" Le temps découvre les secrets ; le temps fait naître les occasions ; le temps confirme les bons conseils" Jacques-Bénigne Bossuet "L'amour et le temps ne s'achètent pas, on ne peut que les dépenser" Gary Jennings
ليست دلالة الزمن محمولة في ذاته و لأجل ذاته ، بقد رما هي نابعة و متولدة من العلاقة التي تقيمها مع شهوره و أسابيعه و أيامه ،إلى أصغر جزء فيه ،الذوات الغارقة في لجته ، و فردية كانت أو جماعية فهي في ذلك سواء .و عادة ما يأتي بالنسبة لهذه الذوات تلاحق التواريخ مشحونا بالدلالات متسربلا بالمعاني ،و هذه القاعدة ربما يكون أجلى إفصاح عنها هو تاريخ العيد ،باعتباره تاريخا لا يمكن لأي كان التصرف فيه ،إن بالتقديم أو التأخير ،باعتباره ذكرى مستعادة مؤسسة للذات الجمعية الإسلامية[ و هو ما سبق لنا التوقف عنده في مقال سابق بعنوان :بأية حال عدت يا عيد؟] .هذا في الوقت الذي تم فيه تقديم تاريخ الاستحقاقات الانتخابية ،ربما رغبة في وضع الحجر الأساس ،لأمة مغربية جديدة في سلوكها السياسي ،منتخبين و ناخبين ،حكاما و محكومين ،ذاك ما يعكسه الظاهر فحسب ،أما الأسباب العميقة فهي لا تخفى عن عين و ذهن كل ملاحظ . و ما يهمنا هو أنه من عجيب الصدف أن كان الاقتراح الأول لوزارة الداخلية كموعد للاستحقاقات هو الحادي عشر من نونبر ،إلا أن هذا التاريخ كان من المتوقع أن يصادف أيام العيد ،فكان أن تم استبداله بتاريخ الخامس و العشرين من نفس الشهر ، و لكم وددت أن يكون موعد إجراء الاستحقاقات الانتخابية أكثر قربا من موعد العيد ،على الأقل حتى نحقن أنفسنا بنفس عيد الأضحى التأسيسي و ما ينطوي عليه من عبر التضحية و اللامحدودية في العطاء و البذل الذي بلغ حد التضحية بالنفس ، و أن نعزم أمرنا على أن نضحي بالأنانية أولا و ما يدور في فلكها من توابع الخديعة و المكر و شراء الذمم.... و هلم سوءا ،فداء لغد أفضل تعم ثماره الجميع . و أن نتخلص من الصوف المهترئ الذي علا أحلامنا حتى جعلنا نسير من دون بوصلة و هداية و نبصر من غير تبصر و لا روية و لا بصيرة ،و أن ننزع عنها الأشواك التي تحول دون استواء مسيرنا السياسي . لكن حتى و إن لم تشهد هذه الأمنية تحققها ،فإن الانتخابات على الأقل ،ستكون أفضل مع تأخير موعدها عن موعد العيد ،بدلا من تقديمها عليه ،لأنه لو قيض لسيناريو الاحتمال الأخير أن يتحقق لنزل مؤشر الأصوات في بورصة "السوق البشرية "إلى أدنى قيمة يمكن توقعها له ، فأمام العسر الذي تعيشه الأسر المغربية ، و بالنظر إلى الحظوة و المنزلة التي يحظى بها العيد الأضحى في المخيال الجمعي المغربي ،و التي تجعله أكثر من سنة مؤكدة ! كل ذلك سيجعل الباب مشرعا أكثر من المعتاد في اتجاه بيع الذمم ، وسيختلط الحابل بالنابل ، و يتحالف شناقة البشر مع شناقة النعاج و الخرفان و البقر ، و ستتلاقح الخبرتان و تتفاعلان لتنتجا مسخا لا عهد لنا به.