أسالت أحداث مدينة تازة الكثير من المداد، والكثير من الخرجات الإعلامية، والبيانات والبيانات المضادة، وتحول البعض إلى محلل سياسي، وخرجت أصوات سياسية مبحوحة من داخل المدينة كانت قد خمدت، وطواها النسيان، بل تنافست حتى الأحزاب السياسية لركوب الموجة وإعطاء الحلول التي عجزت عن تقديمها حين كانت تباشر تسيير الشأن المحلي أو الوطني، ومع ذلك سأعود لهذا الموضوع لعلني أرفع شيئا من اللبس، ولأن المحلل السياسي وعالم الاجتماع لن يستطيعا، مهما حاولا الخروج بخلاصات تشرح الواقع الاجتماعي الزئبقي الذي تعيشه ساكنة تازة مثلها مثل باقي المناطق المغربية، ساكتفي ب أولا: في 25 نونبر أعطى سكان تازة الثقة لأحزاب اليمين أو بتعبير اقتصادي لليبراليين باستثناء مقعد واحد أعطي لليسار إذا كان الاتحاد الاشتراكي لازال يحسب على اليسار بفضل أصوات سكان دائرة واد أمليل، وبصيغة سياسية تازة تنتمي لهذه الأغلبية التي تحكم، إذن ليس هناك تطرف، ولسنا أمام ظاهرة كومونة باريز.
قبل ذلك تازة مثل باقي الأقاليم التي عاشت على وقع الفساد الانتخابي ...و تفسير الواضحات من المفضحات في هذا الباب، لاننا في إقليم فقير سواء على المستوى الاقتصادي الاجتماعي وكذا المستوى الثقافي، وبالتالي يقول المثل العربي "يداك أوكثا وفوك نفخ"، أي "اللي ضرباتو يدو مايشكي".
كما انها أصبحت مكتظة بالسكان العاطلين بسبب الهجرة القروية حتى أصبحت المدينة قرية كبيرة، فهذه الحاضرة نموذج لظاهرة ترييف المدن، ولأن المدينة تفتقد للنشاط الصناعي سواء كانت صناعة حديثة أو تقليدية، وحتى مؤهلاتها السياحية لم تشفع لها لأن الاستثمارات غائبة في هذا القطاع. أما الفلاحة المحيطة بالمدينة فهي معاشية ولا تسمن ولا تغني من جوع حتى بالنسبة للفلاح الممتهن الفقير الذي اضطره الخصاص وسنوات الجفاف المتوالية لدخول المدينة، وبسبب وجود جالية مغربية كبيرة بالخارج فقد اهتمت بمجال العقار فقط، وفيما بعد ظهرت فئة (لوبي) محلي اغتنى بفضل هذه الظاهرة حتى أصبحت قيمة الأرض أغلى وتصنف في المراتب الأولى وطنيا.
خلاصة القول أن البطالة مستشرية في هذه الحاضرة الشيء الذي اضطر المواطنين إلى الزحف على الملك العمومي فتحولت المدينة إلى اسويقة دائمة الانعقاد، وهذا الحل ما هو إلا بطالة مقنعة، ولأن الحراك الذي سمي بالربيع العربي هب على المغرب كذلك فإن خروج الناس للتظاهر بالشارع ما هو إلا تعبير عن الوضعية الاقتصادية الاجتماعية المزرية التي تعيشها الساكنة، فهل استطاعت الدولة نفسها أن تجد حلولا للبطالة على المستوى الوطني فبالأحرى مدينة يتيمة.
