في زمن العولمة الكاسحة للهوية، الماسحة للخصوصيات الثقافية والحضارية، الماحية للسمات التي تتميز بها الأمم والشعوب، يمثل الشعر طوق النجاة، وسبيلاً للتحرر من قيود (التنميط الثقافي) الذي يسعى القائمون عليه، إلى فرض نظام عالمي واحد على البشر أجمعين وصبّهم في قالب جامد. فالشعر في هذا الزمن المليء الذي تعلو فيه أسهم القتامة والجهامة والقبح والبشاعة والمسخ، هو إرواء للنفس وإنماء للعقل وإغناء للوجدان. ولذلك تهفو النفس إلى الشعر كلما أتيحت لها الفرصة لكسر الرتابة والانفلات من ضغوط ترهق القلب. فالشعر، من حيث هو، يضيء قناديل الحب والأمل، ويبدد الظلمة الحالكة التي تحجب الرؤية إلى حقائق الأشياء. وبذلك يرقى الشعر إلى وسيلة ثقافية عالية الجودة، لتجديد ثقة الإنسان بنفسه وبقدراته التي أودعها فيه الخالق سبحانه، للتغيير وللبناء وللنماء ولتقوية الانتماء إلى قيمه وأصوله وثقافته وهويته. لما وقع في يدي هذا الكتاب، تبادر إلى ذهني كتاب الدكتور عبد الله الطيب (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها) الذي صدر منذ سنوات بعيدة في أربعة أجزاء، كتب مقدمة الجزء الأول، الدكتور طه حسين الذي كان عهدئذ رئيساً لمجمع اللغة العربية في القاهرة. وبعد أن شرعت في قراءة مقدمة الكتاب الجديد للعلامة الموريتاني الباحث الأكاديمي، عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة، الدكتور محمد المختار ولد اباه (رحلة مع الشعر العربي)، الذي صدر أخيراً عن مطبعة الأمنية في الرباط، في 632 صفحة من القطع الكبير، وبمقدمة كتبها الدكتور عباس الجراري مستشار صاحب الجلالة وعضو أكاديمية المملكة المغربية، استحضرت كتاباً كنا نقرأ فيه في أيام الطلب الأولى، يقع في ثلاثة أجزاء عنوانه (المنتخب من أدب العرب)، وحضرتني موسوعة الدكتور شوقي ضيف (تاريخ الأدب العربي) في عشرة أجزاء خصص الجزء العاشر منها للأدب في المغرب العربي، كما خطر في ذهني كتاب (المجمل في الأدب العربي) الذي صدر عن دار المعارف في القاهرة في خمسة أجزاء من تأليف مجموعة من الأساتذة في مقدمتهم الدكتور طه حسين، ولست أدري لِمَ استحضرت هذه الكتب بمجرد أن وقع نظري على غلاف كتاب الدكتور محمد المختار ولد اباه. ولكنني بعد أن شرعت في القراءة، عرفت سبب ذلك، لأن هذا الكتاب هو بمثابة بانوراما للشعر العربي منذ العصر الجاهلي إلى عصرنا هذا. أي هو موسوعة في بابه. ولذلك وجدتني أقبل بشغفل على قراءة هذا الكتاب الذي جاء صدوره في الوقت المناسب، ليبهج النفس ويشرح الصدر في هذا الزمن الذي تتعرض فيه الثقافة العربية، والأدب العربي، والشعر العربي، واللغة العربية، والهوية العربية، لأشرس هجوم يشترك فيه الأجانب وأبناء الجلدة معاً. يقول المؤلف في مستهل هذا الكتاب الجميل الذي هو ضربٌ فريدٌ من التأليف في هذا الحقل الأدبي الجامع بين القديم والحديث : «إنني في هذا الكتاب لا أرمي إلى الحديث عن نقد الشعر أو تاريخه أو صناعته، وإنما أردت أن أقص رحلتي معه في بدايتها، وكيف نازعت نفسي في التخلص من معاقرته إلى حدّ الإدمان، فكانت الحرب سجالاً بيني وبينه، لقد انتصرت عليه حيث أبيتُ أن أكون من مماليكه المحترفين، لكتنه انتصر عليَّ لما فرض علي أن أظل من هواته المدمنين». وعن هذه الرحلة يقول الدكتور عباس الجراري في المقدمة الضافية التي كتبها لهذا الكتاب : «والمؤلف في هذه الباقة ينطلق من قراءة متأنية ومستوفية لما بين يديه من المصادر والمراجع، في تأثر بذوقه وما تخلفه تلكم القراءة من انطباع في ذهنه وفكره وقلبه كذلك، وإن لم يزعم أنه يقدم ديواناً للشعر العربي أو مختارات منه، مصرحاً كما عبر في عنوان الكتاب بأنه إنما يعرض لرحلته الشخصية وتجربته