أطلقت وزارة النقل والتجهيز حملة تحسيسية للوقاية من حوادث السير، وقد تعرضت هذه الحملة لانتقادات شديدة في الصحافة. فقد رأى البعض أن الأموال الطائلة التي صرفت في الفيلم التحسيسي الباذخ، الذي أنجز بالمناسبة، يمكن أن توظف في إصلاح الطرقات مثلا. كما انتقد آخرون تركيز هذه الحملة على العنصر البشري باعتباره المسؤول الرئيسي عن الحوادث، فيما همشت البنيات التحتية التي تتسبب في مآسي الطريق، كما همشت الجهاز المنوط به مراقبة السير على الطرقات وضمان احترام القوانين، وهو جهاز تنخره الرشوة، مما يجعل أي حملة لا تعير اهتماما لهذا العنصر حملة خاوية وغير جديرة بالثقة من لدن المواطنين. من الانتقادات الموجهة كذلك إلى هذه الحملة أنها تُشكل ورقة ضغط ومبررا إقناعيا بوديان الدم (الاصطناعي) التي تجري فيها، لتمرير قانون السير والجولان الذي سبق أن رفضته العديد من الأطراف وسببت إضرابات أثرت سلبا على اقتصاد البلاد. لا بد من حملات تركز على البنيات التحتية، وعلى الرشوة التي ترتع داخل الأجهزة التي بإمكان عملها، إن أنجز بشكل جيد، أن يحد من حوادث السير. ولكي يحصل هذا، لا بد لوزارة النقل من تغيير عقليتها البائدة، التي «تمسح» حوادث السير في السائق وفي أخطائه، لا غير. فهل بإمكان وصلات أخرى أن تقول للناس بكل وضوح: أيها الدركي، أيها الشرطي، لا تأخذ الرشوة؛ أيها المواطن، لا تعط الرشوة للدركي أو للشرطي، إنك لا تقل عنهما إجراما عندما تمد إليهما الورقة النقدية التي تمسح الأخطاء، وتقتل الأبرياء؟ غير أن هذه الحملة الناقصة التي تطلقها وزارة النقل، والتي تركز على العنصر البشري وتريد التواصل معه، تفتقد أهم شرط من شروط التواصل؛ وهو مخاطبة الناس بلغة يفهمونها ويعرفونها فتؤثر فيهم التأثير المراد. هذه الحملة تشكو من مشكل خطير في النص اللغوي المصاحب لها. ففي عالم الإعلان والإشهار، يعد النص (الصوتي أو المكتوب) المصاحب للصور جزءا من المنتوج المراد إشهاره، وبذلك يكون الخطاب اللغوي امتدادا للمنتوج، ليس بمعنى الشرح أو تعداد ما يجعل المستهلك يقبل على المنتوج، ولكن بمعنى أن علاقة المستهلك بلغة النص تكون سندا لعلاقته بالمنتوج. هكذا تكون لغة النص منتوجا داعما للمنتوج الاستهلاكي، فيكون الإقبال على اللغة داعما للإقبال على المنتوج. اعتمدت هذه الحملة على وصلة تحسيسية بعنوان «الأقنعة»، وهي وصلة يريد منتجوها صدم الناس بواسطة الدماء الكثيرة التي تسيل (الوصلة لم تنجح في إيهامنا بأن الدماء حقيقية). سنفهم أن «الأقنعة» ما هي إلا ترجمة، رديئة جدا، للفظ «les cagoules» و «الكاغول» ليست هي الأقنعة. أبسط تلميذ يعرف أن «الأقنعة» مقابلها في الفرنسية «les masques»، فهل «الأقنعة» تقابل «les cagoules» أم «les masques»؟ إن هذه الأخطاء التواصلية تفرغ كل شيء من المحتوى، فالحملة تخاطب المغاربة، وتستعمل لغة غير لغتهم في تصور المنتوج، ثم تعتمد بعد ذلك الترجمة (الخاطئة، فوق كل هذا) لتقريب الخطاب من الناس. «الكاغول» نوع من اللباس يغطي الرأس وليس له أكمام، وهو لفظ أطلق بشكل واسع على بعض المنظمات السرية الثورية التي تعتمد الإرهاب والتقتيل في تاريخ أوربا. «الكاغول»، وهو لفظ يرتبط بالمنظمات الإرهابية، عندما يستعمل في حملة تحسيسية للسائقين يحمل في مقصديته الدلالية كل