ثمة مدن كالدّوالي تنمو لتظلّلك مدن تدخلها لتدخلَك، تزورها لتسكنك مدن من أول باب تحضنك لتقتلك. * مراكش اقتربت.. مراكش ابتعدت.. مراكش اخطبوطا من إسمنت صارت، وسجنا صغيرا يضيق بنا، وجنة للغرباء. مراكش لم تعد مدينة. قال قلبي. ما الذي دهى النخيل وزرقة السماء في غيابك الطويل يا أبي؟ مراتع الطفولة بين يديك صارت حجرا فوق حجر.. حجرا على حجر.. في المساء نتغير قليلا، أنا والمدينة. في المساء نقبض على جمر أحلامنا، ورماد الأزمنة. وكل الأمكنة ملك يدي. مراكش أحلى المدن.. مراكش أشهى المدن.. منذ ألف سنة وزّعَت أشلاءها على النخيل والطغاة، وانتحرت.. مراكش أجمل المدن. صارت ظلا بلا نخيل وانكسرت. منذ ألف سنة وأنا أحبك من قبل أن أولد أحبك من قبل أن تدهسني حوافر الخيل، وحروب القبائل، وأحلام المرابطين على قلبي. سوط الشرطي في استعراضات الغبار يتلقّفني، وأيدي الأحبة في الأعراس والمآتم، ووجه أمي. منذ ألف سنة وأنت تسكنين سريري. تركتِ روحكِ على مخدة الحلم الأخير. تركتِ بقاياك في ملاءتي، وصوت المغني في الليل. نمتُ ما يكفي لتكبر سنبلتان على شفتيك. في الربيع سابقت الريح، واحتضنت خريف المدن الباردة، يدبّ فيها الحنين والهواء؛ أقصد المدن التي تترنم باسمك. غفوتُ قليلا لتزهر وردتان و تورق عيناك. ها أنذا الآن أتوحّد كي لا أبقى وحدي. أحبك منذ كنت نطفة فيك. * مُرٌّ هذا الزمان يا أمي. مرَّ ونحن في الجبّ ألف عام، نقتات على الحروب وما يخلفه الغرباء والطرق السيارة، وما تتركه السيوف والمحن. ألف عام وأنا أحبك، منذ خضوع النخيل على أطرافك، منذ أول حجر على أرضك، منذ أول السور وأبوابه حتى آخر الحدود، منذ رجالاتك السبع، منذ يوسف بين النخيل حتى يوسف في الضريح. نداعب النخيل في رئتينا ونمضي. لم نترك مكانا إلا زرناه: صهريج المنارة وحدائق أكدال. الكتبية. جامع الفنا. مسجد ابن يوسف. مقابر السعديين. قصر الباهية. قصر البديع. حديقة ماجوريل... كل المآثر، ومأثرة مراكش الفريدة ضريح يوسف بن تاشفين. وما صدقنا: ألف عام لم ينتبه إليك العابرون. على مرأى من شرطة السياحة وموقف الحافلات، مرميّا على قارعة الطريق والمقابر والضجيج و الغبار. وما صدّقنا: أحوال الدول من تاريخها، والتاريخ في مراكش ملقى على قارعة الطريق. * ولدتُ تحت برج الثور(3 ماي) وبنيت أحلامي كلها على قرني ثور. قلبي أسطوانة مشروخة هذا الليل قلبي منذور لأسراب الجراد، متروك لأنياب الريح. في الخارج مطر من حديد. تقول التي نما بين هدبيها قمر موشّى بالحزن: - ما جنة المعنى، ونحن التقينا هاربين، أنت من رتابة الوقت وفراغ الروح، وأنا من لظى السؤال وبأس الإسمنت والحديد؟ وما هذا الدّم الذي يتقطّر في الشوارع؟ .... .... - خذيني إلى أقرب زيتونة في قرية أمي، كي أستظل مني ثم اشنقيني. * أمزميز.. غجرية تنام على أقدام الأطلس، بين غابة الصنوبر والصفصاف، والثلج، والمطر، والنهر الذي يترقرق منذ الأزل سائحا بين أشجار الدّفلى وجنان التين والبرتقال. رئة المدينة وقلبها. كالممسوس كنتُ مشدوها، أتبع رائحة التراب، أسير نحو بابك الخرافي. يسبقني ظلي. يصعد الجدران قبلي. شيء ما يتآكل في أحشائي. شيء ما يعانق دمي في العروق. ( لْمْحْلاّتْ).. أبعد قليلا، أقرب إلى الروح قرية والديّ. فرح الطفولة تحت أشجار اللوز والزيتون و"أكناراي"، وكل هذا الحزن الذي يجّلل نبات الصبّار. ها نحن الآن في مراتع صباي، فاحضنيني كما كنتُ الآن أو اقتليني..