الحياة هي التجارب، ولكل منا تجاربه الذاتية والخاصة، ولن يكون لحياتنا قيمة ومعنى لو كانت خالية من التجارب، مهما كان مستوى ثرائها وغناها أو كان مستوى ضعفها وفقرها، أو مهما كان تقييمنا لها. والفرد فينا يملك في حياته الكثير من التجارب مما يمكن قوله والبوح به، لو أتيحت له الفرصة، أو هو بادر وأقدم على ذلك بدون انتظار دعوة احد. وعندما نتحدث عن التجارب فنحن نتحدث عن أشياء واسعة وعديدة، بحيث تشمل ما هو من المعارف والخبرات والمشاهدات والقراءات والصداقات وغيرها، ولن نستطيع معرفة ما الذي تركته في وعينا وسيرتنا من اثر إلا بعد أن يمر عليها الزمن، ليمكن بعدها تقييمها والنظر إليها من موقع المراقب والمشاهد والشاهد. والحديث عن التجارب أو الذكريات يجرنا ونحن على أعتاب شهر رمضان المبارك إلى تذكر أجوائه في فترة زمنية مفصلية من تاريخنا، فلقد مرت علينا أيام ما أن نرى ملامح وأجواء هذا الشهر الكريم تقترب، ونسمع أجراسه تدق، وأبوابه تطرق، مذكرة ومعلنة عن قدومه، حتى يأخذ الواحد فينا ألأمر بجد، ويحرص على الاستعداد له، والجلوس مع ذاته متأملا ومفكرا ومتسائلا عن كيفية الاستفادة منه واستغلال أيامه على أحسن وجه وبالطريقة الأجدى والأمثل. وها نحن اليوم نقترب من حلول شهر رمضان ونقف على أبوابه، وها هو قمر شهر شعبان يبدأ عدة التنازلي ويبدأ قرصه الدائري في التآكل والتقلص والأفول من جهة المشرق. ولن نلبث بعدها إلا قليلا حين نرى هلالاً جديدا يخرج ويهل علينا من جهة المغرب معلنا حينها عن بدأ شهر رمضان. يأتينا هذا الشهر في غمرة اشد شهور هذه السنة حرارة وأقساها رطوبة. وحرارة فصول الصيف الملتهبة في تلك الأيام لم تكن تثني الجيل الذي عاش وترعرع في ظل أجواء مرحلة الثمانينات من القرن الماضي عن التفاعل مع حرارة وسخونة أجواء المنطقة الملتهبة، والغنية بالأحداث والتحولات السياسية، بل اخذ يراقبها ويتابعها ويتفاعل معها، وكانت مادة أساسية على مائدة حواراته، خاصة في تلك أليالي الرمضاني وأمسياتها، وهو مما أعطى تلك الأجواء الرمضانية جمالها الفريد وحلاوتها الخاصة. في تلك الأيام لم تبرد وتضعف الهمة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، بل كانت الروح تمتلئ بالنشاط والعنفوان، رفعت معها من منسوب الحماسة في الحراك الديني والثقافي والاجتماعي، مما نتج عنه مشاهد وتجارب متعددة تبلورت على شكل أعمال ومبادرات ذاتية وفردية أشعلت في النفس روح التحدي والإقدام والمثابرة، انطلاقا من الإحساس بالمسؤولية وبأهمية المرحلة وتحدياتها الصعبة. كان يحدث أن يجلس الواحد فينا مع نفسه ويخطط لها أوقات أيامها الرمضانية، ويضع البرنامج الذي يتناسب ووضعه وظرفه، وأحيانا أخرى يحدث أن تجلس مع غيرك من المحيطين بك فيسألونك وتسألهم عن برامجهم وخططهم، أو انك معهم تتفقون على شيء مشترك مع آخرين، ليكون ذلك أكثر ثراءً ومتعة. فقد كان هذا الشهر يشكل بالنسبة لنا محطة مهمة وأساسية في حياتنا الفردية نتوقف فيها من اجل أن نتزود بالوقود الروحي الذي يعيننا على متابعة ومواصلة مسيرة الطريق، والمسافة الفاصلة إلى المحطة الروحية التالية. كنا نعُد هذا الشهر مَعينا نغرف منه ما يعيننا على تربية ذواتنا وأنفسنا وعقولنا، لما يكتنزه هذا الشهر من طاقة روحية تساعد على رفع المعنويات وتقوية العزيمة، فكانت تتنوع وتتوزع فيه الأعمال والنشاطات التي نؤديها ونمارسها، فنحرص على تنمية الجانب والبعد الروحي في دواتنا، ليس فقط من خلال الاهتمام والحرص على أداء ما هو من الواجبات والفرائض، وإنما بالحرص على الإتيان بما هو من السنة والمستحب ومن