لنغير سلوكنا هذه المرة حتى نساهم في تربية الأجيال القادمة : عندما ننظر إلى أيام مضت من فترة عمرنا الجميلة ، نستكشف أنها أياما تحمل بين طياتها الكثير من صور الذكريات التي لا يمكن أن تنسى يوما من الأيام ، ذلك أنها تحمل عادات وتقاليد في غاية من البساطة ، كان الناس يعيشونها ويمارسونها ، فكانت هذه الأيام تجمع أسرا وعائلات في مناسبات وغير مناسبات وبقلوب مفعمة بالحب وصدور منشرحة ، ولذلك بقيت ذكرياتها في ذاكرة الكثيرين ممن عايشوا تلك الفترة . فكنا أيامها نقترب في عيشنا رغم بساطته ، وتعاملنا مع بعضنا البعض من الأمم ذات الخصوصيات الإنسانية التي لا تعرف الهوان ولا الكسل أو الاتكال على الغير ، وكان الناس فرادى أو جماعات مجدين في عملهم ، لا يرضون بديلا عن الأنفة والكرامة رغم الفقر والأمية . إنها ثمرة تربية آبائنا وأجدادنا ، تربية اعتمدت على مفهوم التعليم العفوي ، لا مكان للعاطفة الزائدة مع الأبناء ، ولا الحنان الذي يدلل الطفل ، إن محبة الأب والأم لابنهما في حدود الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لقد فهم آباؤنا أن التربية أساسها الاحترام واكتساب الأخلاق الفاضلة والخضوع لطاعة الوالدين ، وفهموا على أنها رسالة لا يتم تطبيقها إلا بالظهور أمامهم بالمظهر السوي لا اعوجاج فيه ولا انحراف حتى يتم التأثير بالمستوى المطلوب ، بدون إهمال الزجر الإيجابي . أين نحن من جدية الأجداد وتفكير الآباء ، ومن حنين ومراقبة الجدات والأمهات، حيث كانت الحياة عندهم بسيطة والمعيشة عادية والتربية عامة يتكلف بها الجميع ، الكل يربي وينصح ، فالتعاون شعار كل الناس سواء في مجال التربية أو القضايا الأخرى ، يجتمعون في كل اللحظات من اليوم ، بدون سابق إنذار ولا دعوة لغذاء أو عشاء ، ونحن بين أحضانهم ، لا هم لنا إلا ما يشغلنا من همومهم ... تفاجأ حينما ترجع إلى منزلك فتعلم أن دعوة ما مفادها أن قضاء الليلة عند فلان ، ولا تنزعج ، وبدون تردد ولا استفسار تتوجه إلى حيث الدعوة ، ولا تفكر في الرفض ، ولا تشعر بالمضايقة ولا الكبرياء ، كما لا تفكر إطلاقا في نوعية المأكولات ولا نوعية الحلويات ، ولم تكن تعلم أن هذا سيزول يوما ما ، أو تتغير العادات وسلوكيات الناس ، بل إنك تبني ذكريات وستحكيها متحسرا ونادما على فترة مرت من عمرك قضيتها في سعادة مع من كان حولك تتمنى عودتها ...خاصة أنك تسمع حكاية هذه الذكريات في مناسبات كثيرة ، ومن أشخاص عاشوا بأمكنة أخرى ربطتك معهم علاقة صداقة فيما بعد بسبب ظروف العمل أو الدراسة ، وتكتشف أن علاقة المجتمع كانت متشابهة في كل المناطق . بهذه العلاقة الحميمية والتربوية عشنا طفولتنا مع أسرة كبيرة من الأطفال ثم الآباء والأمهات إلى الأجداد والجدات ، وبداخل مسكن واحد في بعض الأحيان ، وبسبب الاحترام المتبادل لم تكن تحدث نزاعات