هذا التاريخ المحيل على الإرهاب. وهكذا يتم تصوير السائق المخل بالقانون بوصفه «كاغوليا» (cagoulard)؛ أي منتميا إلى منظمة من هذه المنظمات الإرهابية. وهذا هو المقصود باعتماد الحملة على هذا اللفظ. ولكن، عندما نقدم لفظ «الأقنعة» بوصفه ترجمة للفظ «les cagoules»، فإن الدلالة المقصودة تنتفي، أي الدلالة الإرهابية، وتحل محلها دلالة أخرى، وهي دلالة مبنية على لفظ «الأقنعة». وQالأقنعة» مرتبطة دلاليا بمفهوم الزيف والنفاق والخداع والمواراة، وغيرها من المعاني التي التصقت بلفظ القناع. ولذلك، فمجرمو الطريق، كما في الوصلة التحسيسية، تقدمهم الترجمة منافقين لا يظهرون وجههم الحقيقي. ونرى هنا أن الترجمة أخلت كثيرا بالمعنى المركزي لهذه الحملة التحسيسية، وحولت الدلالة الرئيسية المبنية على «الكاغول»، وألبستها دلالة القناع. وبغض النظر عن مشكل الترجمة، فحتى هذه الدلالة المقترحة، وهي دلالة الإجرام، هي دلالة مبنية في اللغة الفرنسية، ويعرفها الفرنسيون، ولا يعرفها المغاربة. الحملة تريد أن تنجح، وتمس كل الناس، وتقنعهم، لذلك عليها أن تكون بلغتهم وبدلالاتهم. اعتمدت هذه الوزارة وصلة سابقة للوقاية من حوادث السير، وكان عنوانها: «لنغير سلوكنا». وهذا العنوان ما هو إلا ترجمة للعنوان الفرنسي الأصلي: «changeons de conduite». وتطرح هذه الوصلة نفس ما تطرحه الوصلة السابقة، ذلك أن المعنى بني في الأصل الفرنسي، وعندما ترجم ضاع المعنى. معروف أن لفظ «conduite» من المشترك اللفظي، ويدل على معنيين: السياقة والسلوك. وقد نستعمل هذا اللفظ بالمعنيين، وهذا هو المقصود في عبارة «changeons de conduite»؛ إذ تدعونا إلى تغيير سياقتنا وسلوكنا في الآن ذاته؛ وبذلك تعتبر السياقة نوعا من السلوك. ولكن ترجمة العبارة إلى العربية تجبرنا على اختيار معنى من المعنيين، طالما أن العربية لا تجمع في لفظ من ألفاظها بين المعنيين المجموعين في الفرنسية في لفظ «conduite». عندما نقول في العربية: «لنغير سلوكنا»، فنحن نجعل السياقة سلوكا عاما، ونربط بين السلوك والسياقة برباط منطقي، وليس برباط لغوي لا واع متجل في الاشتراك اللفظي، كما هو الحال في الفرنسية. طبعا، سبب هذين المشكلين التواصليين هو الانطلاق من الفرنسية في وصلات تحسيسية يراد لها أن تخاطب الناس فتقنعهم، والحال أنها لا تخاطب سوى نفسها. يظل المعنى المقصود عالقا في الفرنسية، ولا تقدم منه العربية إلا ما تمكنت الترجمة من تقديمه. والسبب في هذا أن الفرنسية تُتخذ منطلقا للتواصل، والعربية تناط بها وظيفة الترجمة. بالطبع، لا حاجة إلى التذكير بأن من كان تواصله قائما على هذا الأساس (الفرنسية تعبر والعربية تترجم) ليس بإمكانه أن يبني علاقة تواصلية منتجة، وأحرى أن يقنع الناس في حملة تهدف إلى الحفاظ على حياتهم. قد يقول أصحاب هذه الحملات الفرنسية، بعد أن يلاحظوا أن الحوادث لم تنخفض وتيرتها: الناس لا يستجيبون. بالطبع، الناس لا يستجيبون لأن الخطاب غريب عنهم، إنهم لا يفهمون لأن الخطاب خارجي، إنه لا يخترقهم بصورة لاواعية. ولكي يفهم الناس، علينا أن نخاطبهم بلغاتهم، ونبني تصوراتنا التحسيسية انطلاقا من لغاتهم، وليس انطلاقا من الفرنسية. عندما نحسس الناس بالفرنسية ننظر إليهم من الفرنسية، من أعلى، ونعاملهم مثل الأجانب في بلادهم.