مدن الشمال تستعد لإستقبال جلالة الملك    النصيري يسجل من جديد ويساهم في تأهل فنربخشه إلى ثمن نهائي الدوري الأوروبي    الحسيمة.. تفكيك شبكة إجرامية متورطة في تنظيم الهجرة السرية والاتجار بالبشر    استعدادات لزيارة ملكية مرتقبة إلى مدن الشمال    أداء مؤشر "مازي" في بورصة البيضاء    إطلاق تقرير"الرقمنة 2025″ في المنتدى السعودي للإعلام    الاقتصاد السوري يحتاج إلى نصف قرن لاستعادة عافيته بعد الحرب التي دمرته    التضخم في المغرب يسجل 2%.. والأسماك واللحوم والخضر تقود ارتفاع الأسعار    الذهب يتجه لتسجيل مكاسب للأسبوع الثامن وسط مخاوف من رسوم ترامب الجمركية    شي جين بينغ يؤكد على آفاق واعدة لتنمية القطاع الخاص خلال ندوة حول الشركات الخاصة    القضاء يرفض تأسيس "حزب التجديد والتقدم" لمخالفته قانون الأحزاب    مضمار "دونور".. كلايبي يوضح:"المضمار الذي سيحيط بالملعب سيكون باللون الأزرق"    الجيش يطرح تذاكر مباراة "الكلاسيكو" أمام الرجاء    عامل إقليم الحسيمة ينصب عمر السليماني كاتبا عاما جديدا للعمالة    إطلاق المرصد المكسيكي للصحراء المغربية بمكسيكو    كيوسك الجمعة | المؤتمر الوزاري العالمي الرابع للسلامة الطرقية يفي بجميع وعوده    باخرة البحث العلمي البحري بالحسيمة تعثر على جثة شاب من الدار البيضاء    المندوبية السامية للتخطيط تعلن عن ارتفاع في كلفة المعيشة مع مطلع هذا العام    روايات نجيب محفوظ.. تشريح شرائح اجتماعيّة من قاع المدينة    نتنياهو يأمر بشن عملية بالضفة الغربية    إطلاق أول رحلة جوية بين المغرب وأوروبا باستخدام وقود مستدام    المغرب يحافظ على مكانته العالمية ويكرس تفوقه على الدول المغاربية في مؤشر القوة الناعمة    انتخاب المغرب رئيسا لمنتدى رؤساء لجان الشؤون الخارجية بالبرلمانات الإفريقية    توقعات أحوال الطقس ليومه الجمعة    تراجع احتمالات اصطدام كويكب بالأرض في 2032 إلى النصف    الولايات المتحدة تبرم صفقات تسليح استراتيجية مع المغرب    إسرائيل تتهم حماس باستبدال جثة شيري بيباس وبقتل طفليها ونتانياهو يتعهد "التحرك بحزم"    فضاء: المسبار الصيني "تيانون-2" سيتم اطلاقه في النصف الأول من 2025 (هيئة)    عامل إقليم الجديدة و مستشار الملك أندري أزولاي في زيارة رسمية للحي البرتغالي    كيف ستغير تقنية 5G تكنولوجيا المستقبل في عام 2025: آفاق رئيسية    محامون: "ثقافة" الاعتقال الاحتياطي تجهض مكتسبات "المسطرة الجنائية"    حوار مع "شات جيبيتي" .. هل تكون قرطبة الأرجنتينية هي الأصل؟    "بيت الشعر" يقدّم 18 منشورا جديدا    أوشلا: الزعيم مطالب بالمكر الكروي لعبور عقبة بيراميدز -فيديو-    "حماس" تنتقد ازدواجية الصليب الأحمر في التعامل مع جثامين الأسرى الإسرائيليين    "مطالب 2011" تحيي الذكرى الرابعة عشرة ل"حركة 20 فبراير" المغربية    حادثة سير مميتة على الطريق الوطنية بين طنجة وتطوان    سفيان بوفال وقع على لقاء رائع ضد اياكس امستردام    طه المنصوري رئيس العصبة الوطنية للكرة المتنوعة والإسباني غوميز يطلقان من مالقا أول نسخة لكأس أبطال المغرب وإسبانيا في الكرة الشاطئية    السلطات تحبط محاولة نواب أوربيين موالين للبوليساريو دخول العيون    الجيش الملكي يواجه بيراميدز المصري    أهمية الحفاظ على التراث وتثمينه في صلب الاحتفال بالذكرى