ولا خصومات في البيت . نستقبل كل يوم ضيفا من الأقارب أو من الأحباب : يأتينا زائرا ليتفقد أحوال الأهل والدار ويسأل عن الكل ويطمئن عن صحة الجميع ، وذلك في حديث مع أفراد الأسرة ، الذين يستقبلونه بقلب منشرح وصدر رحب وكأن زيارته مرتب لها سابقا ، وعندما يغادر المنزل يلتقي في الجانب الآخر من زقاق الحي بجماعة أبناء الحي ، حيث كانت اللقاءات الجماعية لهؤلاء تتم في أوقات مختلفة وفي أماكن معينة وحسب مراحل العمر ، وكلها تتسم بإثارة مواضيع حسب ما تمليه الظروف ، ولكن إجمالا تتناول قضايا الساعة وخاصة بالنسبة للكبار، فتجدهم يحكون عن أشخاص من الحي في حاجة إلى مساعدة بسبب مشكل ما ، أو يتناولون قضايا ذات صلة بالحي ، فيشاركهم همومهم ، ويتخلل كل ذلك أحاديث مختلفة المضامين يرويها هذا أو ذاك ... بين الأطفال انسجام في اللعب وتوقيت لأنواع المرح كفصول السنة ، ولكل حريته ولا من يبحث عنه طيلة اليوم تقريبا ، غير أن تأخره هذا سيجلب له بعض المشاكل مع والديه ، فيضطر للحماية بأحد أفراد العائلة كالجدة في الغالب وهي الحنونة مع الكل بابتسامتها الدائمة ذات الوجه البشوش والمرح ... تأتي مرافقة لمن توسل عندها بدون شروط ولا استفسارات لمعالجة مشكل الأبناء ، وبعد جدال مع الأم في الغالب ، وبأسلوب الإقناع تتم المصالحة والصلح ، وكأن الجدة تطبق وتعلم جيدا مفهوم الآية الكريمة : ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (الرعد.الآية:114) ،والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله ، وتظل الجدة معناويستمر اليوم مع ضيفتنا (الجدة)، التي ستحكي لنا و للأطفال جميعا وفي سمر الليل حكايات مشوقة لا يملون من سماعها ولو تكررت... اليوم معنا الجدة سنسهر معها وستنكت معنا وستحكي لنا حكايات جديدة والفرحة عارمة وبين هذه اللحظة وتلك وتشوق الإنتظار للحكي ، مأدبة العشاء البسيط بدون تكلف ولا تنوع في الأواني ، ولا فراش أنيق ، نوع واحد في كل شيء وفي كل يوم ، إما الك *** أو شوربة الحليب ، والأمر عادي عند الجميع وهي طبيعة وسلوك الناس ، نابعة من قلوب مفعمة بالحب والإخلاص والبساطة ، وبمستوي عيش معين ومتقارب بين ناس هذا الزمن ،لا أحد يفتخر على الآخر ، وكان فارق الغنى و مستوي العيش متقارب ، وهذا سلوك معتاد مع كل زائر ، ولما يتم الإفراغ من العشاء ويبدأ السهر وتنطلق اختيار الرغبات والإقتراحات ، عند الجدة حكايات مشوقة تحتار في الاختيار، وتبدأ الحكي .... ولا تشعر ساعة نومك ، وتتكرر اللقاءات ، وتشارك الجدة ابنتها أو ابنها في تربية حفدتها ، فتربى جيل على غاية من التربية والبساطة ... و بعد ما نضجت وتحملت المسؤولية ، وشغلتك تعقيدات العصر ، لاحظت تغير القوم نحو وضع اجتماعي متفسخ لا يرضيك حاله ، ولا ترتاح لمصيره ، حيث انتشرت الجريمة وكثرت السرقة ، واختلط