وقفنا في العدد السابق من هذا العمود على أن الدولة المدنية هي الصيغة الملائمة في العصر الحالي لنظام الدولة العام كإطار يضمن المساواة بين المواطنين ويضمن حرياتهم وحقوقهم في تواز وتوازن مع واجباتهم طبعا ، كما يضمن للجميع حرية ممارسة شعائرهم الدينية دون إكراه أو خوف أو توجس ! ولحصول هذا ينبغي أن يتوفر شرط ثان ، وهو ما اصطلح على تسميته أو توصيفه بعبارة تأميم الملكية ، أي أن يكون الملك في ملكية جميع المغاربة لا ملكا لبعضهم دون البعض . وبعبارة أخرى أن يكون ملكا لليهود والمسيحيين واللادينيين والوثنيين (إن وجدوا) وغيرهم ، لا أن يكون ملكا للمسلمين فقط . والشرطان السابقان لا يستقيمان إلا بوجود شرط ثالث هو ما أصبح شائعا في لغة السياسة ومعروفا ب الملكية البرلمانية كما هي متعارف عليها كونيا ! فالمنطق السياسي السليم يقتضي ربط المسؤولية بالمساءلة والمحاسبة (وهو ما ينص عليه أيضا الدستور الحالي) ، وهذا يعني أن كل مسؤول ، أي كل من يمارس الحكم أو السلطة بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها ، لابد أن يراقب ويساءل ويحاسب ، وهذا لا يختلف عليه اثنان ! غير أن الإشكال يطرح عندما يتعلق الأمر بشخص الملك ، فهو موقر وكلامه لا يناقش وقراراته كذلك لا تناقش بالتتابع ، وهو يرأس مجلس الوزراء والقضاء والأمن والدفاع والدين ويعين كبار المسؤولين ويعيد التشريعات الصادرة عن البرلمان لإعادة النظر فيها الخ ... وهذه مسؤوليات وسلط تتجمّع في يد واحدة لا يمكن لصاحبها أن يكون محط مساءلة أو محاسبة ، وفي هذا تناقض واضح مع منطوق المنطق والدستور ! والحل يكمن في أن يتحمل أصحاب السلط مسؤولياتهم بالكامل كل في مجال اشتغاله : حكومة مسؤولة عن كل ما يتعلق بتدبير الشأن العام تخطيطا وتنفيذا وتعيينا ، وهي مسؤولة أمام برلمان منتخب انتخابا ديموقراطيا شفافا نزيها يراقب الحكومة ويحاسبها ، وهو بدوره مسؤول أمام الشعب الذي انتخبه على أساس برامج واضحة عليها وعلى تطبيقها يحاسب أمامه ! وقضاء مستقل تماما عن كل السلط به تضمن العدالة وأمامه يتساوى المواطنون وبه يكفل الاستقرار والأمن ! والملك فوق هذا وذاك رئيس للبلاد له كامل الاحترام والتقدير لشخصه وذويه ، رمز لوحدة البلاد وسيادتها ، ضامن لوحدة الشعب وتنوعه البشري والثقافي والديني ، لديه يعتمد السفراء وممثلو الهيئات الدولية والقارية والإقليمية ! هذه أعمدة النظام الديموقراطي الحداثي كما مارسته وتمارسه الأمم العريقة في الديموقراطية ، مع إضافة شروط أخرى سنقف عند بعضها في العدد المقبل ، وتحياتي لكل المواطنين البسطاء ..