كل شيء جميل في الممارسة الصوفية و كذا في الانتماء الى فضاءاتها الحرة الطليقة : جميل مضمونها الاخلاقي السامي .. اهدافها العرفانية الذوقية الآتية من عالم القرب و التوحيد الخالص، و كل هذا خلافا للمعتقدات الظاهرية التي ترى في الشرع مجرد طقوس و عبادات ظاهرة لا يمكن بحال ان ترقى الى اطوار عالم الذوق و العرفان . بل و لعلها ترى في ذلك انحرافا و غلوا في الدين ، تماما كما يرى الصوفية في الظاهرية انزياحا عن معاني الاحسان و اسراره و فيوضات النبوة التي ما فتئت تفيض فسحة لعباد الله الصالحين . و اذا كان في هذا اشارة لجمالية التصوف و تميزه و تفوقه ، فان الشيء الموحش الذي ينبغي الحذر منه في الانتماء الصوفي و ممارسته هو امكانية تحول هذه الممارسة الجميلة بأهدافها النبيلة و أخلاقياتها الانسانية و وجدانيتها الكونية و سموها الى واقع مظلم يغذي تجربة روحية مريعة يتحول من خلالها الحر الطليق الى عبد سجين ، و السيد الكريم الى مسود مهين، و المحسن الى مسيء .. و البريء الى متهم .. و هو ما يحدث بالذات حينما تتحول المؤسسة الصوفية الراعية لتلك الممارسة او التجربة الى اداة تنتقل بالمريد الممارس من خطاب التعبيد الى ممارسة الاستعباد . تلك هي الاشكالية التي نود طرحها في هذه السطور قصد المكاشفة و التحليل . فماذا نقصد تحديدا بالانتقال من خطاب التعبيد الى ممارسة الاستعباد مما يمكن ان تنزلق اليه المؤسسة الصوفية لا قدر الله ؟ نقصد بخطاب التعبيد الخطاب الذي يهدف الى تنشئة الناس ليكونوا عبيدا لله ، بمعنى منقطعين الى خدمة القيم التي فرضها خالق الكون طبقا لما انزل في شرعه و دينه. و هو ما يعبر عنه صوفيا حسب اصطلاح المدرسة الشاذلية ب "التحلي بأخلاق العبودية و القيام بوظائف الربوبية " في التعامل مع الحق و الخلق . و هذا الخطاب في نظرنا هو اسمى انواع الخطابات التي تحقق سعادة الانسان و تجعله منسجما مع وجوده و الوظيفة التي خلق من اجلها . اما ممارسة الاستعباد فنستعملها في هذا النقاش على معنى ان نجعل من الناس عبيدا لغير الله ، و اداة نستغلها أو نسخرها لمصالحنا الذاتية و حساباتنا الخاصة بعد ان نصادر جميع حقوقهم في الحياة الكريمة و نمعن في حرمانهم و اذلالهم بغية السيطرة و التحكم .. الحرية و التحرر: هدف اسمى للمؤسسة الصوفية و منذ ان ظهر التصوف كمشروع تربوي و روحي و تحوله الى مؤسسة قائمة بذاتها لها اهدافها و فلسفتها و مناهجها الشرعية في تربية المريدين و خدمة الدين و شريعته و هو يسعى بكل ما أوتي من طاقة من اجل تحرر الانسان و خلاصه من قيود الوهم و طغيان الغريزة و الخضوع لغير الله ، مكرسا لهذه الغاية "خطاب التعبيد " كهدف اسمى له ، فأصبح بذلك على مدار التاريخ الفاعل التربوي و الروحي بامتياز الذي يعود اليه الفضل في حماية المنظومة الروحية للمجتمعات و الامة الاسلامية ، ففي احضانه عرف رجال من كل جيل كيف نعامل الحق بالخلق .. والخلق بالحق ، و كيف يكون السبيل الى الله على بصيرة منه و هدى، و من ثمة عبدوه كما جاء في الحديث و كأنهم يرونه لشدة ما فاض عليهم من العالم الأسنى الذي استأنسوا به و جعلوه معراجا لهم .. نعم لقد حققت المؤسسة الصوفية عبر اطوار نشأتها حرية الانسان و علمته كيف يسبح بين لبات بحرها العميق ، حيث خلصته من هواجس نفسه و نزوات السوء التي هي الاشد على مصيره .. ليتحول بعد ذلك الى الوجود المحض القائم مع الله بدون علاقة ، فيتحرر بذلك من كل الاغيار ثم يصير عبدا او متعبدا خالصا لله .. و مع هذا الانجاز الذي هو غاية لكل متصوف و متطهر اواب ، بقيت هناك مخاوف .. و اشدد بها من مخاوف !!؟ مخاوف انزلاق خطاب التعبيد في احضان المؤسسة الصوفية ليصبح ممارسة للاستعباد ، و استغلال التربية الصوفية للاحتيال قصد مصادرة حقوق العباد فيكون هو الفساد في الارض المحظور بقوله تعالى : (( و لا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها )) الاعراف ، الاية 56، و بقوله تعالى : (( و لا تبغ الفساد في الارض إن الله لا يحب المفسدين)) سورة القصص ، الاية 77 . و يبقى السؤال المرعب و الذي يخشاه الجميع في احضان التجربة الصوفية و مؤسستها : هل يمكن في لحظة ما ان تنقلب هذه المؤسسة برمزيتها و دلالاتها ضد طبيعتها فتنتقل من فعل التعبيد الى ممارسة الاستعباد و التحكم ؟ الخيط الرقيق بين التعبيد و الاستعباد لا شيء يضمن عدم انقلاب المؤسسة الصوفية و تحولها عن اهدافها و وظيفتها إلا شيء واحد ، و هو مدى صدقها و أمانتها ، فالمؤسسة الصوفية صادقة امينة ، بل صدقها و امانتها هو ما يبرر وجودها و اشكال ممارستها حتى و لو كانت قاسية في ظاهرها ، و هي بذلك تذكرنا باسمى ما في الحياة الانسانية من قيم و فضائل ، بل ان النبي (ص) نفسه و الصديقين المقتدين في كل زمان حينما اراد ربهم ان يظهر مزيتهم بين قومهم حلاهم بهاتين الصفتين فاشتهر امرهم بالصدق و الامانة ، و هما صفتان تجذبان اليهما ثقة الخلائق كما ينجذب الفراش الى شعاعات الضوء و نوره . و على هذا ، فان رأسمال المؤسسة الصوفية هو صدقها و امانتها ينمو مع نموهما و يضعف مع ضعفهما ، و كنا نسمع من بعض الصالحين لعهد قريب أن الصدق هو اساس الفلاح في طريق التصوف و صحبة اهله ، فإذا اجتمع صدق الدعوة مع صدق الطلب كمل المراد . و هو ما يؤسس لتلك الثقة المتبادلة بين المريد الممارس و هذا المحيط الروحي الذي اختاره ليقرر من خلاله مصيره .. كما يؤسس لضمانات سلامة التجربة الصوفية .. و لشروط نجاحها و بلوغها الى اهدافها . و يجعل المريد المنتمي في مأمن من امره . و يثق في ان خطاب التعبيد أو النشأة على اداب العبودية لله هو الخطاب الوحيد السائد الذي يتربى عليه ، و ان كل الممارسات التي تؤطر تجربته داخل هذه المؤسسة الشامخة بصدقها متصلة كليا بهذا الخطاب و منبثقة عنه . بل إنه يستجمع كل ما يملك من صدق و ثقة .. و يضعهما بالكامل في هذه المؤسسة لأمانتها ، انه يثق فيها ، انه يرى فيها المعين على خلاصه، و الحضن الدافئ الذي يستدفئ به خلال هذا الليل البهيم الذي يغشى البشرية و قد يطول و يطول و لكن الى انبلاج و ضياء . اذن فتبادل الصدق و الامانة بين المريد و المؤسسة الصوفية هو جوهر هذه التجربة الروحية الفذة المتطلعة بعنفوانها نحو الصفاء و الخلاص ثم الحرية . و لأجل ذلك يسود خضوع مطلق لإرادة المؤسسة، و هو ما لا يرضاه كثيرون لكونه يسلب حرية الاختيار لدى الانسان و يجعل ارادته متلاشية في ارادة المؤسسة .. و لكن لا باس به في معتقد المريد الصادق مادام المثل العربي يقول : "من عرف ما طلب هان عليه ما وجد "، و باعتبار ان المؤسسة هي الرائد و ان الرائد لا يكذب