ال20 لإدراج "مازاغان" ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو    مجموعة أكديطال تعزز شبكتها الصحية بالاستحواذ على مصحة العيون ومركز الحكمة الطبي    محكمة إسبانية تغرّم لويس روبياليس في "قبلة المونديال"    6 وفيات وأكثر من 3000 إصابة بسبب بوحمرون خلال أسبوع بالمغرب    ثغرات المهرجانات والمعارض والأسابيع الثقافية بتاوريرت تدعو إلى التفكير في تجاوزها مستقبلا    غشت المقبل آخر موعد لاستلام الأعمال المشاركة في المسابقة الدولية ل "فن الخط العربي"    إطلاق النسخة التاسعة للجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    سينما المغرب في مهرجان برلين    الذكاء الاصطناعي يتفوق على البشر في تحليل بيانات أجهزة مراقبة القلب    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    حصيلة عدوى الحصبة في المغرب    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    دراسة تكشف عن ثلاثية صحية لإبطاء الشيخوخة وتقليل خطر السرطان    صعود الدرج أم المشي؟ أيهما الأنسب لتحقيق أهداف إنقاص الوزن؟"    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    الشيخ محمد فوزي الكركري يشارك في مؤتمر أكاديمي بجامعة إنديانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسارات ميمونية (الجزء الثالث)
نشر في اشتوكة بريس يوم 06 - 10 - 2010


المسار الأول
كان فضاء دوارَيْ أولاد ميمون مجالا لمجموعة من الحِرف التقليدية، منها دق السعف وفتل الحبال، وصناعة القِفاف والحصائر، وإصلاح المحاريث والأدوات، وكان الرجال يحلقون رؤوس بعضهم مجانا، أو يتكلف بذلك مختص في هذه الصناعة، خاصة في أوقات الفراغ، أو قبل التسوق، وعند حلول الحفلات والمناسبات. ومنهم من كان يتقن النجارة، ومن كان مكلفا بتخييط الملابس القليلة الميسرة، ووضع الرِّقاع إذ كان الثوب قليلا، ويُؤتى به من الصويرة عبر تجارة القوافل المعروفة ب” الرَّفَّاكة” والتي لازالت طريقها موجودة إلى اليوم في اتجاه الجنوب والشمال شرق فدان الحاج عمارة وآيت بنداود مباشرة، وتقطع الطريق المعروفة بين البَحائر ب”طريق الخميس” التي كانت تُُسْلَك عادة للتسوق أو ارتياد الفدادين. وذكر لي بعض الناس أنه يملك وثائق لأراضٍ قريبة من البحر فيها طريق تُسمى “طريق السلطان أمير المؤمنين”، وهذا من باب إحياء الذاكرة، وجمع المدونات الأولى للتاريخ المحلي قديمه وحديثه، فليُفْهم القصد مما نسعى إليه.
وكان عاديا بين الناس وقتها أن يُرى السروال مرقعا في موضع الركبتين أو الخلف، وفي الأماكن الأكثر عرضة للاحتكاك بالأرض أو أدوات العمل. وكان سعيد أيت الشريف من أهم تجار الثوب بالبلدة، كان يجلب الثوب والشاي والسكر من الشمال، ولذلك كان يعد من أعيانها والساعد الأيمن لمحمد بازي الجد الذي تسعى هذه الفقرات إلى إحياء ذكراه، وإعادة الحياة إلى رحابه.
وبسبب قلة الثوب تلك ذكر لي أحد الناس-منذ وقت غير بعيد-أن أحد المتسولين الجوالين تعقب ذات مرة دفن ميت فنبش القبر، واستل الكَفن.ذكر الشاهد أنه عند مروره بجانب المقبرة ذاهبا إلى الحقل رأى قبرا منبوشا وجثة صاحبه قربه، فأخبر الناس، فغضبوا لذلك أشد الغضب، أعادوا الدفن ثم تعقبوا آثار اللص، الذي اتجه إلى مسجد من مساجد القرى المجاورة واختبأ فيه ، حيث تم القبض عليه وعوقب لأجل ذلك.أشياء غريبة حقا!
