تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات    مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    كيوسك السبت | أول دواء جنيس مغربي من القنب الهندي لتعزيز السيادة الصحية    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحليل ثقافي واحتجاج ميداني.. بلقزيز يستشرف قضية فلسطين بعد "طوفان الأقصى"
نشر في هسبريس يوم 08 - 10 - 2024

وجوه مغربية سياسية ومدنية وثقافية بارزة، لبّت موعد إحياء "الذكرى الأولى لمعركة طوفان الأقصى" المنطلقة من غزة الفلسطينية ضد المستوطنات الإسرائيلية في محيطها، وكانت في صفوف مسيرة العاصمة إلى جانب مغاربة آخرين من مختلف الانتماءات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ فضلا عن متضامنين وحّدتهم مع آخرين الكوفية الفلسطينية والأعلام المغربية والفلسطينية واللبنانية.
من بين هذه الوجوه البارزة التي حضرت مسيرة الأحد 6 أكتوبر بالرباط المفكر والأكاديمي المغربي عبد الإله بلقزيز، الذي أعلنته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "ألكسو"، سنة 2024 الراهنة، "رمزا للثقافة العربية"، في إطار تقليد "رموز الثقافة العربية"، الذي كان قد منح هذا اللقب للشاعر الفلسطيني محمود درويش والفنانة اللبنانية فيروز.
بلقزيز، الذي حمل في محطة من محطات مسيرة الرباط لافتة تنعي إسماعيل هنية وحسن نصر الله، القياديين في "حماس" الفلسطينية و"حزب الله" اللبنانية، شارك، السنة الفارطة، في تفكيك لحظة "7 أكتوبر" وما شكلته بالنسبة إلى الواقع على أرض فلسطين المحتلة، والوعي الدولي، وقلب مفاهيم وآراء كانت تبدو مسلمة قبلها.
محطة أولى
من أولى المبادرات التي ظهر فيها اسم بلقزيز بعد "7 أكتوبر 2023" رسالة مفتوحة وجهها في الشهر نفسه مثقفون من المنطقة المتحدثة باللغة العربية إلى "مثقفي الغرب" ووقعتها أسماء بارزة؛ من بينها من المغرب: عبد الإله بلقزيز، علي أومليل، محمد برادة، محمد بنيس، محمد نور الدين أفاية، محمد الأشعري، صلاح بوسريف، عبد الرحمن طنكول، حسن نجمي، أحمد المديني، عبد القادر الشاوي، مبارك ربيع، نجيب العوفي، شرف الدين ماجدولين، فريد الزاهي، موليم العروسي، وفاء العمراني، محمد المعزوز، سعيد المغربي، عبد الكبير ربيع، وعز العرب العلوي.
وتقول الرسالة إنه رغم ما ظن من تقاسم مبادئ حقوق الإنسان نفسها، من حرية وعدالة ومساواة وحماية للكرامة الإنسانية، ونبذ للتعصب والعنصرية، ونبذ للحرب ودفاع عن السلم، ورفض للاحتلال، واعتراف بحق الشعوب في استرداد أراضيها المحتلة وفي تقرير المصير والاستقلال الوطني، فإن المثقفين شعروا "بوجود فجوة هائلة بين ما تميل الثقافة في الغرب إلى الإفصاح عنه من رؤى وتصورات ومواقف تتمسك بمرجعية هذه المبادئ، نظريا، وبين ما تترجمه مواقف القسم الأعظم من المثقفين -في الوقت عينه- من ميل إلى مناصرة الجلاد المعتدي على حساب حقوق الضحية المعتدى عليه والمحتلة أرضه، أو من الصمت على جرائمه المتكررة".
وتابع الموقعون: "نشعر (...) بالفجوة الهائلة بين مبدئية مواقف مثقفي الغرب في شأن قضايا أخرى في العالم – نشاطرهم الموقف في ما هو عادل منها – وبين لوذهم بالصمت والتجاهل حين يتعلق الأمر بقضية فلسطين وحقوق شعبها في أرضه؛ الحقوق التي اعترفت بها قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة!".