و تتطابق بالكامل دائرة البشرية و الحيوانية في التسعيرة ،دون أدنى تمايز يذكر ،هذا إن لم يكتب لسهم خروف الأضحية التفوق على سهم الصوت البشري المغربي ، لينقلب بذلك معنى العيد رأسا على عقب ،فيصبح المفترض فيه أن يضحي هو من يضحى بكرامته فداء للأضحية. وستزداد أريحية الغارقين في هم الدار الأولى من أصحاب الشكارة ، وستطفق أياديهم في المنح على غير عادتها في الأعياد السابقة ، و يملؤهم الزهد في هذه الدنيا و يولوا لها الأدبار !! فيستبدلون الأثرة و الجشع في أنفسهم بالإيثار ، ليشرعوا في اقتناء الأضاحي للمعوزين ، و هم يعلمون لقاء ذلك في أعماق أنفسهم الفاسدة المفسدة ،من دون أن يكون لأية رقابة حق التدخل ،و إلا فستكون الدولة متهمة بممارسة الشطط في استعمال سلطاتها ، أفيحق لها أن تحاكم النوايا ،و أن تمنع الناس من التقرب إلى الله زلفا ؟!و بأي حق تحول بينهم و بين شراء الدار الأخرى بالبدل في هذه الدنيا لصالح المعوزين و الفقراء و المساكين ؟!! تلك واحدة من المطبات التي تؤشر على أي شفير هاوية كنا سنقع فيه لو تحقق هذا الاحتمال، فيتحول حلم التأسيس إلى كابوس اندحار، و لك أن تتصور المفترض الذي سيقع بعده...
و لأننا شعب ولوع بالزرود و الولائم و مفطوم على الدسم ،فعادة ما كان يستغل المفسدون هيامنا هذا بما لذ و طاب ،من مليح الكباب ،ليدسوا لنا السم في الدسم ،فيتناهى لسمعك أن فلان قد أقام وليمة في القرية الفلانية ، و نحرللأهالي عدد كذا من الشياه ،و أن علان سبقه إلى المدشر الفلاني و أقدم على نفس السنة ، و ولائم كهذه تنطوي على معنى صريح و إن لم يتم إبلاغه بكلام فصيح ،لكن بداهته في أذهان من استفادوا تعادل وضوح لذة الشبع في بطونهم ؛و مفادها تلك العروة الوثقى بين "الملحة" و بين الوعد بالتصويت ،حتى لا يتحقق وعيد "وقوفها في ركبهم " إن هم لم يفوا بوعودهم !! لذلك فإن العيد سيخفف من حدة بلوغ منظمي الولائم لأغراضهم، أو على الأقل سيربك حساباتهم، ما دامت البطون المتلهفة للحم ستكون قد بلغت وطرها بلحم أضحيتها الخاصة فحسب. *** *** *** قلت هذا لجليسي في المقهى ،و هو يطيل النظر إلي كأنه شارد عما أقول ،و لما فرغت من كلامي ،أخرج هاتفه المحمول المتهالك ، دعس بسباته على جبهته المتغضنة ،ثم ما لبث أن رفع بصره نحوي قائلا ،لم تلتفت إلى حصة هذا من نسج أحداث هذا الموعد ،مشيرا إلى هاتفه :ألا ترى أن هذا الجهاز سيكون حاملا من جديد للمكالمات التدليسية هذا الموسم الانتخابي ،إنه لكشف عجيب غريب ،فبقد رما اختزل المسافات ،و أسهم ،كأي اختراع تقني ،في إحكام قبضة الإنسان على الزمان و المكان ،مع غير قليل من إهدار حريته ، إذ سمح للسلطات بتوسيع رقابتها ،بقد رما ما فتح كمنوال الحائك ،مسارب جديدة أمام خيوط المحسوبية و شراء الذمم ،فهو كأي جهاز تقني لا يحمل غاياته في ذاته بل تسندها له قيم الذات التي توظفه . لقد تصنتت الداخلية على هواتف المرشحين في الانتخابات السابقة ، وتم التقاط معجم مفخخ بألوان التورية و الكنايات و صنوف المجاز التي يحار فيها حتى عبد القاهر الجرجاني ،و قد كان حريا بوزارة الداخلية ،تطويرا لخبرتها وضمانا للاستمرارية و الفاعلية في عملها ، أن تصنف معجما من المعاجم التي تحوي بين دفتيها رصيدنا الوسخ ك"لومبلاج" الخاص بأحط ما في قيمنا من معاني ،ليكون مادة للأنتربولوجيين و السوسيولوجيين لتصنيف عوائقنا بدلا من تفرغهم للسباحة في بحر العموميات من الكلام الذي لا يقدم و لا يؤخر على صفحات الملحقات الأسبوعية للجرائد ! و لا يخامر ني أدنى شك في أن الداخلية ،لو أنها أقدمت على ذلك، فالأكيد أن خليتها المكلفة بمثل هذه المهمة لن تتوانى في هذا الموسم الانتخابي عن إصدار الطبعة المزيدة و المنقحة من هذا المعجم ،إذ لا ريب أن الجزء الأعظم منه سيكون هو باب "الحيوان" إلى الدرجة التي قد يبز فيها ما صنفه أرسطو و الجاحظ و ابن المقفع و لافونتين في هذا الباب ! و أن القسم الأطول منه سيكون هو قسم الألفاظ الدالة على أجزاء الخروف تحديدا ،فقد يسمع مما سيسمعه المتلصصون عن حسن نية و نبل غاية :" شحال من هيضورة عندك؟"