المسار الثاني
كان السقي من البئر الموجودة وسط الدوار يتم بشكل جماعي، بحيث يُحمل الماء في الجرار إلى البيوت، أو يُفرَغ في الجوابي قرب البئر لسقي الماشية أو الدواب. وكان السقي يتم بالحبال أول الأمر واعتمادا على الخشبة الجانبية للبئر المثبتة في الأرض، قبل أن تُجهز البئر بالبَكَرات( السَّانية / الجرارة)، وظلت في الآبار التقليدية إلى وقت قريب بَكَرات مصنوعة من الخشب، تدور على محور حديدي متين يتحمل ثِقل الدِّلاء والحبال. ومن الأمور المقلقة حقا للمكلف بالسقي أن يخرج الحبل عن البَكَرَة، فيتعثر العمل بسبب انحراف الدابة أو خروجها عن المسار المعهود، فيتوقف العمل قليلا، لكن الدواب تكون قد نالت حظا غير يسير من الضرب جراء ذلك.
لقد عشنا بعض الوقت هذا الجمال الطبيعي في العلاقات، والخير المتناوب بين الناس، وسحر الطبيعة، ولذة الفرح بالمطر والأعياد والموسم السنوي ” أموكار” الذي يدل بالأمازيغية على فعل الاجتماع، حيث يحضر الناس من كل القرى بعيدةً وقريبة هذا السوق السنوي، وتنتقل عائلات بأكملها لزيارة أقربائها في قرى المنطقة.
المسار الثالث
في هذه المرحلة من التاريخ الميموني الحديث إلى حدود الستينيات لوحظ اتجاه الناس إلى فلاحة” البْحاير”شرق أولاد ميمون تحديدا ، فحُفرت الآبار، في كل الفدادين، واعتُمِد السقي التقليدي القائم على الدلو الكبير” أَلوكاف”.يتم الاعتماد على الجمل أو البقرة أو الدواب لجر هذا الدلو الكبير إلى أن يمتلئ الصهريج بالماء، تُبنى هذه الصهاريج عادة من الحجر و الجبس الأبيض، وتُطلى من الداخل بالإسمنت لضمان عدم تسرب الماء.
تُفتح عين الصهريج مرة أو مرتين في اليوم ليتدفق الماء عبر ” المْعَدية” أي المُعَدِّيَّة التي يتعدى منها الماء إلى الترعة عبر “الساقية”، ثم يجري إلى أنحاء الفدان. وقد يُملأ الصهريج أكثر من مرة حسب ما يتطلبه الحقل من سقي.هذا العمل الشاق كان السبب المباشر في هروب الكثير من الشباب للعمل في فرنسا والتخلص من هذا العذاب اليومي، ومنهم من دخل المدرسة أوائل الأربعينيات والخمسينيات، والبقية ظلت صامدة في هذه الأعمال.
يخضع المرشح للعمل في فرنسا لاختبارات طبية كما ذكر ذلك الذاكرون، وقد يحظى بالقبول أو يعود من حيث أتى خائبا مدحورا إلى “تَسْلية”، وهي المسار المحفور الذي تعبره الدابة ذهابا وإيابا لإخراج الماء من البئر، ولا تسلية فيها ولا سرور، وإنما التذمر والتأفف والصراع المستمر مع دواب الجر والحبال.
المسار الرابع
كان مألوفا وعاديا، كذلك، تبادل الحاجيات بين الأسر واستعارة الأدوات، ولازال عندنا مهراس خشبي” مهراز” مصنوع من خشب الأركان المتين، ذُكر لي أنه يعود لبدايات القرن الماضي، وأنه كان يستعمل من طرف أغلب أسر الدوار لدق الذرة الخضراء خاصة في سنوات الجوع ، ويُقال لها” بوفَشْخة”،حيث يدقون الذرة الخضراء ويطبخونها مع الماء الساخن ، ثم يقدمونها للأولاد مثل الحساء. كما يستعمل لدق مواد أخرى مثل الحناء، وزرع ” أزنبو” اللذيذ، ولازلنا نستعمله في البيت لهذا الغرض، أو لتلك الأغراض كلها.