الذاتية مع الشعر». وقد بدأ المؤلف بسرد قصته مع الشعر الجاهلي في عبارات رقيقة، فيقول : «إنها رحلة بدأت منذ عهود الصبا، كانت الخطوة الأولى ترجع إلى قراءة بعض قصائد الأمداح النبوية؛ إذ حاولت حفظ همزية البوصيري، وأنا في السادسة من عمري، ومُنع عليّ أن أكتبها في اللوح المخصص للقرآن، ولكن غمرني الفخر عندما سُمح لي أن أنسخها في دفتر خاص يحمل اسمي لأول مرة. بيد أنني لم أستطع سوى كتابة أبياتها الأولى وكنت أحفظ مطلعها ولا أفهم منه إلا لفظ (الأنبياء) في مطلعها و(السماء) في قوله (يا سماء ما طاولتها سماء)». ويوزع المؤلف كتابه في الفصل الأول تحت عنوان (انطلاقة مع الشعر الجاهلي)، إلى أربعة أقسام يسميها محطات؛ الأولى مع دواوين الشعراء الستة وهم : امرئ القيس والنابغة الذبياني وعلقمة الفحل بن عبدة وزهير بن أبي سلمى وطرفة وعنترة بن شداد العبسي، والثانية مع باقي المعلقات وهي لأربعة شعراء، ابن كلثوم واليشكري ولبيد بن ربيعة، والثالثة يسميها (محطة جانبية) عن أبي دريد والشنفري، والرابعة مع كتب الشعر القديم، وهي كتاب طبقات الشعراء للجمحي وكتاب الفضليات والأصمعيات وفيه يتحدث عن أسماء بن خارجة الفزاري وعبد قيس بن خفاف البرجمي وسويد بن أبي كاهل البكري والأسود بن يعفر التميمي والمرقش الأكبر للبكري وأعشى قيس ميمون بن جندل البكري (صناجة العرب) وحميد بن ثور الهلالي والشماخ بن ضرار الغطفاني وحسان بن ثابت الأنصاري والنابغة الجعدي، وكتاب جمهرة القرشي وفيه يتحدث عن الطرماح. ويخصص الفصل الثاني لتطور الشعر في فجر الإسلام وفي العهد الراشدي وفي العصر الأموي، ويقف في محطتين؛ أولاهما مع الحطيئة والغزليين، وهم الحطيئة شاعر السخرية والهجاء وعمر بن أبي ربيعة شاعر القصص والمغامرات، والعرجي والأحوص وكثير وجميل بن معمر وغيلان، وثانيتهما مع شعراء السياسة والنقائض، وهم عبيد الله بن قيس الرقيات وأعشى بني ربيعة ونابغة بني شيبان وجرير والفرزدق والأخطل وعدي بن الرقاع العاملي القضاعي والقطامي. ويفرد المؤلف الفصل الثالث لما يسميه (مجازات مع مراحل الشعر في العصور العباسية)، حيث يقف في ثلاث محطات؛ الأولى مع مرحلة التجديد الشعري، وفيها يعرض لبشار بن برد وأبي نواس وأبي العتاهية ومسلم بن الوليد (صريع الغواني) ودعبل والعكوك، والثانية مع شعراء البديع، وهم سبعة عشر شاعراً، أبو تمام والبحتري وابن الرومي ومروان بن أبي حفص وابن المعتز وكشاجم والمتنبي وأبو فراس الحمداني والصنوبري والسري الرفاء والوأواء الدمشقي وابو الحسن محمد بن يعقوب الأنباري وابن نباتة السعدي والشريف الرضي وعبد الصمد بن بابك ومهيار الديلمي والمعري. والمحطة الثالثة عن مرحلة الصناعة الشعرية، ويقف فيها عند ناصح الدين الأرجاني القاضي والحيص بيص سعد بن محمد التميمي وابن التعاويذي وعمارة اليمني وابن الفارض وأبو الفتوح شهاب الدين السهروردي وبن سناء الملك وأبو الفضل بهاء الدين زهير العتكي وصفي الدين الحلي والبوصيري والبرعي. أما الفصل الرابع فهو عن (جولة في ربوع الأندلس)، وفيه يقف المؤلف عند أربع محطات، الأولى عن الأندلس الفردوس المفقود، والثانية حول نكبة ابن عباد، والثالثة حول سمات الأدب الأندلسي وهي ست؛ الانبهار بالطبيعة والتفنن في وصفها، والحنين إلى الأصول المشرقية، والتأنق في الأسلوب، واستحداث الموشحات، وشعر الهزل والمجون، وكثرة الشواعر. أما المحطة الرابعة، فهي مع أعلام الشعراء الأندلسيين، وهم ابن هانئ وابن دراج القسطلي وابن برد الأصغر وابن حزم وابن زيدون وابن شهيد وابن عبدون وابن وهبون والكلاعي وابن سهل وابن خاتمة ولسان الدين ابن الخطيب السليماني وابن زمرك وابن الجياب وابن جزي. ثم ينتقل المؤلف في