت المقالات “التنظيرية” لديموقراطية أقل ما يقال عنها، إنها تحتقر المواطن، وتصادر حقه في الاختيار الحر النزيه. وحسب هؤلاء “الكتبة” فإن الديموقراطية ليست مجرد أرقام صماء، بل هي ضمانات والتزامات وشروط يحددها من لا يؤمن أحيانا بحق الشعب في الاختيار الحر والنزيه..وغاب عن هؤلاء أن هذه النظرية هي التي ضيعت على المغرب نصف قرن في تجارب فاشلة. فلو أن أصحاب القرار منذ أول انتخابات جرت في بداية الستينات وحتى آخر انتخابات جرت نهاية العشرية الأولى من الألفية الثالثة -مع مراعاة فروق الزمان والمكان- اقتنعوا بأن الديموقراطية تتكلم لغة الأرقام فقط، لما احتجنا إلى حركة 20 فبراير وإلى الهرولة “الإصلاحية” التي تتالت فصولها في وقت قياسي خلال الربيع والصيف الماضيين. بعبارة أخرى، الخطاب الذي يتم الترويج له حاليا هو في غاية الخطورة، لأنه يكشف عن نية مبيتة لدى جهة ما تنطق باسمها بعض الأبواق، للتحكم في الخريطة الانتخابية أو تبرير تدخلاتها من وراء ستار إذا تطلب الأمر ذلك. فهل يعقل أن يأتي الدستور الجديد بتدابير تثمن الاختيار الشعبي وتحترم إرادة الأغلبية، وفي نفس الوقت يتفرغ البعض للترويج لأفكار “انقلابية”، “تعفس” في المقتضيات الدستورية الجديدة وتعمل على إفراغها من مضمونها؟ إن العزوف عن ممارسة السياسة لا يبرره فقط استخفاف المواطن أو لامبالاته بالمشاركة في الحياة السياسية، بل مرده إلى سنوات من الغبن أصبح فيه صوته الانتخابي لا يساوي شيئا، لأن جهة ما كانت تتدخل دائما للالتفاف على خيار الأغلبية. فالاتحاد الاشتراكي حصل على أزيد من نصف مجلس النواب في انتخابات 1977 -حسب بعض الروايات- لكن هذه الحصيلة تقلصت – بفعل فاعل- مقابل تضخم حصة الأحزاب الإدارية..وهو سيناريو تكرر في جميع المحطات الانتخابية التي عرفها المغرب، وإن تنوعت أسماء المغضوب عليهم والمحظوظين..وكذا أساليب التزوير والدعم والإقصاء.. إذن كيف لا تكون الديموقراطية مسألة حسابية في نهاية المطاف؟ أليس عدد الأصوات المحصل عليها هو الذي يحدد عدد المقاعد، التي ترسم بدورها معالم الخريطة السياسية في كل البلدان التي هبت عليها رياح الديموقراطية الفعلية؟ إن محاولة خلط الأوراق مرة أخرى لن يؤدي سوى إلى دخول المغرب في دوامة جديدة، لكن في زمن لم يعد فيه متسع لحلقات جديدة من “المسلسل الديموقراطي” و”التجارب الانتخابية”. والذين يروجون اليوم لسيناريوهات، بلغت أحياناً حد التهديد بعدم “قبول” أية نتائج لا ترضي أهواءهم، لا ينبغي التعامل مع خطابهم على أنه مجرد طلقات في الهواء، بل لابد من أخذ ما يقولون بعين الاعتبار، فجيوب مقاومة التغيير التي أخرجت اليوسفي من الباب الخلفي، ودفنت كل ما حققه ك”وزير أول” مكبل ببنود الدستور القديم، ودون أن يترك له المجال للتأسيس لعرف دستوري يعيد الاعتبار للمنصب الذي شغله، لن تقف مكتوفة الأيادي وهي تشاهد انهيار ما بنته من أحلام على هامش السيرورة التاريخية التي أخذت اتجاها آخر في الشهور