كناية على عدد الرؤوس التي فضلت بيع صوتها ، و هم في ذلك لن يكون مفترين و لا كاذبين ،لأن من يبيع صوته قد سلخ من قلبه كل مروءة و كل كرامة إنسانية ،فلم يبق منه إلا العرض و المظهر ؛أي "الهيضورة " و قد يتلقف سمعهم :" كم فضل لك من كرعين ؟"لأن ما يظل خارج كيس السارق ،و يمانع كل احتواء بداخله غالبا ما تكون هي الأرجل ،و لذلك ستكون كناية على من لهم نية بيع الصوت دون أن تفلح معهم المناقصة ،لعدم اكتفائهم بالسعر المعروض،لذلك فهم كالجثة بعدما فارقتهم إنسانيتهم بمجرد أن كانت لهم نية بيع صوتهم ،لكن الجثة ما احتواها كيس" مول الشكارة "كاملة ،بل تمنعت منها الأرجل .و قد يتناهى إلى تلصصهم "كم رأسا أحرقت؟" ......و قس على ذلك مما قد يتوارد على ذهنك و خيالك ، بل ما قد يتجاوز جموح و جنوح كل خيال ، لأننا عندما يتعلق الأمر بحفر ما فيه و به تتعثر خطواتنا نبدع في التنكيل بمثلنا ،إلى الحد الذي لا نبلغ فيه قرارا ،و نلقي في الوحل بالطهر الذي ظل بمنأى عن الاتساخ من ذاتنا ، و نتفنن في ترميم ثقب أسود يأتي على نقط الضوء النادرة فينا . و لأن الزمان كشاف –كما توضح قولة بوسيي أعلاه-،فإن الانتخابات المقبلة ،و هي موعد زمني على كل حال ،لكنها ليست كغيرها من المواعيد ،إن كان لها من بعد ،فهو البعد التأسيسي ،بالنظر إلى السياق الإقليمي الذي تتنزل فيه ؛لذلك فهي ستكون بمثابة عدسة زمنية ،وظيفتها لن تخرج عن أحد حدين ؛إما أن تجعلنا ننظر إلى ذاتنا بافتخار ،و نطمئن على قدرتنا على اجتياز أصعب الاختبارات بأدنى التضحيات ،و على تثوير الذات بهدوء ،و إما أنها ستجعلنا وجها لوجه مع الأقبح فينا ،و أننا قوم قدر له أن يصاب بمرض مزمن عضال اسمه الفساد . لذلك فهذه الانتخابات ليست كسابقتها ، ولا نقولها ترديدا للكلام مع الجوقة الرسمية ،بل نقولها لأنها فعلا مؤسسة ،لأن ما بعدها لن يكون كما قبلها ،أيا ما كانت طبيعتها .لذا على هذا الجيش المفسد و الفاسد ،من الأعيان و "موالين الشكاير" و من يسير في ركبهم من سماسرة و شناقة ،و منافقين ...، أن يتعظوا ،و على الأحزاب أن تلملم أشلاءها الميتة و أن تتجاوز كونها مجرد دكاكين ، و أن تغير وجوهها ،لتلحق بركب الشارع الذي تجاوزها ،فعليها أن تتكيف و إلا فعليها السلام ،لأنها إن حافظت على نفس الوجوه ،أو استبدلت قنفذا بقنفذ شائك أكثر من الأول ،أو أمعنت في تزكية السلاحف التي تستعذب الماء العكر ،فإنها بذلك بدلا من أن ترفع نسب المشاركة ،و عوضا عن رفع حظوظ التصويت لصالحها ،سترفع من مستويات الحقد و الغل عليها و الله وحده يعلم كيف ستكون عاقبتها .