وزادت: "ما أغنانا عن القول إن الفجوتين هاتين تترجمان مسلكا ثقافيا قائما على قاعدة سياسة (ازدواجية المعايير)؛ الأمر الذي نستقبحه لأنه يمس، في الصميم، رسالة الثقافة والمثقفين".
وأردفت قائلة إنه إذا كان واقع الحال أن "السياسات الرسمية الغربية الممالئة لإسرائيل، والمتسترة على جرائمها، تبغي تزوير نضال الشعب الفلسطيني وحركة الوطنية عن طريق تقديمه بوصفه 'إرهابا'، فينبغي أن لا ينساق قسم من مثقفي الغرب إلى لوك هذه المزعمة الكاذبة؛ لأن لهؤلاء الذين يروجونها من السياسيين مصالح من وراء ذلك لا صلة لها بمصالح شعوبهم ولا بمصالح مثقفيهم، ناهيك عن أن اتهام المقاومة ووصفها ب(الإرهاب) انتهاك صارخ لمبادئ القانون الدولي الذي يقر بحق الشعوب في تحرير أراضيها المحتلة بالوسائل كافة، بما فيها المسلحة".
محطة ثانية
في مداخلة عرضها برنامج "في الاستشراق" الذي يقدمه على "منصة مجتمع" الإعلامي المغربي ياسين عدنان، قال بلقزيز: "كانت أوروبا مسرح حروب دينية بين جماعات من معتقدات مختلفة، فجاءت العلمانية لفك الاشتباك بينها، وإخراج الدولة من براثن الحروب الدينية (...) أما اليوم فالديانة الوحيدة التي يعتنقها الغرب هي الرأسمال، وهي الإله الذي يؤمن به، والتعبير عنه هو المصلحة".
وتابع: "العقيدة في الوعي الغربي الجمعي هي: أنا كانت المصلحة فثمة عقيدتنا. لذلك، ينبغي ألا نستغرب كثيرا ظواهر كالتي نراها (اليوم)؛ القوة فرضت نفسها، أمريكا فرضت نفسها على العالم سواء بجلت الله أو قدحت في الذات الإلهية، فذلك يسري على الأوروبيين، والمصلحة تقتضي أن تفرض دولة المعايير الكونية، رغم وجود مجتمع دولي وميثاق وقانون (بين قوسين)، إلا أن شريعة الأقوى هي من تفرض نفسها، وهؤلاء الصغار يرتضون الخضوع لهذه الشريعة وأن يساهموا أيضا في تقديم السخرة لها، وينبغي ألا ننشغل كثيرا بقصة العلمنة في الغرب، وهل تخلى عن علمانيته؟ فإلى حدود الآن، الغرب يقول إن الحضارة الغربية هي القائمة على التراث الديني اليهودي المسيحي، فماذا ترك لك لتقول له؟! فقد بلع لسانه ومعه العلمانية، لأن المصلحة تقتضي هذا".
واسترسل صاحب سلسلة "العرب والحداثة" قائلا: "نحن من صرنا حريصين على تراث الأنوار، ونحن الذين جعلناه تراثا إنسانيا، من عرب وصينيين وهنود ولاتينيين... عن قناعة، ولم يبق فقط تراث أوروبا، لأننا تبنيناه وتشربناه واستوطن نسيجنا الثقافي، وإن تنكروا له ينبغي أن نكون أحرص على التمسك به"، ف"الغرب ليس متمسكا بتراثه، ومنذ بدء حركة الاستعمار في نهاية القرن الثامن عشر، دمر الغرب كل بنيانه الحضاري وتحول إلى عدو لذاته وللعالم، والرأسمالية غيرت البشرية، هذا الوحش الذي اسمه الرأسمال غيّر كينونة الإنسان، والخيال الإنساني، والذوق الإنساني، والخيارات الإنسانية. لذلك، أوروبا والغرب ثمرة للرأسمالية"، ومعنى ذلك أنها جبّت ما قبلها".
