مستقبل الثقافة الإسلامية : إلى أين؟ ننطلق في طرح السؤال من قلق مشرو ع على مستقبل ثقافتنا القريب قبل البعيد، في ظل تغول أخرق، تمارسه القوى السيدة السائدة على مسرح كوكبنا، وفي طليعتها الثقافة الأمريكية المستأسدة بمركبها الإعلامي المتفوق، وبتنظيرها المبرر لسلوكاتها الإبادية، مثل نظرية صدام الحضارات ونهاية التاريخ والعولمة الثقافية. أقل ما يبرر هذا القلق، بالإضافة إلى التفوق الساحق، ذاك التاريخ الممتد عبر قرون ، من إبادات متواصلة لشعوب وثقافات بمسميات متشابهة، لا يعدم الرجل الأبيض ، اليميني الصليبي، المهووس بالصراع والهيمنة، إليها من سبيل ( انظر الصهيونية ، النازية، ونهاية التاريخ لعبد الوهاب المسيري). هذه " السوابق" تكفي لإيقاظ ما تبقى من غريزة البقاء والحرص على الذات لدى أمتنا، في ظل مؤشرات دالة على جدية هذا التوجه لدى الغرب الصليبي - الصهيوني. التوقعات المقبلة وإسقاطها على العالم الإسلامي وفي غياب دراسات مستقبلية عربية أوإسلامية جادة ( باستثناء أبحاث المهدي المنجرة) واستنادا إلى نتائج الدراسات المستقبلية الأمريكية ( جونزبت ، وباترسي أبوردين -1998)، فإن أهم ما يتوقع لعالمنا في العشرية المقبلة، من تحولات ، هو: نهضة الفنون، بزوغ اشتراكية جديدة في الكتلة الشرقية وعولمة أنماط الحياة، انبثاق دور مهم لمنطقة المحيط الهادي، انهيار نموذج الدولة الراعية التي تقوم بالتأطير الاجتماعي والثقافي والتربوي على نفقتها، صعود النساء إلى الحكم، ازدهار الإحياء الديني، انتصار الفرد، الهجرات الدولية المتسببة في الإضرابات الديمغرافية والسياسية والطائفية، تفاقم الفقر والأمية في العالم الثالث، التأثير الخارق للتقنية الحديثة الذي سوف يؤدي إلى قطيعات جذرية في مجال التواصل والعلاقات والبحث والمفاهيم. وبإسقاطها على عالمنا الإسلامي، نستنتج مايلي : سلبا : اشتداد الصراع بين الاتجاهين العلماني والاسلامي، اكتظاظ المدن وتفاقم الهجرة الريفية وتقلص فرص العمل، انهيار القدرة الشرائية وتفاقم الفقر والأمية والمديونية، تغول العولمة واستمرار إجهاض المشاريع الإصلاحية، احتمال اندلاع صراعات إقليمية تحركها جهات خارجية بأيدي عنصرية وطائفية داخلية. إيجابا : عودة الفرد المسلم إلى أصوله بحثا عن الذات، إلحاح الشعوب الإسلامية على الشورى والمشاركة، بداية أفول الانبهار بالحضارة الغربية، تهاوي العديد من النظم السياسية والاقتصادية والتربوية، بلورة الفكر الإسلامي في العلوم الاجتماعية عبر دراسات عملية رصينة ولكن بطيئة. إلاأن أخطر تحول يتعرض له العرب المسلمون، هو التناقض المتتالي لنسبتهم على عموم المسلمين، بل إن البنية الديمغرافية العربية تتعرض إلى فعل تهجين من المسلمين غير العرب وأحيانا من غير المسلمين، مما يجعل بروز المقومات الأساسية للثقافة العربية في بعدها الإسلامي من خلال العناصر الثلاثة الآتية: العقيدة واللغة والتراث الإيجابي، أمرا ملحا. لا مستقبل إلا في البعد الإسلامي الثقافة العربية الإسلامية ليس لها الآن من مستقبل إلا في بعدها الإسلامي، ولا