لكن التكيف لا يعني كذلك التسطيح و الاستسهال ،و هو ما تأكد مع التحالف "الثماني "،الذي أعاد إلى الأذهان عهد"الكوكوت مينوت في إنتاج الأحزاب و الجمعيات" بحيث توسع مجال الماركة المسجلة لإنتاج التحالفات ،فتقارب هذه المكونات ما كان ليتكهن به لا محلل سياسي ، ولا قارئة فناجين و أكف ، ولا فلكي أبراج . ففرق بين أن تخلق قطبا حزبيا ،و بين أن "تكور " خلطة من المكونات التي لن يكون خليطها إلا محلولا غير متجانس ،مشبع بالنظرة المصلحية القصيرة المدى التي سيكون ضررها أكثر من نفعها ، ثم تقدمها للناخب ضانا أنه أعور ! فما الذي يجمع من خرجوا مذعورين ذات مؤتمر من الاتحاد الاشتراكي لأنه على حد رأيهم ضاق باختلافهم ، و هم يريدون بيتا يتسع لاختلاف التيارات، ما الذي يجمع بين هؤلاء و بين مزوار و بيد الله؟ ! فسبحان الله! أتراهم وجدوا قمة الاختلاف في هذا التحالف ،أم ترى هذا التحالف قد قدم لبعضهم العزاء فيما فرط فيه بنظرهم الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي حين قبل بالمشاركة في حكومة التناوب ؟؟ و هل من أحد كان يتوقع أن خطب "الوسيم " في المرحلة إياها و التي ألقاها في أنأى المقرات ، و تمسكه السجالي بتأويله الخاص للتقرير الإيديولوجي و "لإستراتجية النضال الديمقراطي " ستنتهي به معانقا لحزب الهمة و لحزب الإتحاد الدستوري ؟؟ إنه الإمعان في السريالية ، و إن كان الأقدمون يربطون بين المنطق و الزندقة قائلين "من تمنطق فقد تزندق "،فإن تحالفات كهاته ،تفرق بينهما ،فإن أنت أردت أن تفهم "المسخ المارق عن السواء السياسي" عليك أن تنزع مقولات المنطق من عقلك ، وأن تضعها في "الثلاجة" ،حتى يستبدل الله هذه الأحزاب بأخرى. و لأن الزورق المغربي في لجة يم تأتي أمواجه من البعيد ،لكن أثر تلاطمها يصل على أية حال،فإن بلوغه شط الأمان ،لن يتأتى إلا بالتجديف بمجدافين هما ؛حب الوطن و الاتعاظ بعبر الزمن ، لأن ما يشترك فيه الاثنين معا مثلما تؤشر على ذلك قولة الروائي الأمريكي أعلاه ،هو أن كليهما نبذله دون أن نقوى على اقتنائه. و كل ذلك تحت سماء تفتح على الماوراء ، و هنا مناسبة كلامنا عن العيد الأضحى ؛لأنه كما يقول ديكارت :" لولا الخوف من الله، ولولا توقع حياة ثانية ،لكثر الذين يؤثرون المنفعة على العدالة ، كما هو شائع في الحياة أن الرذيلة تثاب أكثر مما تثاب الفضيلة ." ، وقد تعمدت نقل قول ديكارت كأب للحداثة الغربية ،حتى لا يزايد علينا أحد من هؤلاء المتعالمين الذين نصبوا أنفسهم جالسين رسميين على كرسيها المقدس ،و الحارسين لصندوق أوهامها التقدمية العجيب ،ملقنين بمناسبة أو من دونها ،الطقوس الواجب الإلتزام بها من قبل كل من حدثته نفسه بكشف بريقها و الدنو من سحرها ،فاستكثروا على البوتشيشيين نزولهم إلى الشارع قبل و بعد التصويت على الدستور ،متناسين أن البوتشيشي قبل أن يكون كذلك ،هو مواطن ،و أن له الحق في أن يعبر عن رأيه و موقفه و هو مكسو بعباءته ،دون أن يلبسها لأحد عنوة ،فما الضير في ذلك . لكن ما الصنيع مع أبصار حسيرة ،و بصائر حولاء ،لا تؤثر النظر إلا لنصف الكأس ،إذ الغريب هو تطبيلهم للربيع العربي ،باعتباره نفحة من رياض الحداثة السياسية ،و الدمقرطة و....و هلم بهرجة لفظية من غير استيعاب ، متناسين أن ترمومتر زحف هذا الربيع صنعت تدريجة قياسه "الجمعات "؛فمن جمعة الصمود ،إلى جمعة الغضب ، إلى جمعة الرحيل ...