بسم الله الرحمن الرحيم (تمخّض الجبلُ فولدَ فأرا) مثلٌ مشهور يُضربُ للأمر يكون منتظرا أن يأتيَ منه شيءٌ كبير، فإذا بهذا الشيء المُنتَظَر، في النهاية، في غاية الصّغارة والحقارة. بعد خطاب 9 مارس، نشطت الدعايةُ المخزنية، يتبعُها السياسيّون الخاضعون والمنتفعون والانتهازيون والمأجورون، وكثيرٌ من الهيآت والمنابر والتنظيمات، التي ترى مصالحَها ومصيرَها مرتبطا بالاستبداد والفساد نشطت هذه الدعايةُ للإيهام بأن خطاب الملك تاريخي، وبأنه ثورةٌ من الملك على النظام القديم، وبأن ما أعلن عنه الملكُ من إصلاحات سياسية ودستورية إنما هو إعلان عن التوجه نحو الدولة الديمقراطية المنشودة بسرعة فائقة، وصفَها بعضُهم بأنها فاجأت كثيرا من الأحزاب السياسية، وتجاوزت بكثير ما كانت تطمح إليه هذه الأحزابُ من إصلاحات وتعديلات، واستجابت لكل مطالب الحركات الشبابية الاحتجاجية، وفي مقدمتها حركة 20 فبراير. استمرت الدعايةُ المخزنية، بكل أبواقها وأذرعها وإمكانياتها الهائلة، تنفخ في قيمة مضمون الخطاب الملكي طيلة الوقت الذي استغرقته أشغالُ اللجنة الاستشارية، التي عينها الملك، للإشراف على صياغة التعديلات الدستورية وفق التوجيهات والسقف الذي حدده الملكُ في خطابه. لقد اجتهدت الدعايةُ المخزنية لتصور لنا أن اللجنة الملكية المكلفةَ بالدستور كانت منفتحةً على جميع الآراء والحساسيات والتوجهات، وأنها استمعت للجميع على قدم المساواة، وتلقت حوالي مائة مذكرة مكتوبة تعبر عن تصورات أصحابها واقتراحاتهم وآرائهم. هذا فضلا عن نشاط الآلية التي عينها الملكُ أيضا لمتابعة أشغال لجنة عبد اللطيف المانوني، والتي ترأسها مستشار الملك. كل شيء يدور حول الملك؛ فما من مبادرة إلا مِنَ الملك، وما من تغيير أو إصلاح أو مراجعة أو تعديل إلا برغبة الملك ومباركته وإشرافه، وما من خير يُرجى للشعب إلا من الملك. باختصار، ما من حركة ولا سكون إلا بإذن الملك. ولهذا، لم يزل النظامُ يسعى بكل الوسائل ليفرضَ على الشعب أن يؤمنَ بأن ما وعد به الملكُ في خطاب 9 مارس سيكون مُوفِّيا بالحاجة وزيادة، وسيجد فيه المغاربةُ ما يطمحون إليه في تدبير أمرهم السياسي. وكان النظام المخزني يُسرّب، من هنا وهناك، ويُشيع، من خلال هذا المنبر أو ذاك، أن الملكَ، في الإصلاحات المرتقَبة، سيتنازل عن بعض سلطاته لصالح الحكومة والبرلمان. ولا شك أن هذه التسريباتِ والإشاعات كانت مطلوبة من النظام للتخفيف من حدة الاحتجاجات السياسية، التي كان قائمةً، أساسا، بسبب استبداد الملك بمطلق السلطات من غير أن يكون مسؤولا أمام أية جهة، بل هو بنص الدستور فوق جميع المؤسسات، ومنزهٌ أن تصله يدُ النقد أو المراجعة أو المحاسبة والمتابعة. وهذا هو أساس الاستبداد الذي قامت حركة الشباب للدعوة إلى إنهائه وإنهاء الفساد الذي يعيش في كنفه. الملك يتنازل عن بعض سُلطاته !