ثم أردف قائلا: إن "محاولة يتيمة" قد تمت "في العهد الكينزي في ما سمي بنموذج الدولة الاجتماعية، ونجح ذلك من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى النصف الثاني من السبعينيات، وهي لحظت انتهت، وفيها بنت أوروبا أمجادها. وجاءت ليبرالية الرأسمالية المتوحشة مع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، وهي استمرار لأبشع أنواع العبودية في العصور القديمة، بوسائط أفعل في إيذائها للإنسان والحقوق الإنسانية، وهي التي جنت على البشرية كل الجرائم التي نعيشها".
ووضح المفكر أن "المنعطفات الكبرى" من النهضة، والإصلاح الديني، والثورة العلمية، والثورة الصناعية، وحركات التوحيد القومي، والثورة السياسية، وعصر الأنوار "كل هذا من فتوحات أوروبا التي تحسب لها، لكن في المقابل ينبغي ألا نغالي كثيرا في النظر إلى هذه الفتوحات إلى درجة أسطرتها، كما تفعل بعض خطابات التبجيل المركزي الأوروبي، والغربي عموما، إلى حدود محاولة تكريس الانطباع بأن هذه هي المعايير المعتمدة لقياس درجة التقدم أو التحضر أو التمدن في أصقاع العالم"، فهي "فتوحات لكن علينا النظر إليها نقديا".
وشدد بلقزيز على أن "أوروبا اليوم أيضا ضد تاريخها التحرري في سياسات دولها وحكوماتها، ومواقف نخبها، وخطابات مثقفيها. كلها تنكرت لهذا الماضي التحرري الذي أعتبره اللحظة الإنسانية الخلاقة في التراث الأوروبي التي صارت جزءا من التراث الإنساني، والتي علينا أن نستنقذها لا أن تترك تحت تصرف مهندسي الخطابات النيوكولونيالية والنيوليبرالية المعاصرة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا، أما أوروبا فلا يعنيني أمرها فلتنقذ نفسها أو لتتورط كثيرا".
كما ذكر المتحدث أن "التنميط والإرغام وفرض المعايير الوحيدة على كل العالم هو البرنامج الثقافي والسياسي للمشروع الغربي في حقبته الأمريكية الراهنة، وكل الدعوات التي تتعالى في العقود الأخيرة نحو بناء نظام عالمي جديد متوازن، والاعتراف بمجالات حضارية أخرى صارت لها مكانتها في المعارف والعلوم والإنتاج الاقتصادي وغيرها، هذه المعركة الكبرى الحقيقية التي علينا أن نخوضها اليوم، لا أن نضيع وقتا طويلا في الحديث عن فكر الغرب وثقافة الغرب".
محطة ثالثة
من بين المحطات التي حلل فيها بلقزيز مستجدات ما بعد "الطوفان" ملف شاركت فيه أسماء ثقافية وأكاديمية مغربية بارزة ضمته فصلية "النهضة" الفكرية في ماي 2024؛ من بينها: علي أومليل، فتح الله ولعلو، محمد الحبيب طالب، محمد الأشعري، عبد القادر الشاوي، مالكة العاصمي، سعيد يقطين، كمال عبد اللطيف، صلاح بوسريف، نور الدين العوفي، أحمد المديني، إدريس هاني، محمد المحيفيظ، عبد الباقي بلفقيه، عبد الجليل طليمات، عبد العالي حامي الدين، مصطفى المعتصم، وعمر الزيدي.
وكتب أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء أن "سياسات دول الغرب تلك تجاه الفلسطينيين والعرب ما برحت تفصح، حتى الآن، عما يكتنفه جوفها من نظرة استعمارية، عنصرية وتحقيرية كريهة، إلى مجتمعاتنا وشعوبنا وحقوقنا!"، وهذا ما يثبته: "إصرار دول الغرب على دعم العدوان، ماديا وسياسيا ومعنويا، وتبريره، وعلى حماية دولة الاغتصاب من القصاص القانوني الدولي على جرائمها البربرية باستخدام سلاح النقض في مجلس الأمن، والرفض القاطع من قبلها لأي وقف للحرب بذريعة الخشية من إفادة المقاومة منها لإعادة بناء قواها، وإمعانها في تجاهل الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وفي تجاهل وجود احتلال لأرضه بالقوة الغاشمة والتعامل مع المواجهة الحالية وكأنها بدأت في 7 أكتوبر الماضي لا قبل ستة وسبعين عاما، وإصرارها على إدانة الحركة الوطنية الفلسطينية وتزوير هويتها التحررية عن طريق تقديم المقاومة بوصفها 'إرهابا'، ثم مشاركتها المباشرة في عملية الإبادة الجماعية لشعب فلسطين في غزة عن طريق الصمت عن جرائم الاحتلال والقتل الجماعي اليومي والتدمير الشامل للبنى ولشروط الحياة والتهجير القسري للمدنيين، وتبرير ذلك كله بمعاودة التأكيد على 'حق إسرائيل في الدفاع عن النفس".