، و الجمعة ليست هاهنا يوما كغيرها من الأيام ،بل هي حمولة مقدسة في البدء و المنتهى ،و ما قامت به خطب الجمعة في هذا الربيع من تعبئة لا ينكره إلا أعمى ، فهو يتجاوز في تأثيره الآلاف مؤلفة من الخطب الحداثية العاقر ! ناهيك عن حلقات التكبير التي توصل بين الشعارات ،ثم بعد هذا فليولوا وجوههم شطر ما أسفرت عنه الانتخابات التونسية من نتائج ، حتى دفعت نظراءهم من حداثيي السطح في تونس إلى البكاء و العويل و السخط على الشعب مؤاخذين عليه اختياره؛ فمرارة الخيبة جعلتهم في النهاية يسخطون على أقدس مبادئهم أي الديمقراطية ! ثم ما حدث و يحدث في ليبيا...، فهناك ما لا يعد و لا يحصى من الشواهد التي تؤكد على الفرشاة الدينية و القاعدة الثيولوجية ،إن صح القول ، المباطنة لهذه الثورة لا تخطئها العين ،و كلها إصرار و تأكيد على أن مقولات الحداثة التي تسطحها بعض الكتابات الصحفية تحتاج إلى غير قليل من المراجعة ،فالمنطق التبسيطي في قراءة الدنيوي و الديني قد ولى ، وشبكة قراءة أشكال العلاقة فيما بينهما تحتاج إلى المزيد من التعديل ؛ ففي الوقت الذي تتفرغ فيه النخبة الأوروبية لإعادة صياغة هذا الإشكال و البحث عن زوايا جديدة لمقاربته ، و حتى لا نستشهد إلا به ،يكفي الإطلاع على كتابات مارسيل غوشيه في هذا الباب ، لأن هذه النخبة أدركت بنفاذ بصيرة أن ما تعانيه أوربا أمام ما يطرح عليها من إشكالات ،خاصة إشكال الهوية ،لهو في البدء و المنتهى نتيجة لمقدمة لم تتم فيها الإجابة بشكل قويم على علاقة الديني بالدنيوي . ذاك عندهم حيث تتصدى النخبة الحقيقية لأعمق إشكالاتهم ، من جهة الصياغة الدقيقة و البحث عن الإجابات العميقة و الحذرة ، أما نحن فإن نخبتنا الفكرية منها من قضى نحبه ، ومنها من لا زال ينتظر ،مفضلا الصمت ،و قد تسارعت عليه الأحداث ، ليبقى المجال فارغا لأهل التسطيح ،و نهبا للمتسرعين و منهم من يحلم بالتغرير بجموع العاقلين ،بعد أن غرر ب"المعتوهين " ! نعود لنقول بأن هذه الانتخابات ،هي فرصة الجميع ليجدد الثقة في ذاته أولا و في الآخر ثانيا ، و ليزرع الثقة في الغد و في مستقبل أحسن لربوع هذا الوطن و قد اتسعت للكل ، لأن كسبها ،كسب للجميع ،أما الاستسلام للهيجان ،و رفع العقيرة ب"يريد " دون التمعن في المتاح ،و لا التفرس في وجه البديل ، و الاطمئنان إلى أن الثورات العربية قد رسخت قدمها و نضجت ،ما هو إلا اطمئنان كاذب ،لأن ما يوجد الآن ،هو حقا نتيجة مخاض ،لكنها نتيجة ك"الهيولى" ،لا ملامح لها ، و قابلة لكل الملامح و الصور ،قد تكون أشرف الصور ،كما قد تكون أدنى و أخس الصور .و لأن هذا "المابعد " هو المعول عليه ،فلا بأس من الاستئناس بالتمييز الذي أقامه الأديب و المفكر فيكتور هيغو بين رجال الثورة و رجال التقدم ،و لأن الرجل قبل أن يكون مفكرا ،هو مجيد لسبك العبارة ،نستسمح القارئ في تقديم قوله بلغته الأصلية :"
le parti de l'avenir se divise en deux classes : les hommes de révolution, les hommes de progrès. Ce sont les hommes de révolution qui déchirent la vieille terre politique, creusent le sillon, jettent la semence ; mais leur temps est court. Aux hommes de progrès appartient la lente et laborieuse culture des principes, l'étude des saisons propices à la greffe de telle ou telle idée, le travail au jour le jour, l'arrosement de la jeune plante, l'engrais du sol, la récolte pour tous