الفضائل، وعمل كل ما يعزز ويرفع وينمي روح الإيمان والورع والتقوى. اذكر أن البعض كان يقول أن هذا الشهر يحتوي على حزمة متكاملة من الأعمال والنشاطات المختلفة، والتي يصعب تكاملها في غيره من الشهور، خصوصا في تلك الظروف الصعبة، من خلال تكامل منظومة القيم الروحية والثقافية والاجتماعية، ومن خلال ما يشهده هذا الشهر من حراك لافت، يمكن تأدية مراسيمها وطقوسها وأعمالها بشكل أكثر جرأة وحماسة. وقد كان راسخا في الذهن انه بدون ترسيخ هذه المنظومة من القيم والأبعاد والجوانب في الذات وتربية النفس عليها، فان الواحد فينا سيفقد فرصة ثمينة لن تعوضها المحطات الروحية التالية، غير الرمضانية، وسيظل ناقصا ومحتاجا إلى أن تتكامل فيه هذه الجوانب والأبعاد. إذا كان للبعد الروحي في برنامج شهر رمضان قيمة كبرى تضفي على النفس الطمأنينة والراحة، والتي يصعب اكتسابها في غيره من الشهور، فان للبعد الثقافي الرمضاني أيضا في برامجنا طعمه الخاص والمميز، فقد كان أساسيا في الجدول اليومي من خلال استغلال أوقاته في التثقيف الذاتي والقراءة والمطالعة، ومن خلال التخطيط المسبق للقراءة، وتحديد عناوين الكتب التي سنقرؤها، وهي عادة حرص البعض على الالتزام بها، كما حرص على تنظيم الوقت وتحديد ألأوقات والساعات المناسبة للقراءة. لم يقتصر الأمر حينها فقط على ما سيقرئه الواحد منا في وحدته وعزلته، وإنما أيضا يضع في اعتباره العمل على تكوين أو الاشتراك في حلقات ثقافية وحواريه. ودائما ما كان هناك اندفاعا على إقامة مثل هكذا نشاطات في تلك المرحلة، وكثيرا ما كان يصادف انك تدعو احد ما للمشاركة إلا ويعتذر، لارتباطه المسبق ببرنامج آخر ومختلف، أو انه يقبل دعوتك في حال لم يتعارض ذلك مع مواعيد وأوقات تلك البرامج، حيث كان البعض يملك القابلية والاستعداد للمشاركة في أكثر من برنامج واحد، نتيجة ما كان يعتمل ويشتعل في النفس من عنفوان وحماسة ورغبة في التغيير. لعله كان لمفهوم ومفردة المسلم الرسالي، كما لغيرها من مفردات ومفاهيم، والدور ألرسولي المناط به تأديته، والثقافة الرسالية التي يحملها، رنينها الخاص ووقعها المحبب في ذهنية شباب ذلك الجيل، وساهم في تشكيل وعيه وأسس لبنيته الثقافية. فشخصية المسلم الرسالي كما تُفهم، يجب أن تُبنى وترتكز وتقوم على عناصر ومقومات أساسية، لن يكون جديرا بحملها أي احد من دون تمثّل ذلك المفهوم. وشرط ذلك، تأسيس يقوم ويرتكز على تلك الأبعاد الروحية والثقافية والأخلاقية والاجتماعية، حيث تُمثل هذه الأبعاد وصفة متكاملة وعناصر تربوية يجب الاهتمام والالتزام بها في حال أردنا تنشئة أجيال تستطيع أن تغير واقع الحال، ويكون لها شأن ودور في بناء المستقبل الذي نريد. وقتها كانت الأجواء الرمضانية تمتلئ بالنشاط والحيوية والحركة رغم صعوبات المرحلة وضيق الهوامش، وأجواء الخوف المحيطة بنا. إلا أن الضيق والخوف الذي كنا نشعر به ونقلق بسببه، كان يقابله شعور وإحساس بالتحدي في قراره النفس، والإصرار على متابعة الطريق، والعيش حياة طبيعية يغمرها ويعمرها إيمان صادق، لا نتوانى فيها عن تأدية ومتابعة برامجنا في التفقه والتدبر، والمطالعة والتثقيف الذاتي، إلى جانب حضور اللقاءات الثقافية والاجتماعية، والمشاركة في المناسبات المختلفة. عندما يحل شهر رمضان كانت تعقد في أمسياته لقاءات مركزية تلقى فيها الخطابات والمحاضرات، حيث كانت في حينها تشهد حضورا كبيرا وتعج بالحضور والمشاركين، وقد شكل حضور هذه ألقاءات وغيرها من المناسبات الدينية والاجتماعية، ليس فقط في بلدتنا وإنما أيضا في البلدات المجاورة، فرصة لتكوين المعارف وكسب الأصدقاء، حيث