وأضاف: "حرب السابع من أكتوبر لم تكن أول امتحان يفضح موقف الغرب، ويميط النقاب عن الفجوة الخرافية التي تفصل سياساته المطبقة تجاهنا عن المبادئ التي يزعم أنه متمسك بها وأنها حاكمة خياراته، إلا أن الحرب هذه مثلت المناسبة الكبرى لوضع خطابه وسياساته موضع الاختبار الدقيق (...) ولقياس المسافة الخرافية بين مقوله الإيديولوجي الكاذب وأفعاله السياسية النكراء، وتماديه في غيّ عقيدة المعايير المزدوجة. وكانت النتيجة مزيدا من انفضاح المخبوء العنصري والاستعلائي والعدواني في سياساته، بل في ثقافته السياسية الرسمية".
ودخل "طوفان الأقصى"، حسب قراءة بلقزيز، على خط "العلاقة المضطربة بين العرب والغرب، وأعاد اختبارها في مجرى امتحانه غيرها من العلاقات (...) علاقة ما كانت طيبة منذ بدايات عهدها الحديث، يحتفظ كل طرف للآخر بصورة عنه في غاية السوء فيحشد لتبريرها من الشواهد أو الخيالات ما يفيض عن حاجة التسويغ، ويجهد الجهد الكبير كي يبدو الضحية في علاقة معقدة بآخره". وبالتالي، "حدث السابع من أكتوبر أحيا، من جديد، هواجس الصدام بين العالمين، فقرئ هجوم المقاومة على معاقل المحتل بوصفه هجوم الشرق على الغرب وهجوم الإسلام على اليهودية – المسيحية! هكذا كانت حكومات بلدان الغرب ومراكز القرار فيها وأجهزة إعلامها جاهزة لإعادة إنتاج السردية الصهيونية والتلاعب بالحقائق والعلاقات، وتوظيف خطاب المظلومية بواسطة التذكير المستمر بالسابقة النازية".
وأورد صاحب "نقد السياسة" أن الأسوأ من "التواطؤ وتوفير الغطاء السياسي"، "الدعم العسكري والاستخباراتي والمالي الذي تلقته دولة العدوان من حماتها الغربيين، خاصة من أنظمة واشنطن ولندن وبرلين وباريس! وما توقف الأمر عند تدفق المساعدات المادية والعسكرية، في امتداد تدفق الزوار الغربيين على دولة الاحتلال: رؤساء دول ورؤساء حكومات ووزراء دفاع وخارجية ورؤساء استخبارات، بل بلغ الدعم حدود المشاركة الميدانية في العدوان على غزة (...) هذه المرة الأولى التي تسارع فيها أمريكا وأخواتها إلى الذهاب بنفسها إلى الساحل الفلسطيني لنجدة كيانها الذي اصطنعته بعد إذ أدركت مأزقه الذي دخل فيه في 7 أكتوبر، واحتمال فتح جبهتين ثانيتين عليه من جنوب لبنان ومن الجولان".
ونبه الكاتب إلى أن "الغرب ليس على منوال واحد"؛ ف"كما فيه من يكرهون العرب ويكيدون لهم جهرا وسرا، ويدافعون عن اغتصاب فلسطين من أهلها، فيه من يتعاطف معهم ويناصر قضاياهم ويحترم ثقافتهم وحضارتهم"، إلا أن هذا لا يغني عن فهم طبيعة انقسامه: "الغرب منقسم على نفسه في منازعاته السياسية الدائرة على مصالح طبقية وفئوية في الداخل الاجتماعي، على نحو لا مكان معه للجدال فيه، لكنه متحد، بيمينه ويساره ووسطه، في موقف الدفاع عن دولة الاغتصاب والاستيطان في فلسطين المحتلة".