تعبير يفيض من معاني المنّ والتكرّم والتفضل، أي أن الاستحواذ على جميع السلطاتِ المطلقة هو أصلا حقٌّ من حقوق الملك، وإن هو تنازل عن بعضها أو فوضها لبعض أعوانه، فذلك منحة منه وكرم، ليس إلا. لقد كتب كتّاب النظام ومن على شاكلتهم من المحللين والمُقوّمين والمُتكهّنين كتبُوا يفتلون في حبْل أوهام الدعاية المخزنية المفروضة، ويُسفِّهون ويُشكّكون ويَسخَرون ويَطعنون في الآراء المعارضة والانتقادات المخالفة والاحتجاجات الغاضبة الثائرة. وكان من حجة هؤلاء الموالين على المعارضين أنه ينبغي على هؤلاء أن ينتظروا حتى يطّلعوا على ما سيأتي به الدستور "الجديد"، وعندئذ يكون لحكمهم ورأيهم ونقدهم معنى ومُسوّغ. أما الطعنُ في النتائج قبل ظهورها بدعوى أن الطريقة التي اتبعت في التشاور والتحاور لم تكن ديمقراطية، فهي عند خدام النظام وأقلامه دعوى داحضة لا منطق لها، لأن الدعوة إلى الإصلاح لا يمكن أن تأتي من جهة ثانية غيرِ الجهة التي أتت منها، وهي المؤسسة الملكية. فالملكية، في نظر هؤلاء، نظامٌ قائم في الواقع، وهو صاحب الحلّ والعقد في شؤون الدولة، ومن ثم فإن الدعوة إلى مجلس تأسيس لصياغة دستور جديد يستجيب لمطالب الشعب هي دعوة غير واقعية، بل هي دعوة إلى التأزيم والتعقيد والفوضى واللانظام، حسب الخطاب الدعائي المخزني، الذي سمعنا صداه يتردد في كثير من تصريحات قادة حزبيين ونقابيين ومنظمات حقوقية وجمعيات مدنية، هواهم مع المخزن ومبادراته وإصلاحاته، يسمعون ويطيعون، لا يخالفون ولا ينتقدون. دعايةٌ مخزنية كبيرةٌ لمشروع الدستور الذي تُعدّه لجنة المانوني الاستشارية، تصاحبُها طعونٌ وانتقادات واتهامات وإدانات للمعارضين من كل الاتجاهات، وخاصة من الاتجاه الثوري المتمثل في جماعة العدل والإحسان الإسلامية وحزب النهج الديمقراطي اليساري. ثم كان خطابُ يوم الجمعة 17 يونيو 2011، حيث أعلن الملك رسميا عن عرض مشروع الدستور الذي صاغته اللجنة الاستشارية للاستفتاء الشعبي يوم فاتح يوليوز 2011. واستمرت بعد هذا الخطاب الأخير الدعايةُ المخزنية للدستور الممنوح في نسخته الجديدة، وهي دعايةٌ تذكّرنا باستفتاءات عهد (تازممرت)، وبأساليب داخلية إدريس البصري في الحشد والتعبئة والهتاف بنعم، بلا شروط، لما يطرحه الملك. فما هو إلا أن انتهى بثُّ خطابِ الملك، حتى تحرّكت جموعٌ من المواطنين في العديد من المدن احتفالا، كما زعم الإعلامُ العمومي المخزني، وتأييدا للدستور. وليس الناس من أمثالي بحاجة إلى أن يسألوا عمّن هيّأ هؤلاء الناس ليخرجوا إلى الشارع مباشرة بعد انتهاء بث الخطاب، وعمّن رتّب الأمورَ ويسَّرها، وعمّن جاء بصور الملك ووزعها على الناس، وعمّن جاء بالنساء المزغردات في مقدمة الصفوف، وعمّن أمرَ الكاميرات أن تكون حاضرة-ويا لَلْعجب- في كل هذه الأماكن لتصور هذه المسيراتِ "التلقائية" الشعبية، التي خرجت هاتفة بحياة الملك، وبقول نعم للدستور الجديد. ليس أمثالي بحاجة إلى أن يسألوا عمّن وضع سيناريو هذه المسرحية الاحتفالية الرديئة، وعمن جلَب ونسَّق كلَّ الديكورات اللازمة للعرض، وعمّن وزّع الأدوار، وعمّن دفع أجورَ الممثلين الرئيسيين والكومبارس، إلى آخر لوازم ومتطلبات المسرحية من الألف حتى الياء. عن أية حداثة يتحدث الناسُ، يا عباد الله، وعن أية ديمقراطية، وعن أية حريات، وعن أية مواطنة؟ النظام هو الدولة، والدولة هي النظام، وكلُّ شيء يجب أن يُسخَّرَ لخدمة هذا النظام، مهما كانت النتيجة، ومهما كانت الصورةُ المتخلفة التي نُعطيها للآخر المراقبِ المهتم عن حياتنا السياسية، وعن مستقبلنا الديمقراطي الذي نزعم أننا بصدد بنائه. ما تزال أجهزتُنا المخزنية هي هي، كما كانت على عهد (تازممرت). تغيرت بعضُ الأصباغ هنا وهناك، وأُجريَت بعضُ الروتوشات السطحية للتمويه، وبقيَ الجوهر ثابتا، وهو جوهر الاستبداد وما يترتب على الاستبداد من إكراه وإخضاع للناس لخدمة دولة النظام بطرق تُجيز كل شيء، وإن كان على حساب حرية المواطن وحقوقه وكرامته. ماذا قرأت أنا في مشروع الدستور الجديد؟ إن كثرةَ المواد والفقرات التي تنص على حقوق عامة أو فئوية وجودَتَها، وكذلك كثرة النصوص التي تعبر عن تبني شعارات الديمقراطية والحداثة والقيم الكونية، لا تفيد شيئا إن بقيت بنْيةُ الاستبداد قائمةً راسخةً متحكمة في فلسفة الدستور وهندسته وتركيبته. إن الملك، حسب نصوص مشروع الدستور المُعدَّل، هو المتحكمُ في كل الخيوط، ما دامت سلطاتُه الواسعة لا تواجه بأية سلطة، ولو ضعيفة، تملك أن تُسائله وتراجعه وتحاسبه. إن زوال الاستبداد يعني أساسا ربطَ المسؤولية بالمحاسبة، وأن يكون هذا شاملا لكل مستويات السلطة من الأعلى إلى الأسفل؛ فلا يُعقل في دولة تزعم أنها دولةُ قانون ومساواة أن يكون جميع مسؤولي الدولة، بمن فيهم المسؤولون الصغار جدا، خاضعين للمحاسبة وواقعين تحت عين القضاء، إلا الملك، وهو المسؤول الأول في الدولة، فإنه منزهٌ أن يخضع لأي شكل من أشكال المحاسبة، وهو يتولى أمورَ الناس ويقررُ في شؤونهم الدينية والدنيوية. من قال إن أمير المؤمنين، في الإسلام، لا تجوز مراقبتُه ومحاسبتُه؟ متى كان أميرُ المؤمنين، في الإسلام، فوقَ النقد والمراجعة؟ هذا فقهٌ استبدادي منكرٌ لا علاقة له بأصول المساواة والعدالة في الإسلام، ولا بمقتضيات عقد البيعة الشرعي الحقيقي، القائم على الرضا والاختيار الحر، والذي يُقيّد الحاكمَ بقيود وشروط والتزامات تُعطي للأمة حقَّ مراجعته ومحاسبته إن هو أخلَّ بالوفاء بها. قرأت في مشروع الدستور الجديد أن الملك ما يزال يتمتع بسلطات واسعة، ترفعه فوق جميع المؤسسات، كما كان في الدساتير السابقة. وقرأت أيضا أن الملك، بصفته "أميرا للمؤمنين" ورئيسا للدولة، وبصفته ملكا يسود ويحكم، لا تجوز مراقبتُه ولا مراجعتُه ولا محاسبتُه. ما معنى أن الملكَ يحكم ولا يُحاسبُ؟ معناه في نظر أمثالي من المواطنين العاديين، الذين ليسوا متخصصين في الفقه الدستوري، ولا يجيدون فنّ التأويل والتسويغ والتبرير والتزوير، أن الملكَ، فيما يتخذه من قرارات، وما يرسمه من سياسات، وما يُوقّعه من مراسيم وظهائر، وما يُمضيه من تحالفات ومعاهدات، وما يصدر عنه من أوامر وتوجيهات وتعليمات، لا يُمكن أن يخطئ أو يسهو أو يضعف، بل هو في كل ذلك مبرأ من الخطأ والسهو والضعف، ومن ثم، فهو لا يحتاج إلى من يراقبه ويحاسبه ويتابعه. معناه أن الملك الذي يُثبِّتُ الدستورُ الجديد ما كان له من سلطة مطلقة في الدساتير السابقة، ويجعله مستبدا بالأمر، أي منفردا به دون غيره، هو أكبر من المساءلة والمحاسبة. وبعد، فبعد ثلاثة أشهر من المخاض وَلَدَ الجبلُ فأرا. وإنا لله وإنا إليه راجعون. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.