ولم يكن استلاف الدقيق أو الزيت أو طلب اللبن معيبا عند أحد، وكذا أبسط الحاجيات اليومية من خضروات وتوابل وملح، وقد كنا نقصد ونحن صغار أبواب الجيران فنستأذن وندخل لطلب هذه الأغراض اليومية، بسبب قلة المواد آنذاك، وتباعد فترات التسوق، أو غياب أرباب الأسر، وكم نفتقد اليوم هذا الصفاء والجمال في المعاملات! كما كانت تُحدَث لهذا الغرض كُوات (طاقات) بين المنازل تُتبادل من خلالها الأشياء.
لقد عاشت أجيال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات شدة شظف العيش، بسبب قلة ذات اليد، فكان يحصل الاتجاه إلى المدرسة البعيدة بأرجل حافية، وبلباس هزيل، لا يقي بردا ولا حَرًّا، وخبز قليل وماء أو شاي بارد في قنينة زجاجية إلى جانب الأدوات المدرسية طعاما ليوم كامل.وقد حققت هذه الأجيال لصبرها الشيء الكثير، وتقلدت مناصب هامة، ولكنه كذلك وضع عام عاشه كل التلاميذ المغاربة وقتئذ ، وفي ذلك فلتعتبر أجيال اليوم، وتعتز بما مُنِحت من الإمكانيات والتسهيلات.
المسار الخامس
وكانت ساحة”مرح الدوار”فضاء للألعاب الرياضية البهلوانية لأولاد سيدي حماد أموسى، وهي ألعاب جذابة حقا، وكانت تثير إعجابي ودهشتي، فأظل مشدودا إلى الحركات الرياضية البديعة التي يقوم الرياضيون صغارا وكبارا، وإلى القوة الجسمانية والخفة التي يتمتعون بها، كل ذلك وهُم في لباس أخضر مزركش، ترافقهم موسيقى عريقة في غاية الإبداع والانسجام مع الحركات الرياضية المنتظمة. يقدم لهم أهل الدوار السكر والزرع، ويكرمونهم بالطعام، ليغادروا البلدة في اليوم الموالي. كم أحن إلى ذلك الزمن الطفولي بشجن كبير، وعجز سالب لا يستطيع أن يدير عجلة الزمان إلى الخلف!
كان شبان القرية يسهرون بساحة الدوار، حتى يغلبهم النوم فينامون هناك على الرمل الذي كان يملأ الساحة ليستيقظوا باكرا للعمل، ويظل الكسالى منهم ممدين هناك حتى تطلع الشمس، ليذهبوا متثاقلين إلى بيوتهم، هذا ما يرويه الناس الذين عاشوا هذه المرحلة والعهدة على الراوي.
وكانت الساحة مجالا لإقامة الحفلات، وخاصة في موسم الصيف، وبعد زيارة ضريح سيدي ميمون واسمه الأصلي الحسين، إنما ميمون لقبه، وهذا توضيح لما ذهب إليه بعض المتعصبين أن ميمون لا يطلق إلا على العبيد، وأن الحسين الطيار كان عبدا أسود، وكلنا عبيد لله في كل الأحوال ، ولا فضل لهذا على ذاك، والعبد الحقيقي من ظل عبدا لشهواته؛ غير أنه من واجبنا إعطاء كل ذي قدر قدره، وليعد صاحبنا هذا إلى التاريخ ولينظر توضيحات هذا الأمر في الكتب التي تناولت الموضوع، وإلى أقرب الناس إليه العارفين بالأنساب والقبائل، فسيخبره بالأمر، وليس عندنا وقت لنضيعه في هذا لأنه من الحقائق الثابتة التي لا ينكرها إلا جاهل أو متعصب أعمى تخلف به الركب، وجرت في عروقه دماء النعرات الإقليمية، ولن نظل معه في عماه وتعصبه، لأن غرضنا هو التدوين، لا إثارة النعرات بين القبائل، فنحن في زمن احترام الآخرين والتعايش معهم، والدفاع عن حق الجميع في العيش الكريم، والإحساس بالهوية والانتماء، وقبول الآخر.ولذلك سنستمر في رحلتنا مع عشق الجمال الذي كان في حياة النصف الثاني من القرن الماضي بأولاد ميمون، من أجل تقييد بعض مناحيها بالكتابة،قبل أن يمحوها النسيان، والتأمل في جمال القيم التي كانت والتي نؤسس لها جميعا بقلوب مؤمنة بالغد الأجمل، من غير تعصب أو تحقير أحد أو التفضل على أحد بحقه في الوجود والتفكير المتزن والموضوعي، ومن كان لا يقتنع بمثل هذه القيم فليشرب من أوسع البحور.