وواصل بلقزيز: "بقدر ما أبدت حكومات الغرب مواقف في غاية الانحياز لدولة العدوان، والمشاركة في إسناد حربها والتغطية عليها، مالت قطاعات اجتماعية عريضة من المجتمعات الغربية إلى الاحتجاج الصاخب على تلك السياسات الرسمية المنافية للمبادئ الإنسانية، وإلى إبداء أعلى صور التضامن الحار والثابت مع الشعب الفلسطيني ومناصرة حقوقه التي يهتضمها الاحتلال والعدوان المتمادي عليه، في عملية من الكسر الجماعي الغربي غير مسبوقة لحاجز الخوف من القذف بتهمة 'معاداة السامية' التي تجرمها حكومات الغرب وتبتز بها شعوبها وقواها الحية".
ولفت إلى أن حقيقة ما يتواجه في هذا المشهد هما: "مجتمع الرأسمال ومجتمع الإنسان؛ غرب المصالح وغرب المبادئ والقيم، المجتمع الثاني يرث، عمليا، ما طلقه المجتمع الأول: تراث الأنوار، ويستبطن قيمه التي تشبع بها والتي طلقتها الرأسمالية في غمرة اندفاعتها الهوجاء إلى الاستغلال والنهب وتعظيم مصالح قواها التي لا يكبحها رادع من قانون أو من قيم، في الوقت عينه الذي كان يستر فيه عورة أنظمته السياسية ويعيد إلى صورة الغرب بعض ما هشمته الرأسمالية والاستعمار والإمبريالية والصهيونية والعنصرية منها".
ونبه الأكاديمي إلى أن "شطرا عظيما من أفعال التضامن الشعبي مع فلسطين وقضايانا منتوج نضالي من منتوجات ذلك الوجود العربي والإسلامي الذي أصاب من النجح في مسعاه حدا تحولت معه قضية فلسطين إلى واحدة من أمهات قضايا الشأن العام في بلدان الغرب"؛ وهو ما أتاحه "ما تتمتع به مجتمعات الغرب من حريات عامة ومن مساحات واسعة لممارسة الحق في التعبير عنها (...) لكن المعلوم لدى الجميع، وشعوب الغرب ابتداء، أن مدى تلك الحريات يتوقف عند تخم من التخوم لا يعدوها هو 'إسرائيل': بوصفها 'مقدسا' من مقدسات السياسة الغربية، الذي لا يقبل الانتهاك ولو من باب الاحتجاج على ما تقترفه من جرائم!".
ومع تشديد المفكر على أن المنطقة عربية اللسان ينبغي أن تقابل اليوم "بفائض أعلى من ذلك التقدير الاعتيادي الذي درجنا عليه" مواقف التضامن الغربي مع فلسطين، علما أن تضامن العديدين في "الغرب" قد أفصح عن "درجة نوعية من المواقف ما اعتيد عليها في مجتمعات الغرب تجاه حقوق الشعب الفلسطيني وحدودها"، وهو ما استدل له بلقزيز باستقصاءات رأي تبين أن نصف شباب الولايات المتحدة الأمريكية اليوم يرون أنه "لا حل من أجل منع إبادة الشعب الفلسطيني إلا بزوال الكيان الصهيوني"، وهو أمر "يحصل في البلد الذي هو مركز النفوذ الإعلامي والسياسي والثقافي الصهيوني في عالم الغرب كله، فكيف بغيره من بلدان الغرب التي تمالئ دولة العدوان لمجرد إعفاء النفس من سياسة الابتزاز التي تمارسها ضدها أذرعها المنتشرة في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية؟".
ومن بين الخلاصات التي ختم بها عبد الإله بلقزيز تحليله هذا تنبيه إلى ما يعنيه الحجم العالمي من التضامن مع القضية الفلسطينية اليوم من "هزيمة شنيعة لسياسات غربية جربت، بالوسائل كلها، أن تمحو ذكر فلسطين من الوعي الجمعي".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.