اهله كما جاء في الحديث عن النبي (ص) ، و للتجارب المتعددة و المتأصلة في التاريخ حيث تربى رجال و رجال بهذه المؤسسة بخضوعهم المطلق و تحولوا الى نبراس يستضاء به .. و على هذا أيضا فانه لا يضر المريد مادام انه يدرب النفس على"التحلي بأخلاق العبودية و القيام بوظائف الربوبية " لا يضره ان وجد في التجربة اللصيقة بالمؤسسة الصوفية ما قد يبدو ممارسات فيها استفزاز للنفس و تفويت لحقوقها و قسوة و اذلال لها و كسر لكبريائها و جبروتها . و هو ما يفوض لهذه المؤسسة في تربيتها و طرق اشتغالها ، تماما كما يفوض للطبيب من انواع العلاجات التي بالرغم من قسوتها لكنها ضارة في طيها نعمة . اذن فلا باس بذلك مادام أنه ملق بزمام امره لقوم هم اهل صدق و امانة لا يخشى منهم الدوائر على نفسه ، و أن الاشياء في منطق التجربة الصوفية لا تنال إلا بضدها . و بالتالي فان العزة و الكرامة في احكام السياسة و الممارسة الصوفية لا تكون إلا بالذلة .. و الحرية لا تكون الا بعد العبودية .. و الفوز بالحق لا يكون إلا بالتخلي عن الحق.. و الكبرياء لا يزول إلا بالتواضع .. و البخل لا يعالج إلا بالكرم .. و هلم جرا . على انه ان كان هناك ما يسوغ للمؤسسة الصوفية اخلاقيا و بحكم طبيعة اشتغالها و منطقها التربوي ما تتخذه من اساليب التحكم و التوجيه في معاملة المريدين و لو كان في ذلك حرمان لهم و مصادرة لحقوقهم الاجتماعية و الطبيعية ، و نقصد بذلك صدقها و امانتها ، و أيضا بالنظر الى نجاحاتها التاريخية في التأهيل الروحي لأبناء الامة ، و جودة منتوجها الاخلاقي كما دلت على ذلك تجارب تاريخية عديد تركت لنا تراثا فذا هو نموذج قل نظيره في تحقيق الاستقامة و المواطنة الصادقة و تحمل هموم المجتمع و اهله . فان انتفاء المسوغ اي صفتي الصدق و الامانة لا قدر الله عن سلوك المؤسسة الصوفية قد يقلب كل الموازين ، و يطعن في عمق كل الاسس التي يقوم عليها منطق التربية الصوفية جملة و تفصيلا . و قد تكون هي الطامة الكبرى التي لا علاج لها . و لكن لماذا تكون هي الطامة الكبرى ؟ خطر تحول المؤسسة الصوفية أجل، هل يمكن للمؤسسة الصوفية ان تتحول عن طبيعتها ..؟ و تحديدا عن صدقها و امانتها ؟ ثم تضحي بحتميتها و وظيفتها في دلالة الناس على سر الصلاح و الهدى الذي هو اعز ما يطلب ؟ ليتبين في النهاية انما كانت تبيع وهما و تسوق خيالا و تمارس النصب و الخداع من اجل متاع الدنيا الزائل . انه السؤال الرهيب المحير . السؤال الشبح الذي لا يود المريد الصادق أن يطرحه أو حتى أن يخطر بباله أو يهمس به بينه و بين نفسه .. لأنه آمن بطهر و صدق مؤسسته التي انتمى اليها ، و ايقن بنبلها و سموها ، و انها هي حبل نجاته و ليس هناك حبل غيره يتمسك به كما ذهب الى ذلك حجة الاسلام الامام ابو حامد الغزالي في القرن الخامس من الهجرة و كافة ائمة التصوف .. لأنه اذا ما حاول ذلك فانه سيصاب بالفاجعة .. و بالصدمة القاتلة ، و سيتحول الامل لديه الى يأس .. و الى ذاك الكبوس مظلم جاثم يكبت أنفاسه، كيف لا ؟ و قد كان العهد الذي بينه و بين مؤسسته و التزاماته لها يفرض عليه التنازل عن اغلى ما يملك و هي حقوقه ، و تقديم كل بذل و تضحية .. لقد ضحى بعزته و كرامته .. و بحريته و حقه في الاختيار، و ضحى بماله ، بل و ضحى بوقته و بكل ما يملك من راحته .. في انتظار انبثاق فجر صلاحه كما عاهدته به مؤسسته. و الان لا شيء يلوح في الافق ، إلا شيء واحد و هو مأساة هذا التحول الفاجع الذي اصبح يراه بأم عينيه ، و يشاهده مع الشاعر في قوله : و اما الخيام كخيامهم و ارى نساء الحي ليس كنسائهم . إن مأساة تحول المؤسسة الصوفية عن طبيعتها و اهدافها و عن صدقها و امانتها يسقطها بالكامل في ممارسة بغيضة هي استعباد للخلائق بعد ما كان الهدف هو تعبيدهم لله ، و استخدامهم عبيدا بعد ما كان القصد تحقيق حريتهم ، و لا يمكن ان ندرك مدى الفاجعة التي قد تحدث حينما يستفيق المريد الممارس لينظر الى هذا الوضع المتحول فتنتابه حيرة و خيبة امل و شعور عميق بالضياع ، و ايضا احساس رهيب بأنه قد تعرض لعملية خداع و استغلال كبيرين، ما كانا ليحدثا لولا طيبة قلبه ، و حسن نيته ، و ربما غباءه و قلة فطنته ، اذ كيف تم له في لحظة من الزمن ان يستأمن مؤسسة برصيدها في الصلاح و تاريخها في التربية و الارشاد على نفسه و حقوقه و مصيره ليتبين له أن قراره لم يكن بالمناسب ، و انه انما ادخل مصيره في دوامة من الاستعباد و التحكم و الاستغلال .. انها الكارثة فعلا ، انها الطامة و ما ادراك ما الطامة لولا الامل في الله ، و احتساب الاجر في الصبر على البلاء الذي يلوذ به و اليه المريد لكي يخفف من اثر الصدمة على نفسه .. وقد يتساْءل المريد مذهولا تحت تأثير الهول و الصدمة مثيرا نقاشا تعليليا و ربما فلسفيا فيما بينه و بين نفسه عن هذه الاسباب المغرية التي جعلت مؤسسته ترضى بوضعها الجديد، و قد تتناسل الاجوبة لديه بين ذاتي و موضوعي و سياسي و اجتماعي و اقتصادي .. و مع ذلك فان حيرة المريد تبقى شديدة أ ينسحب على هون و يقطع كل صلة له بتلك التجربة الصوفية التي امن بسموها و كمالها ، أم يواصل المسير مع القوم و يلبس لبوسهم و ينقلب ليتكيف مع الوضع المتحول اليه و السلوك العام الجديد يمارس ما شاء له من دجل و عدوانية و شراسة ، و رغبة في الاستغلال عن طريق ممارسة النصب و الانتهازية كما يفعل جميع من في الدار ؟ ليجد نفسه في النهاية ان تجربته الصوفية التي كانت تمثل قمة احلامه قد انقلبت الى تجربة تثير الحزن و الاسى ... صحيح جدا ، فإن انقلاب المؤسسة الصوفية و تحولها اذا ما حدث لا قدر الله لهو البلاء المبين و فتنة عظيمة على العباد و البلاد .. انه كارثة اخلاقية مروعة من شأنها ان تهز اركان مملكة الاخلاق و تدمرها الى الابد .. انه السقف المشؤوم الذي لن يظل بعد اليوم إلا وكرا من الذئاب البشرية و ان بدت في صورتها الانسية ، وكرا لن ينتج إلا ضحايا و اشلاء من المعوقين و المنكوبين ... و ان ضحاياه ستكون بالأعداد التي لا تحصى لشدة ما يمارس من الاستعباد و الخداع و الاستغلال ... لأجل هذا كان ينهض في كل زمان من يقوم مسارات المؤسسة الصوفية اذا ما حدث اي انحراف او فساد في توجهاتها و اسلوب عملها ، نذكر منهم الامام ابا القاسم القشيري الذي رسم في رسالته الشهيرة الخطوط الرشيدة للعمل الصوفي ، و محتسبي الصوفية امثال سيدي احمد زروق و ابي عبد الله الهبطي ابي الحسن اليوسي و ابي القاسم ابن خجو الذين قاوموا بكل قوة اية محاولة لإفساد المؤسسة الصوفية و تحويلها الى سوق أو مقاولة من اجل النخاسة و الارتزاق . *باحث في قضايا الشأن التربوي [email protected]