في العام 2007 توفيت بالقاهرة رائدة الشعر العربي المعاصر: نازك الملائكة. وبتلك المناسبة الأليمة أقام التجمع الثقافي في ولاية(كوينزلاند) بأستراليا حفلا تأبينيا شارك فيه شعراء وكتاب عرب هم: دينا سليم وفاروق مواسي وحسن علوان وسعد حمزة وفرات أسبر ومنال الشيخ وعبدالسلام العطار وحبيب فارس وميلود بنباقي وموسى حوامدة وناجي ظاهر ووديع شامخ وأوزان بشار وذياب مهدي. وفيما يلي مساهمة ميلود بنباقي.
الآن فقط تستحق اسمها. مر القطار...سريعا كما يمر البرق في كبد السماء الواجمة. كما يمر الليل في زحمة الأحلام والنجوم الوارفة. سريعا مر, و الليل يسألكِ: من أنتِ؟ فيجيبه الفجر نيابة عنكِ: أنا سركَ القلق. العميق. العالق في حلق الوجود صنارة صبار و نار. لم يعرفكِ الليل , لأنكِ قنعتِ كنهكِ بالسكون. و لم تعرفيه لأنه تجرد من أسمائه الحسنى, و تعرى من استعاراته القصوى, و مما يستدعيه المعنى لاكتمال المعنى. مر القطار...سريعا كما يمر الإيقاع في زحمة القصائد و التفاعيل. في زحمة الأضداد و حمى الحنين للمعلقات و نقع المعارك. سريعا سريعا, كما يمضي الماء محتشما إلى أشجار الدفلى المتوهجة عشقا و شوقا لبيت ينوس رغبة للقاء بداياته الأولى. مر القطار, سريعا سريعا...كما تمر الريح لمجاهل الروح, سائلة: من أنا؟ فتجيبها قافية ملقاة على قارعة الطريق: هي روحها الحيران/ أنكرها الزمان/ هي مثلك في لا مكان. و يمر القطار, سريعا,صريعا, و نبقى نمر و لا بقاء فإذا بلغنا المنحنى خلناه خاتمة الشقاء. و إذا أخطأنا الطريق إلى المنحدر خلناه سرابا ينذر بالبقاء. يا شاعرة الحيرة, يا عاشقة الليل, مؤنسة الغرباء, يا الوحيدة على شط الممات أما زال في وادي الحياة بعض من حياة؟ هي أغنية فلا تعجب من رحيلك و لا تعجب من عويلك. هي أغنية حب للكلمات طرزتها خيطا خيطا, و نثرتها على القصائد و المواجع. فانفلت الشعر بحكمتها من عقال القوافي القديمة, و راح يدندن بأغنية حزينة, متحررا من رق الناقة و سطوة الطلل. آه, كم تيتم بعدك هذا الشعر, و كم أضحى غريبا رثاء من رحلوا ! و كم أضحى وحيدا خيط غسيل شدته أناملك لشجرة سرو قديمة, كان الرعاة يقيلون في فيئها مع قطعانهم و حكاياتهم الغريبة! يا عاشقة الليل و واديه الأغن, ها أنت وحدك على شط الممات على شط النيل الأزرق. وحيدة كالسماء, كالملح في جوف الطعام, كالوحدة نفسها. بعيدة عن عيون الفرات الزرقاء, عن أسماك دجلة. عن ضريح السياب , حيث تبرعم الجماجم في ذروة الحرب القذرة. حيث يزهر اللوز في عز الخريف, حيث تضوع روائح الأزهار البرية...حيث يرفرف عطر الصبا و تحن الذاكرة لمجدها القديم, لذاكرتها الأولى. ساعة كسلى... على جدران القاهرة على حيطان الشوق تدق بعنف على أبواب القلب المثخن بالأغاني. تحصي لحظات امرأة كانت بالأمس القريب, تلهو بأصنام الشعر العربي القديم. تفتتها حجرا حجرا, و تنثرها بيتا بيتا, لتعلي بأنقاضها صرحا يستظل بظله الشعراء. ساعة كسلى... تضبط عقاربها على هبوط مفاجئ, عنيف في دورة دموية تعبت من لم الحقائب . فاستعاضت عنه بلملمة الوقت على عجل, لتحشوه في حقيبة يد صغيرة, و تطوح به بعيدا بعيدا, لتخلد أخيرا لغفوتها الأخيرة. ساعة كسلى... تلاحق قطيع الوقت الهائم على وجهه في براري الكون و الملكوت. تسند رأسها للجدار و تغمض عينيها المتعبتين. فيفوتها القطار الأخير. يفوتها العمر. هي العمر بحاله و أحواله... هي العمر البعيد. و يتوقف دونها الزمن, هي الزمن, و هي الزبد الطالع من لجة البحر . هي الزمن المتوقف هنيهة للاستراحة, في نقطة اسمها: 20 يونيو 2007. سئمت يا زورقي الرحيلا, فتوقف كي أترجل قليلا. كي أعبر, حافية, إلى الضفة الأخرى من الروح و الوجع. كي أتوسد ذراعي, و أغفو ريثما يعود الصيادون بشباكهم , من المنابع الأولى. توقف قليلا, كي أتنسم على مهل هواء النيل, و أتذكر ما حصل في الليلة الفائتة. أصغ إلى وقع صدى الأنات في عمق الظلمة, تحت الصمت , على الأموات. أصغ إلى نبض قلب عاش ثمانين حولا, فما سئم , و ما سئمت منه الحياة. لكنه قرر أن يستبدل نبضه بالصمت, و أن يستعيض عن اختلاجه بالهدوء المطلق. يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموت بأغنية, بعاشقة, بمتعبدة في هيكل لا تبلغه النسائم إلا عصرا. ها هي الآن وحدها على شط الممات. الآن فقط تستطيع أن تكتب أجمل القصائد و الأغنيات. الآن فقط دخلت محراب الشعر الحقيقي . الآن فقط تستحق لقبها بامتياز: شاعرة مجددة. هي ماتت لفظة من دون معنى و صدى مطرقة جوفاء يعلو , ثم يفنى. هي الآن حية هي الآن تولد ملفوفة في أبهى القصائد مشرعة راحتيها لروائح الأهل و مواطن الحنين. هي الآن تسجل اسمها في دفتر العائلة: نازك صادق الملائكة هي الآن فقط...تستحق اسمها ميلود بنباقي