استهوت هذه القيمة الإنسانية القلوب، وقربت وعرفت بين الكثيرين، وساهمت في خلق بيئة خصبة ومناخات مناسبة للتفاعل والتمازج والتلاقح بين الأفكار والتأثير المتبادل. كنا إذا استمعنا إلى محاضرة لا نكتفي بأن نكون مستمعين سلبيين، بل كنا نتحاور حول موضوعها بعد انفضاضنا ونتناقش في محاورها وما نتفق عليه أو نختلف فيه مع ملقيها، فتكون هذه الحوارات عملية مثاقفة من جانب، وترسيخا للأفكار التي اقتنيناها من عملية القراءة من جانب أخر، وفي ذات الوقت تكون هذه الحوارات عامل مساعد على التفكير والتفكر والتحاور وممارسة عملية النقد والتدرب على ممارسته ونقد ما يطرح من معلومات أو أفكار لا تتسق مع الوعي والتفكير الذي نحمله. إن ما نقوم به هنا من عملية استدعاء لبعض ما في ذاكرتنا من ذكريات وتجارب وأحداث، بعد أن يكون الزمن قد مر عليها، يأتي ضمن سياق محاولة كشف ما يمكن ملاحظته من تحولات واختلافات بين الأزمنة، وما طرأ خلال هذه الفاصلة والحقبة الزمنية من تغيرات وتبدلات على البيئة الاجتماعية التي نعيش، وفي طبيعة تفكيرنا وسلوكنا ونظرتنا إلى الحياة، والى أشياء كثيرة أخرى من حولنا. ويجب الاعتراف أن ما اشرنا إليه من سمات تفكير ووعي لم تكن سمه غالبة في المشهد الديني والثقافي عند كل أبناء ذلك الجيل، وإنما تبلورت وبرزت وتمظهرت بأشكال متعددة ومختلفة عند مجموعات متفرقة من شباب ذلك الجيل، والذين هم أيضا لم يتمثّلوا كل تلك القيم التي تتجلى من مضمون مفهوم المسلم الرسالي، وإنما يمكن القول أن هذه الفئة والشريحة، المتعددة التنوع في ذاتها، عملت من خلال التثقيف الذاتي على صقل وعيها وثقافتها وبلوغ درجة من الوعي والتجربة والخلاصة، ما جعلها تختلف عما كان سائدا. إن ما ذكرناه هنا لا يمثل إلا جزءا من ذاكرة فرد، وهو لا يمثل ذاكرة كل الذين عاشوا تلك المرحلة، والبعض ممن عاشوا وعايشوا تلك المرحلة بالتأكيد سيذكرون ألأجواء التي خيمت على تلك الحقبة الزمنية من تاريخنا عندما تُستفز ذاكرتهم ويحكون عن تفاصيل ذاك الزمن الصعب والجميل، أو ربما يذكرون ويتذكرون تجارب شخصية أخرى ومختلفة. إن كل فرد فينا يقرأ في العادة التجارب التي عشناها ومررنا بها بأشكال وطرق مختلفة، وينظر لها من زوايا واتجاهات متنوعة. فما يمكن أن يراه احد ثريا وغنيا، قد يراه آخر غبيا وتافها، وما يمكن أن يفسره هذا الآخر بوصفه مشرقا ومنيرا وايجابيا، قد يؤوله احد غيره بطريقه سلبية ويعتبره متخلفا وظلاميا، وكل ذلك يعتمد على ما تتركه هذه التجارب من آثار في النفوس وتحدثه فيها من متغيرات وانقلابات. إلا أن هذه التجارب في مجموعها بالتأكيد تمثل خلاصة عن سلوك وسيرة وتجارب أفراد مجتمع عاش مرحلة ثمانينات القرن الماضي. والمؤكد أن حياة الفرد، مهما كانت درجة صخبها وثراء تفاصيلها، تبقى حياة مفردة محدودة التفاصيل قياسا إلى حياة الجماعة التي هي أكثر من مجرد حاصل جمع التجارب الفردية. ومع ذلك فان كل ذات فرديه فينا هي عالم بكامل تعقيده واتساع مداه وتناقض المؤثرات فيه، لكن الأهم من ذلك هو من يستطيع أن يقص ويحكي ويكتب ويبرز مضمون وخلاصة تجاربه وعالمه؟ ختاما نقول أين نحن اليوم مما كنا نعيشه في تلك الأيام التي خلت، يوم كان مجتمعنا يعيش ظروفا صعبة وقاسية؟.. وكيف تعيش ألأجيال الجديدة رمضانها، وتقضي فيه أوقاتها، وتملأ فيه فراغها، وهي تعيش ظروفا أكثر استرخاءً مما كان؟.. إننا نثير هذه الأسئلة من اجل إثارة التساؤلات عن كيفية إعادة تجديد تلك التجارب والإضافة عليها وضخ دماء جديدة فيها وعليها، تتناسب وتتسق وتتأقلم مع ظروف الحياة الجديدة وهذه المرحلة المختلفة.