النساء بالرجال وزال الوقار والحشمة ، وترافق الأم ابنتها نحو السوق بلباس الزينة ربما لتبحث عن عشيق مستقبل ابنتها بدون استحياء ، الأسواق مكتظة بالمتسوقين والمتسوقات ، والمحترفين والمحترفات في السرقة ، والمتشردين والمتشردات من الأطفال والكبار على السواء ، والزوج يمشي وراء زوجته حاملا الطفل الرضيع بدل العكس عند سابقينا ، ورائحة الخمر تفوح من بائع السمك، أو بائع متجول آخر . وتخلخلت عقيدتنا وتغيرت طبيعة إكرامنا لضيفنا ، وتعقدت ظروف حياتنا بسبب عدم رضانا بما قسمه الله لنا ونظرتنا إلى ما هم أغنى منا . بهذه التعقيدات ، أصبحت غير قادر حتى على دعوة صديق أو أحد من الأهل رافقك نحو منزلك ، فتجد نفسك بين مطرقتين ،نوعية الأواني وتجهيز المنزل من حيث الأثاث ... وجدال الزوجة التي لا تقبل الانزعاج ولا تعب المطبخ ، وربما تستغل الفرصة لمعايرتك عن قلة الأواني من نوع الطاووس ، أو عن الأثاث الأرائكي كالموجود عند فلان أو فلان ، ولا يهمها إكرام الضيف ، ولا الرفع من قيمة زوجها .على عكس فترة وعادات سبقت كلها بساطة وعفوية في اتخاذ القرارات وبدون تكلف ولا تصنع ... فيحدث لك مرارا أن تفكر في الأفق وترجع إلى حنين الماضي ، وتتكلم مع نفسك في وقت من الأوقات وأنت تتأمل في هذا التحول والتفسخ الأخلاقي ، أو حينما ترافق زميلا لك راجعين من العمل أو من مكان ما ، فتقول في نفسك : هل أدعوه لنتناول الغذاء سويا أو شرب كأس شاي ، فتتلقى الإجابة التالية من نفسك : نوعية الغذاء المهيأ بالمنزل لا يليق بالدعوة ، وحتى إذا فكرت في تأجيل الدعوة تصطدم بضعف الإمكانيات المادية ... وانعدام الأواني العصرية، وقلة التجهيزات المنزلية التي لا تشبه تجهيزات بيت زميلي ، فكيف أدعوه ؟. وراء هذه السلوكيات ، أهو تغيير طبيعي يؤسس لتكوين مجتمع جديد ؟ ،( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (سورة الرعد الآية11) ) . نتحمل الآن وزر هذه الأوضاع الجديدة كآباء بسبب تسليم مفاتيح أمورنا إلى نسائنا فتحكموا فينا ، وفوضناهم تسيير وإدارة بيوتنا لما انشغلنا بعمارة المقاهي ، وضياع الوقت الثمين ولا ندري أننا سنحاسب عليه يوم البعث ، كما لم نعود أنفسنا حتى على قراءة الكتب ، أو حفظ ما تيسر من القرآن ، بل حتى الإطلاع على الجرائد أصبح مملا ويقتصر على قراءة العناوين والمرور بسرعة إلى الكلمات المتقاطعة أو السودوكو وقتل العدو من الوقت . أيها الشاب أيتها الشابة أيها المراهق ، إننا كآباء نعترف بأننا جنينا عليكم بسبب حبنا المفرط لكم ، وبغير قصد اعتقدنا ذلك هو المطلوب فلا تجني على أبنائك ما جناه عليك أبواك ، و تأمل بحكمة في موقعك وما يحيط بك من سلوكات صادرة من أشخاص من حولك لا تروقك ، واستفت نفسك ، واعلموا أيها الشباب أنكم يوما ما ستصبحون آباء ثم أجدادا ، فماذا أعددتم لأبنائكم أو لحفدتكم ؟ ماذا هيأتم لهم ؟ ماذا سوف تقولون لهم ؟ بماذا سوف تنصحونهم ؟ وبماذا سوف تحدثونهم ، أو توصونهم ؟ . .. فبادر أيها الشاب ، وهيئ نفسك واستعد لهذا الأمر الجليل التربوي والخيري ، فاسأل نفسك هل تزودت من المعلومات ومن القصص والحكايات ، وهل لك قدرة على مشاركة أبنائك في تربية أبنائهم ، واعلم أنه منذ أن تخلى عنا أجدادنا وجداتنا ،وتخلينا عنهم، وقطعنا معهم صلة الرحم ، ولم نكترث بوعظهم وإرشادهم لنا ، افتقدنا أمورا كثيرة وأهمها الإحترام والأخلاق . فلنتشبث بأصالتنا وأصالة أجدادنا ولنترك وندع الإهمال جانبا ، ونتقرب أكثر بهموم العائلة ونشاركها همومها ومشاكلها ،ونساعدها في التربية والتكوين قدر المستطاع ، ولنفكر بجد في هذه الأمور ، فبادر إلى تكوين نفسك وتسلح بالتحصيل العلمي وبعقيدة التوحيد ، و بالقراءة وبالتعلم ، وبحفظ القصص ، لأنك ستحتاجها في النصح والوعظ إن شاء الله ، واعلم أن ... وفي ذلك خير وأجر كبير ما دامت كلمة الوالدين في ديننا الحنيف تمتد إلى الجد والجدة . فعليكم مشاركة ابنكم أو ابنتكم في التربية والتوجيه، كما كان أجدادنا وجداتنا، يقصون لنا قصصا هادفة، يحدثوننا بأحاديث التي اكتسبوها عن طريق السماع فقط بسبب أميتهم، ولا يزال البعض من حفدتهم يرويها بتقدير وإعجاب وبأمانة... تلكم الظاهرة بدأت تتلاشى وبدأنا نفقدها، وبدأنا نتحسر عليها اليوم لأن فيها ما فيها... وفي القرآن والأحاديث ما يشفي الغليل ويكون شخصيتك ، حدثوا أبناءكم أو أبناء أبنائكم عن عدل الإسلام، وعن رسالة الإسلام في شموليتها، حتى لا تشغلهم أو تصرفهم التيارات الجذابة الكافرة إلى ما تريد وإلى ما تخططه ، فنتخلى عن رسالتنا وعاداتنا...إنهم يريدوا منا أن نتخلى عن ديننا وقيمنا... لقد اتخذونا أعداء لهم بسبب ثباتنا على ديننا ، ولا يشعرون بعنصريتهم معنا . تروي أحد الأمهات ما حدث لابنها داخل فصل الدراسة مع أستاذته بأحد المدارس الفرنسية ، حينما طلبت من تلامذتها أن يتحدثوا عن البطل المعجبين به ،(héros ) فكتب هذا الطفل ذو الأربعة عشر سنة من عمره : أسامة بنلادن . بعفوية كبيرة وبدون خلفيات ولا مبادئ ، إنه طفل صغير السن ، لكن الأستاذة انفعلت انفعالا كبيرا فأخبرت الإدارة بما حصل ، وتجند الكل للبحث في النازلة ، لقد تم استدعاء واستنطاق الوالدين الواحد بعد الآخر وهددوهما بالاعتراف أو سجن ابنهم ، وتوالت البحوث لتصل إلى اتهام إمام المسجد حيث يحفظ الطفل القرآن . ويتم استنطاقه، ويبقى الملف مفتوحا لدى سلطات المدينة والمراقبة قائمة... ويجدر بنا أن نقول عنهم ونتساءل هل أن منهم علماء نفس وأساتذة تربية بامتياز؟ إنهم لم يشعروا بعنصريتهم حتى مع أبرياء يتعلمون عندهم لغتهم ويعلمونهم .. فكيف نأخذ عنهم مبادئ التربية، وهذا موضوع آخر إن شاء الله .[/B][/I] [align=left] ذ .حسين سونة [/align]