"إن أرض المغرب تنبت الأولياء كما تنبت الأرض الكلأ" وصف جميل ورائع حول صاحب أنس الفقير و عز الحقير أن يستوعب من خلاله ما شاهد من "حركية" صوفية كبيرة في بلاد المغرب وما شهد من إشعاع روحي تفرد به رجال التربية و الصلاح ودل على براعة أهل المغرب و تبريزهم في فنون السلوك و طرق الترقي و الآداب. ولعل انفتاح البحث العلمي بمختلف فروعه - ولو أنه في بداياته- على هذا القطاع الروحي و الفكري المشكل لهوية و حضارة المغاربة دراسة و تحقيقا، يغني عن الدخول في تفاصيل إبراز الأدوار الرائدة لزوايا المغرب و خصوصيات مدارسه الصوفية ومدى رسوخ أهله و تمكنهم. لقد كان المغرب طيلة تاريخه مولدا و محضنا و مصدرا و منبتا لشجرة الولاية و الصلاح استظل بأغصانها الوارفة الطالبون من حر هجير الإنقطاع و اقتاتت بثمارها و تغدت قلوب السالكين التي أجهدها مسير الوصال، و فاحت روائح أزهارها الزكية و عمت الأرجاء و بلغت الأفاق، تطوي الزمان و المكان فكان ما كان مما نذكره من جليل أعمال رجال الأخلاق في تثبيت عقيدة الإسلام في النفوس وتجذير مكارم أخلاقه في الأذهان و الوجدان. نعم، يشهد بهذا الدور الروحي و الأخلاقي للمغرب المدونات المرموقة و الآثار المرسومة و الأعمال المشهودة و التي تعتبر بحق مصدرا لتاريخ الأخلاق بموازاة تاريخ الأفكار يمكن أن نرصد من خلاله عمليات انتقال القيم و جولانها، و كيفيات تماهيها مع البيئات و العقليات المختلفة و يمكننا من استخلاص العبر من مناهجهم في بث الفضائل و نشر المكرمات بالتيسير و التبشير المطلوبين. وتكمن أهمية التربية الصوفية في كونها تزرع بذور التدين في قلوب الأفراد، ولا تسعى إلى تنميطهم و فق"خطاطة مسبقة" فهي رسالة روحية من الفطرة و إليها، ولعل هذا هو السر في تعدد المشارب التخليقية و تنوع المدارس و الطرق الصوفية التي تجد و تجتهد انطلاقا من خبرتها الروحية المتجددة و مراعاتها لتبدل الأوقات و اختلاف أحوال العباد. إن الصوفي أو الصوفية كما يعرفه كبار العلماء مثل،حجة الإسلام أبو حامد الغزالي : "الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، و أخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، و حكمة العلماء، و علم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم و أخلاقهم، و يبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم و سكناتهم في ظاهرهم و باطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به"المنقذ من الضلال ص131_132)، ويقول الإمام الذهبي :قال شيخنا ابن وهب رحمه الله:"ومن ذلك الإختلاف الواقع بين المتصوفة و أهل العلم الظاهر، فقد وقع بينهم تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض...وهو مقام خطر إذا القادح في محق الصوفية،داخل في حديث"ومن عاد لي وليا فقد بارزني بالمحاربة"الموقظة في علم مصطلح الحديث ص88)،و قال صاحب التشوف في تعريفه للصوفي"هو المنقطع بهمته إلى الله تعالى المتصرف في طاعته" ، وقد قال الشيخ محمد أبو زهرة في كلامه عن التصوف في الإسلام:"نحن في عصرنا هذا أشد الناس حاجة إلى التصوف بنظام التصوف الحقيقي و ذلك لأن شبابنا قد استهوته الأهواء و سيطرت عليه الشهوات...و أصبحت خطب الخطباء لا تجدي، و كتابة الكتاب لا تجدي و مواعظ الوعاظ لاتجدي... إن العلاقة بين الشيخ و المريد هي التي يمكن أن تهذب و أن توجه" (مجلة لواء الإسلام، العدد2 1960م.