الأخيرة. فالصلاحيات التي أسندها الدستور الجديد لرئيس الحكومة، تحتاج أولا إلى شخص حاز هو أو حزبه ثقة أغلبية من نوع ما، أي نجح في امتحان “الحساب” الذي يرفض البعض أن يكون معيارا للفصل بين المتنافسين على غنائم الحكومة المقبلة، كما تحتاج إلى شخص يعطي أوسع تفسير ممكن للنصوص الجامدة. وهذه نقطة لا ينبغي المرور عليها مرور الكرام. فرئيس الحكومة المنتظر، هو من سيسن “الأعراف” لمن سيأتي بعده، وإذا تنازل عما هو من حقه وترك سلطة تفسير وتأويل وتنزيل النصوص للجهات إياها، التي واكبت التفصيل والخياطة، وتريد اليوم أن تلعب أيضا دور “النكافة” التي تتحكم في كل برنامج “العرس الديموقراطي”، فقد نكتشف في نهاية المطاف أن كل ما تغير هو اللقب البروتوكولي. أما إذا مارس “رئيس الحكومة” المنتظر صلاحياته وفق ما قيل عند وضع الدستور، وتبعا للوصلات الدعائية التي مازال الأرشيف التلفزي يحتفظ بها، ولم يسمح بالتالي بتقليم وتشذيب النصوص بناء على المتغيرات، فآنذاك فعلا سنكون أمام تغيير حقيقي، لن يتم بطبيعة الحال على يد مناضل حزبي أسري به ليلاً من الهامش إلى دائرة الأضواء، وقنع من الغنيمة باللقب الجديد. ومن هنا تأتي أهمية علم الحساب في الديموقراطية، ولنستحضر فقط ما قاله وزير الداخلية الراحل إدريس البصري من باب السخرية بالاتحاد الاشتراكي عندما صرح بأنه يمكن لهذا الحزب أن يصلح في حدود ال13 في المائة هي كل ما حصل عليه من أصوات أهلته لقيادة حكومة “التناوب التوافقي”، والأمر لا يختلف اليوم كثيرا، لأنه إذا كان الحزب الذي سيؤول إليه منصب رئيس الحكومة قد حصل على نصف مليون أو حتى مليون صوت، فلاشك أنه سيكون أضعف من ممارسة مهامه بما أنه لا يمثل حتى خمس المواطنين. ومن هذه الزاوية ينبغي أن نقرأ سعادة البعض بتخفيض العتبة، بل وسعي كثيرين إلى إلغائها بالمرة، لأن من شأن ذلك أن يجعل الشتات الحزبي ممثلا في مجلس النواب، وبالتالي نكون أمام رئيس حكومة حصل حزبه على “ثقة” أقل حتى من ساكنة مدينة سلا. الديوقراطية هي لغة الأرقام، والبلدان الرائدة في هذا المجال أدركت هذه الحقيقة مبكرا، ولذلك عمدت إما إلى رفع العتبة أو إلى اعتماد نمط الاقتراع على دورين، الشيء الذي يؤدي إلى إفراز قوى سياسية حقيقية، وإلى رئاسة حكومة يدعمها ثقل جماهيري وكتلة ناخبة وازنة، والمثالان الفرنسي والإسباني غنيان عن كل تعليق. لقد حذرت مرارا وتكرارا في هذه الزاوية المتواضعة من خطر حقيقي يتربص بالمغرب منذ دخول عهد الانفتاح مرورا بتجربة التناوب التوافقي. ويتمثل هذا الخطر تحديداً في زواج مصلحي بين “نخبة” لا تؤمن بالديموقراطية لأنها تعرف القيمة الحقيقية لأسهمها في بورصة الانتخابات، وبين جزء من النظام نفسه لم يتحرر لحد الساعة من منطق الاستخفاف بإرادة الشعب، بل يعتقد أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، وأن القبضة الحديدية صالحة لكل زمان ومكان.. وإذا تحقق هذا الزواج..فالأكيد أن المغاربة لم يروا الأسوأ بعد..