الفصل الخامس إلى المغرب العربي، ويضع عنواناً لهذا الفصل على النحو التالي (مجابات في الشعر المغاربي)، حيث يقف في ثلاث محطات؛ الأولى مع شعراء القيروان وتونس، وهم تسعة، أبو إسحاق إبراهيم أبي القاسم القروي المشهور بالرقيق أو ابن الرقيق وابن رشيق والحصري الكفيف وحازم القرطاجني وأبو الفتح التونسي ومحمد رشيد باي والورغي وإبراهيم الرياحي ومحمد قابادو. والثانية مع الشعر في القطر الجزائري، حيث يقف مع عشرة شعراء، هم بكر بن حماد التاهرتي وعبد الكريم النهشلي وابن النحوي وعبد الله بن محمد التنوخي بن قاضي ميلة وابن خميس وأبو مدين التلمساني وشمس الدين محمد التلمساني وأبو علي حسن بن الفكون القسنطيني وأبو زكريا بن خلدون وأبو حمو موسى الثاني. أما المحطة الثالثة من هذا الفصل، فيخصصها المؤلف للشعر في المغرب الأقصى، فيعرض لأربعة عشر شاعراً مغربياً، هم القاضي عياض والقاضي ابن زنباع أو ابن زياع وأبو زيد السهيلي ومحمد بن حبوس الفاسي وأبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي والأمير أبو الربيع سليمان الموحدي وابن عبد المنان أبو العباس أحمد بن يحيى وابن المرحل وعبد المهيمن الحضرمي والفشتالي ومحمد المرابط الدلائي وأبو علي الحسن اليوسي ومحمد الحراق ومحمد الفاطمي الصقلي. ثم ينتقل المؤلف بالقارئ إلى الشعر الحديث، ويخصص له ثلاث محطات، الأولى عن (شعراء تجديد القديم)، وهم ثمانية، محمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وأمير الشعراء أحمد شوقي وخليل مطران ومعروف الرصافي وإيليا أبو ماضي وأبو القاسم الشابي والأخطل الصغير. أما المحطة الثانية فيقف فيها مع (شعراء الحداثة)، بمعنى الشعراء المحدثين، لأن مفهوم الحداثة في الشعر كما هو متداول لا ينطبق على هؤلاء الشعراء جميعهم : علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمد محمود الزبيري وبدر شاكر السياب ونزار القباني ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ومحمد مهدي الجواهري وعبد العزيز محيي الدين خوجة وعبد العزيز سعود البابطين، وأحمد عثمان التويجري والدكتور عبد الله الطيب. والتقى المؤلف في المحطة الثالثة من هذا الفصل، مع (شعراء المغرب المحدثين)، وهم اثنا عشر شاعراً، محمد بن إبراهيم ومحمد المختار السوسي والحسن البوعناني وعبد السلام العلوي ومفدي زكريا (من الجزائر) وعبد القادر حسن وإدريس الجاي وأحمد عبد السلام البقالي ومحمد الصباغ وأحمد المجاطي ومولاي علي الصقلي وخليفة التليسي (من ليبيا). وأستغرب كيف لم يختر المؤلف ضمن هذه الكوكبة الشعراء علال الفاسي ومحمد الحلوي وعبد الكريم الطبال. ثم يعود المؤلف إلى الشعر الشنقيطي فيحكي عن تجربته الشخصية معه، ويقف عند أربع محطات، الأولى يفرد لها عنوان (استدراكات محدودة)، وهي من أربعة أقسام، الأول عن أيد ابن محمود العلوي والثاني عن سيدي محمد بن محمد الصغير بن امبوجه والثالث عن محمد ابن السالم الحسني والرابع عن محمد فال بن عينينه. والمحطة الثانية يخصصها لمحاور المديح النبوي في شعر الشناقطة، والثالثة عن الشعر التعليمي عند الشناقطة، والرابعة عن هاجس الزمن عند امحمد بن الطلبه. ثم يتحدث عن التجربة الشخصية في محطة الوصول، وتعقبها محطة النزول. وفي هاتين المحطتين يتحدث المؤلف في رقة وعذوبة عن تجربته الشعرية، وهو الشاعر الذي لم يفلح في الانفلات من قبضة الشعر الضاغطة عليه. وفي الجملة فإن هذا الكتاب أراد له مؤلفه أن يكون مواكباً لرحلته مع الشعر عبر مختلف مناطق العالم العربي، وعلى مدى كل عصوره. وبذلك يكتسب هذا الكتاب أهمية أدبية توثيقية تقدر للمؤلف الذي هو حجة في الأدب واللغة والشعر، كما هو حجة في علوم القرآن والحديث.