ندوة لواء الإسلام، التصوف في الإسلام). ولذلك يدخل تحت هذه التعريفات الموسعة كل المساهمين بإخلاص في تشييد صرح المعروف الروحي و الديني و الثقافي و الإجتماعي للأمة، فالإرث الروحي و الإبداع الصلاحي المغربي تعهده عزائم الصادقين و همم الراسخين بالمحافظة عليه من الشوائب و العمل على تذليل صعابه حتى استوى خطابا معتدلا جامعا بين الشريعة و الحقيقة و الذوق و السلوك و إصلاح الفرد و المجتمع، ليصير ميسم المغاربة الميل الفطري للوسطية في كل اختياراتهم الدينية و المذهبية و الحضارية فكان تعلقهم بإمام دار الهجرة الإمام مالك الذي جمع مذهبه بين الحديث و الرأي و كان شغفهم بعقيدة الأشعري التي جمعت بين العقل و النقل مما منحهم وحدة منصهرة و قابلية كبيرة للانطلاق و التجدد الدائم. إن التصوف باعتباره مجلى مكارم الأخلاق الإحسانية ارتبط بدخول الإسلام إلى بلاد المغرب مع الفاتحين الأوائل التي كانت تحدوهم رغبة نشر الدعوة المحمدية التي تتعالى عن الفروق اللونية و العرقية و اللغوية و تخاطب جوهر إنسانية الإنسان فتقبل الأمازيغ رسالة القيم و المكارم وهم المعروفون بالمقاومة الشديدة لكل وافد أجنبي، وتشربوا المثل العليا تجلت في الفرح بالمولى إدريس سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، و توليته أميرا عليهم عربون محبة للنبي الأكرم و رغبة في بناء وحدة دينية و حضارية لم تعصف بها حوادث العصور و تقلبات الأزمان و امتحانات الدهور. إن للمغرب من المؤهلات الروحية ما يجعله قادرا على الإسهام في تقديم صورة الإسلام الصحيح القائم على الرحمة و الجمال و القادر على دفع التحديات الكبرى التي تواجه الإنسان اليوم. فالأخلاق و القيم الروحية هي الأسس التي يقوم عليها المجتمع، حيث نلاحظ مثلا كيف حافظت المجتمعات الأسيوية بشكل غريب على مقوماتها الروحية، وصار هذا البعد الروحي عاملا من العوامل الأساسية في رقيها و ازدهارها في حين مازلنا لم نلتفت بعد إلى الإمكانات الروحية عامة و المغربية خاصة.فهي التي تضمن الحركة التي تنسج العلاقات السليمة، وتبادل المنافع و تصون الحقوق و الواجبات و السلوكات و العادات و الأعراف من العبث، وتحدد المسؤوليات دفعا للمفاسد و جلبا للمصالح، بدون إفراط و لا تفريط، و بذلك يحصل التوازن المنشود بين الأفراد و الجماعات و الذي يؤدي إلى تحقيق مواطنة صالحة صادقة. إن التربية الروحية الصوفية من أهم الوسائل التي تنتج قيما خلقية تساهم في بناء صرح المواطنة النافعة،فالأخلاق ليست مجرد تمثلات نظرية و إنما هي تحققات عملية يواجه بها الفرد الإغراءات المادية و الشهوات النفسية. فالدين دعوة للتطهير والتقرب من الله العلي القدير، والتصوف من حيث هو كمال الدين، أي لب الإسلام ، منهج تربوي يفضي للتحقق بالعبودية للواحد القهار،مع ما يترتب عنها من حرية من كل الأغلال التي تكبل الإنسان، سواء تعلق الأمر بشهوات حسية أو بسعي للاستكبار في الأرض، أو بتعلق للفرد بذاته، تعلقا يجعله منكرا لدوره كجزء من المجتمع البشري. والتصوف بهذا،لا يهدف فقط إلى خلاص الفرد معزولا عن الآخرين،بل إلى جعله فاعلا في مجتمعه بشكل إجابي ،حيث يصبح،فضلا عن التزامه بالأوامر الشرعية و بالقوانين مراقبا الله تعالى في السر و العلن و( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)كما جاء في حديث جبريل عليه السلام‘وهذا هو مقام الإحسان، مما يؤهله للتحقق بعبوديته، و من تم للاضطلاع بالواجبات الملقاة،بل يصبح منسجما مع الأكوان من حوله. فقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان، وحمله الأمانة التي أشفقت السماوات والأرض من حملها، وجعله بذلك خليفته في الأرض ، رغم أنها ليست مستقره الأخير ، لأن إلى ربك الرجعى. ولئن كان المسلمون اليوم في مرتبة دون هذا المقام ،سواء من حيث تطور مجتمعاتهم، أومن حيث الالتزام بهذه المبادئ ، فلأنهم أغفلوا عن هذه المعاني ، فأصبحت تتقاذفهم الأهواء والتطلعات المشوبة بنزعة إلى الفر دانية نبذتها حتى الأفكار البشرية التواقة إلى بناء إنسان عاقل، متزن، منتج، ومسؤول. إن التقرب من الله تعالى بذكره ، وتلاوة كتابه الحكيم، والصلاة على نبيه الكريم(ص)، ينير طريق الإنسان، بل يحييه حياة متجددة، لقوله تعالى :"أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها".هذا النور الإلهي، الذي هو ثمرة التصوف، وصفه القرآن الكريم بالعلم اللدني و الذي كتب عنه الصوفية الكثير، بعد أن تذوقوا حلاوته، كثمرة من ثمار التعليم الذي تلقوه من شيوخهم. ومن نافلة القول،أن كل من يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، مع ما يترتب عن هذه الشهادة من التزام بأركان الدين، داخل في ملة الإسلام، لكن هذا لايجعله بالضرورة مؤمنا، وهو بالتالي لا يؤهله للسعي إلى مقام الإحسان الذي هو أعلى مراتب الدين، و الذي يعمل التصوف على التحقق به. واليوم،رغم التحولات الكبرى التي عرفتها المجتمعات الإسلامية، و رغم تعلق جزء من مثقفيها بمرجعية تأسست على الدعوة إلى حصر الدين في المجال الخاص، يلاحظ المتتبعون إقبالا لم يسبق له نظير على التربية الصوفية التي تعمل الطريقة القادرية البودشيشية بفضل شيخها سيدي حمزة بن العباس، على تجديدها و جعلها ملائمة لروح العصر، مما مكن المقبلين على طريقته،من داخل المغرب ومن العالمين العربي و الإسلامي، بل ومن الغرب أيضا،من تذوق نفس المعاني التي تغنى بها الصوفية عبر العصور حتى أنشد أحدهم: تحيى بكم كل أرض تنزلون بها كأنهم في بقاع الأرض أمطار وتشتهي العين فيكم منظرا حسنا كأنكم في عيون الناس أزهار ونوركم يهتدي الساري برؤيته كأنكم في ظلام الليل أقمار هذا النور الذي جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، و الذي حول المجتمع العربي من قبائل متناحرة، يقتل بعضها بعضا، و تسعى غيرها من الأمم إلى اللعب على تناقضاتها، إلى مجتمع قوي، متما سك، يرحم الضعيف، و يحد من قوة القوي، و يوظف كل الأفراد لما فيه الصالح العام، مع قدر كبير من التسامح و جعل أهل المعتقدات الأخرى يعيشون بينهم آمنين. ومن شأن العودة إلى هذه الروح أن تجعل اليوم من الدين عامل بناء ووحدة و تساكن فيما بين المسلمين ومع غيرهم من الأمم، لأنها تؤسس لمجتمع متضامن، متخلق، طاهر، مبني على نفس المبادئ و المثل التي جعلت السلف الصالح يصل إلى ما وصل إليه، دون إقصاء لأي كان وفي التزام تام بكل ما يجمع شمل الناس و يوحد بينهم. إن نشر روح المحبة و التسامح و الرحمة التي هي من ثمرات التربية الصوفية، كفيل بتغيير نظرة الشعوب الأخرى للإسلام و المسلمين، و بإعطاء العالم كله نموذجا حيا لمجتمع متدين متفتح على الآخرين، ملتزم بقوله تعالى:"يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر و أنثى، وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".صدق الله العظيم. وهكذا ارتبط التصوف في المغرب بالحياة،في كل مناحيها، و مدى الارتباط الوثيق بالقيم الروحية،التي تجعل من الإنسان مواطن صالح و نافع لنفسه ولغيره، فلم يكن الصوفية أبدا منفصلين عن هموم المجتمع، ولا تعلقوا بالكرامات و الخوارق،بل إن أكبر فقهاء المغرب كانوا صوفية، حتى إنه لا يمكن الحديث، إلا في حالات نادرة جدا، عن خلاف بين الصوفية و العلماء. محسن بن حديدو مريدو الطريقة القادرية البودشيشية مغاربة وبريطانيين مداغ/بركان (2010) المراجع المعتمدة: -- كتاب"حول التصوف و المجتمع" د. لحسن السباعي الإدريسي. -- مجلة الإشارة التي تعنى بالشأن الصوفي، عدد 31- سنة 2007م.