أما قضية فواتير الماء والكهرباء فلم تكن إلا النقطة التي أفاضت الكأس، ومع ذلك كيف يعقل ألا يزورك موظف المكتب الوطني للكهرباء لمعاينة العداد لأكثر من ستة أشهر – حسب شهادة المكتب نفسه – لتطلع عليك الفاتورة برقم خيالي، بل وحتى خدمات المكتب مزرية والإنارة العمومية تثبت ذلك. ثانيا: اتهمت بعض الأطراف وعلى رأسها بعض الوزراء أن أيادي خفية تقف وراء الأحداث وفي نفس الوقت تتوعد بتطبيق القانون في حق الجناة وتربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي ذلك تناقد صارخ لأن عليهم أن يوضحوا من هي الأيادي الخفية ويقدمونها للمساءلة حتى لا تغرر تلك الأيادي القذرة بأبنائنا وبناتنا. أما إذا كانت تلك الادعاءات خالية من الصحة فإن الحكومة المحترمة تفقد هيبتها واحترامها، أما إذا كان المقصود بتلك الأيادي الناس الذين يقدمون الإسعافات للجرحى فهذا درس جديد في التعذيب. ما وقع بتازة شيء رهيب، التدخل العنيف من قبل جهاز الأمن ثابت، و التهديد ثابت، وإرهاب الأطفال والساكنة عامة ثابت، وعسكرة المدينة ثابت (ليس نسبة للعسكر بقدر ما هي لتلاوين الأمن)،...وبالنتيجة فكل الأيادي خفية إذن. ثالثا: من جهة أخرى اتهمت الحكومة بعض المنابر الإعلامية خاصة منها المواقع الإلكترونية بتأجيج الوضع، وإذا كان المقصود هو أن تخفي تلك المواقع الحقيقة، وتردد الأغنية التي ملها الناس: "وا كولوا العام زين"، فإن الاستنتاج المحصل هو إما أن المخزن القديم لازال يحكم، أو أن حكومتنا الحالية تعيش خارج التاريخ وقد برهنت الأحداث العالمية أن المعلومة لم يعد المجال رحبا لإخفائها، وحتى ولو أوقفتم هذه المنابر فإن المعلومة ستستمر في الانهمار، أفلا تعرفون مفعول الفايسبوك والتويتر...إنها المواقع الاجتماعية التي تتخطى الحدود والعيون والآذان، و يكفي التدليل أن الطفل الذي زعمت بعض المنابر الإعلامية الورقية أن الصورة لطفل من غزة كشفت عنه الإليكترونية أنه من تازة و ما تحفظت عنه القنوات العمومية سطع على نظيرتها الرقمية (اليوتوب). رابعا: تتحدثون عن الحوار، فمن يحاور من؟ إن سياسة تسطيح الأحزاب السياسية ، والبيروقراطية التي سلطت على الجمعيات الجادة، وسياسة مواسم الجبال والهضاب والسهول قد أعطت أكلها، وأقولها بمرارة المواطن الغيور فكلما اجتمعت طائفة من الجماهير ولأنها غير منظمة وغير مؤطرة، فعوض أن تظهر بمظهر الجماعة البشرية الدينامية تتحول إلى قطيع هائج، فبمدينة تازة الآن العامل متجاوز، رئيس الجماعة متجاوز، الأحزاب متجاوزة، الجمعيات متجاوزة، فبمن ستثق الجماهير، وحتى وزير الداخلية الحقيقي زار المدينة خفية ورفع تقريرا بوليسيا سريا، ووزير الداخلية على الورق أدلى بتصريحات مخزنيه بائدة، وحكومة ابن كيران حائرة أو تنتظر البركة، وهي الغارقة في الاتكالية. السادة رجال الحكومتين المغربيتين (!)، ما وقع في مدينة تازة تعرفونه عن ظهر قلب، لأن أجهزتكم وصلت لوضع اليد عن الظاهر والخفي لأنها عيون السلطة التي لا تنام، ومدينة تازة هي نموذج للفقر والفاقة والفساد الإداري وضعف البنيات الاقتصادية وضعف الخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية، إن تراكم المشاكل وطغيان الفساد يؤديان إلى فساد العمران على حد تعبير ابن خلدون،...المشهد إذن دراماتيكي، والمشاكل بنيوية، والحلول بيد الله، وتازة على صفيح ساخن، وتصبحون على وطن.
أحمد التازي
تعليق الصورة: أم تطالب بإطلاق سراح فلذة كبدها المعتقل على خلفية أحداث تازة.