أقول هذا من منظور شعوبي لأنني عربي، فرجوعا إلى التاريخ لم يكن للثقافة العربية وجود حقيقي قبل الإسلام. يشهد عمر بن الخطاب على عصره : " كان الشعر علم قوم، لم يكن لهم علم أصح منه ". ولم تكن اللهجات متحدة، وأحيانا ولاتقاربة " ما لغة حمير بلغتنا ولالسانهم بلساننا !!. أما سلم القيم فكان يعاني من اختلال تناقضي مريع: يقيم العربي الحرب غيرة على عرضه ولكنه " يكره فتياته على البغاء" ويمارس نكاح الاستبضاع ! يقيم الحرب ذوذا عن جاره وأخرى يبدأ به عند شنه العدوان! والثقافة العربية اليوم تواجه خطر الانقراض في وجه العولمة. هذه الثقافة العربية التي لم يكن لها وجود حقيقي إلا بالإسلام والآن ليس لها استمرار حقيقي إلا بالإسلام في وجه العولمة التي أصبحت تفرض سلوكا لغويا واقتصاديا رهيبا، أرشد إليه - على سبيل المثال - الباحثان الاستراتيجيان الألمانيان : هانز بيتر مارتين، وهارال دشومان في عملهما المتميز ( فخ العولمة .. الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية) تضمن معلومات مخيفة عن تنميط الإنسان، عبر صور جاهزة تمر عبر وسائل الإعلام،لكي تزيل الخصوصية الثقافية للأمم، وتخلق كائنات إستهلاكية، مستضعفة للثقافة الشعبية السطحية، التي تحولت إلى سلعة تجارية. في العالم العربي بلغ التغول الانجلو، فرنكفوني، لغة وفكرا وسلوكا اجتماعيا واقتصاديا وعقليا ذي الطابع الاستهلاكي، مدى بيعدا، يبين بأن ثقافتنا ( بالمعنى الوظيفي للكلمة) مهددة بالانقراض ، بالنظر إلى الذي تعيشه أجيالنا الشابة من تغييب ثقافي،وتخلف علمي بل واستقالة حضارية، وانبهار مخيف بالغرب، هذه الأجيال التي من المفروض أن تحرص على نقل مشعل ثقافتنا إلى القرون القادمة،كي لاتنقطع بها سبل الاستنكار الثقافي المعاصر. إن العالم العربي اليوم، مهدد بأن يؤمرك على الطريقة السطحية السريعة، بالمعنى الذي يتحدث عنه بيير بورديو حين تحليله للعولمة الإعلامية، وأخشى أن واقعنا يجاوز ذلك إلى المستوى الذي يبسطه جون لاكاتوس في كتابه ( تغريب العالم)، وهذان شاهدان من أهلها، بعبدا عن الخطاب العولمي الاشهاري الذي يمثل نموذجه الأسو الكاتب الأمريكي اليهودي الشهير توماس فريدمان في كتابه ( سيارة اللكساس وشجرة الزيتون) وغيره من الكتاب المأجورين لدى الشركات العابرة للقارات التي تريد أن تسوق مفهوما مخادعا للعولمة حتى تمكن لغزوها الاقتصادي الشامل. ليس للثقافة العربية اليوم، سوى أن تتحصن في بعدها الإسلامي المنفتح على البعد الإنساني العالمي يشفيها من داء الإنغلاق على البعد القومي الضيق، فالإسلام يرفض الانتماء على أساس اللون أوالدم أو اللغة أو الطبقة أو الجنس، ويؤصل بالمقابل للانتماء الاختياري حين يصنف الناس حسب اعتقاداتهم. أما الثقافة العربية المنغلقة فعاجزة حتى عن حل مشاكلها الداخلية فكيف بمواجهة العولمة الخارجية؟ فمشكلاتنا مع الأقليات غير العربية تنذر بالإنفجار ( المشكلة الكردية في الشرق، والمشكلة البربرية في الغرب) ونحن عاجزون بثقافتنا العربيةالمفصولة عن الإسلام إلا عن شيء واحد وهو أن نستفز هذه الأقليات العرقية ونثيرها ضد مصالحنا الاستراتيجية. خطة طوارئ عاجلة للإنقاذ للعبرة : لقد انقلبت القومية الطورانية على الدولة العثمانية، وانغلقت على ذاتها، فنسي المسلمون جميعا تركية المعاصرة، وتركوها جاثية على عتبة أوربا منذ ثلثي قرن، تتوسل العضوية وتغرق في التضخم والديون ! لقد انسلخت من الحرف العربي،أ فقدت بذلك كل تراثها لقرون، وقطعت صلتها بماضيها وبمن حولها،" فارتدت بضربة واحدة الى تخوم البربرية من جديد" كما عبر المفكر الإسلامي الفذ على عزت بيغوفتش في كتابة " البيان الإسلامي " وهاهي اليوم كريشة في مهب الريح الغربية، تسخر في الحلف الأطلسي وتصد عن الاتحاد الأوربي " أدعى إلى الموت ولا أدعى إلى المجالسة " كما عبر الشاعر المصري أمل دنقل عن حال عنترة بن شداد، رامزابه لحالنا اليوم ! ومصير الأمة العربية، إذا انسلخت ثقافتها عن بعدها الإسلامي، لن يكون أفضل من حال الترك لاقدر الله! ما وجه إقبال المسلمين على ثقافة عربية مسلوخة عن الإسلام ؟... إن كان وجه الانفتاح الإنساني ، فالأولى لمسلمي آسيا وإفريقيا الانفتاح على الغرب المتفوق .وإنما هناك وجه واحد للإقبال على الثقافة العربية لغة وفكرا، ليس سوى الكلمة السواء التي هي الإسلام. يتجلى هذا في مظاهر الحب الخاص الذي لغير المسلمين للعرب وللغة العرب، استشهد بعضهم في سبيل أن ينصروا العربية في عمق بلاد العجم أيام الاستعمار الشرس،وحتى إن جمهورية الشيشان مابين الحربين العدوانيتين الروسيتين عليها، طبقت في نظام تدريسها - رغم الظروف السيئة - حصصا للغة العربية بنفس عدد حصص اللغة الشيشانية ( 6 ساعات في الأسبوع لكل منهما). وهذا شيء يستحيل فهمه ولاتحققه إلا أن يكون عند الشيشانيين ارتباط إسلامي بالعروبة. لقد أبرز "الناطق الثقافي" باسم البانتغون، المنظر السياسي الصهيوني صموئيل هنتتغتون، في كتابه المثير للجدل " صدام الحضارات" أن الثقافة هدف يموت الإنسان من أجله "، وبين أن زمن الصراع الإيديولجي أو الإقتصادي قد ولى لصالح زمن الصراع الثقافي، راسما سيناريو الحرب العالمية المقبلة، من أجل أهداف ثقافية، في شكل تحالف إسلامي - كونفوشيوسي، في مواجهة تحالف مسيحي - يهودي ! أكيد أن هذا السيناريو مصنوع من أجل توحيد القوة الغربية، واستعدائها ضد المسلمين، لكنه يعكس خلفية النظرة الغربية إلينا كأمة واحدة وثقافة واحدة ، مستهدفة على صعيد واحد من الخصم الشرس القوي. سؤال حاسم للحداثيين العرب من أجل تجنب خطر انغلاق الثقافة العربية على ذاتها بعيدا عن الإسلام، مما قد يسهل ابتلاعها ويسرع انقراضها، ينبغي أن يجيب المثقفون العرب العلمانيون، أو الحداثيون كما يسمون أنفسهم على السؤال الحاسم: ما الموقف من النص القرآني؟ إجابة قاصدة لا لبس فيها، بعيدا عن المخاتلة أو التمويه. لقد استلهم الحداثيون العرب، التجربة الغربية التي قامت على مراجعة الموقف من قدسية النص الديني : التوراة والإنجيل، والمراجعة التي أفضت للخروج من عصر الإنحطاط الأوروبي إلى عصر التنوير والحداثة وعصر الصناعة عبر مخاض الصراع بين تيارين متدابرين نشآ في بداية القرن السابع عشر التيار" الحداثي " والتيار " الأصولي ؛ الثاني تشبت بالقدسية الحرفية للنص، وأصر على أنه كله من الله وأنه مقدس ولا يناقش ، في حين دعا الأول إلى مراجعة النص الديني على ضوء مستجدات البحث العلمي التي كشفت أن مافي الإنجيل من أخطاء تتعلق بالجغرافية والفلك والتاريخ والطب والكيمياء والعلوم البيولجية وغيرها كثير وفادح، و لايمكن معه الاستمرار في مغالطة النفس باعتقاد أن الإنجيل مقدس وسليم. وهكذا دعا الحداثون العرب إلى مراجعة الموقف من القرآن الكريم، وإعادة قراءته على ضوء نتائج العلم. إلا أن هناك مفارقة غريبة في موقفهم هذا ، ففي حين حسم الأوربيون الإشكال بمنهج العلوم البحثة: ( إثبات كروية الأرض ودورانها حول الشمس مثلا ) اعتمد دعاة مراجعة الموقف من النص القرآني، على الإيديولوجيا ، أو على " علوم إنسانية " مؤدلجة في أحسن الأحوال، مغيبين نتائج العلم الحديث ، لأنها حسمت الموقف من القرآن إثباتا وتبيينا،أي في الإتجاه المعاكس لرغباتهم! لنسأل دعاة إعادة قراءة النص : من منهم اعتمد في أبحاثه ثالوثية موريس بوكاي الضخمة : " الإنسان ما أصله ؟" والكتب المقدسة في ضوء العلم " موسى وفرعون " وأين موقع الاكتشافات الجيولوجية المقررة للنتائج القرآنية والبيولوجية والطبية وغيرها عند زغلول النجار وطارق سويدان، وعبد المجيد الزنداني، والبرفسور نجم الدين أربكان، وغيرهم كثير؟ ولنسأل من جهة أخرى: ما حصيلة المطالبة بإعادة قراءة النص القرآني على ضوء" العلم الحديث "؟ يتمخص جبل الحداثيين في الموضوع عن خلاصة هزيلة، نتلمسها خائبين لدى رائدهم محمد أركون، على سبيل المثال: تطبيق منهج علم النفس أعطى أن وصف الجنة انعكاس لأحلام رجل الصحراء في الماء والظل والخضرة والمرأة الحسناء! وتطبيق علم اللسانيات أفضى إلى أن الخطاب القرآني ذكوري ( رغم إثباب أحمد مختار عمر علميا للعكس). وتطبيق الانتروبولوجيا خلص إلى أن العبادات في الإسلام، هي امتداد للطقوس السحرية لدى البدائيين! مقترحات علمية من أجل تفعيل هذه الثقافة ، داخل محيطها الإسلامي، نختم بهذه المقترحات العلمية: - وضع استراتيجية على اعتبار أن البعد الإسلامي للثقافة العربية بعد حاسم وحاكم. - تفعيل دور المؤسسات الإسلامية مثل منظمة المؤتمر الاسلامي، و الإيسيسكو والأليسكو. - تفعيل مقررات مجالس وزراء التعليم والإعلام والثقافة، في هذا الإطار. تفعيل الترجمة بين اللغات الإسلامية واللغة العربية،جسرا للتبادل الثقافي بين الشعوب الإسلامية. - اعتماد الحرف العربي في اللغات الإسلامية، وارجاع ماشذ منها عن خطيرتها إليها. - الكف عن التسويق الفولكلوري للثقافة العربية، لأن هذا التسويق يعتمد على عناصر توقفت في الزمن ! - التمييز بين الثقافة وبين التقاليد الجزئية، فإن الله لم يكلفنا أن نبلغ إلى أمريكا واستراليا عادات عبس وذبيان" ، كما كان يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله!. - اعتماد الدراسات المستقبلية الجادة. أبو زيد المقرئ الإدريسي - المغرب