قلتُ إن الفرجة كانت متاحة عبر الفنون التقليدية مثل “أهياض”، والفروسية التي كانت أبهى وأجمل ما يقام في هذه الساحة، حيث تعدو الخيل من مقربة المسجد إلى أقصى الساحة، ويُسمع في جو احتفالي مهيب صوت البارود، وصهيل الأفراس، وتُحضَّر تمثيليات محليا، بعد أن يكون هذا العرف المحلي قد حقق مقاصده النبيلة من التصدق والترحم على الآباء والأجداد، وكان القَيِّمون على هذا هُم أعيان الدوار، والعقلاء من القوم.ونأسف لما لحق هذه الصدقات من تشوه وانحرافات خطيرة أذهبت البعد الديني والاجتماعي لهذا الموسم، وأصبح الهم جمع المال باسم الصدقة وهدره في ما لا يرضي الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وما أجمل هذه الساحة أيام الأعياد، حيث يجلس الناس في سقيفة المسجد”أسقيف الجامع”، وسُمي جامعا لاجتماع الناس فيه، حيث يذكرون الله، ثم يفطرون على موائد إفطار تُحمل من البيوت بإدامها وخبزها الساخن وشايها، فيفطر الناس مجتمعين هناك، لينصرفوا مهللين ومكبرين في صوت جماعي وروحاني بهيج يتردد على طول الطريق المؤدية إلى المصلى، قائلين بالتناوب ” سبحان الله والحمد ولا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد على ما هدانا اللهم اجعلنا لك من الشاكرين”، يتصافح الناس طالبين الصفح من بعضهم البعض، يُؤدون صلاة العيد، ويُقْفِلون راجعين. يجتمع أهل الدُّوَّارَين “الخربة” و “البرايج” في جو روحاني مليء بالانشراح والسرور، ليقفوا مرة أخرى قرب المقبرة الكبيرة التي تجمع موتاهم، فيترحمون عليهم، ليعودوا مرة أخرى إلى سقيفة المسجد حيث تُفرش سجادة لجمع الهبات والتبرعات المالية للفقيه، على إيقاع ترديد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن كان العيد عيد فطر اتجه الناس لزيارة أقربائهم في البيوت، وتحية النسوة من العائلة، وإن كان الأمر عيدا للأضحى اتجهوا إلى السكاكين يشحذونها، لنحر أضحية العيد، ثم تناول ” الكَباب” وكؤوس الشاي تاركين الزيارات إلى الفترة المسائية. وتَحمل النساء بحكم العادة الميمونية الطواجين إلى بيوت الآباء حيث تجتمع الأسرة، وتقضي أوقاتا طيبة. وهذه الأمور لازالت والحمد لله مستمرة،وتوجد في كثير من المناطق المغربية، وهي من مباهج القرية، ومن كمالات السعادة فيها، والحمد لله ككرمه وكعز جلاله.
المسار السادس
وذُكِر لي أن الفتيات في فترة الخمسينيات كُنَّ يَتزيَّن محتفلات بأيام الموسم السنوي ” ألموكار”، وبالأعياد، فيلبسن ثيابهن الجديدة( الملاحف، ويضعن الحلي الفضية من دمالج ومشابيح وخلاخل)، فيجتمعن في” أركانة بابا عمور”، وهي شجرة ضخمة لازالت موجودة بين الخربة والبرايج على طريق تفنيت، فيُلاقين فتيات البرايج، ويَسِرن مُغنيات ، وعازفات على الدفوف إلى “سيدي علي الضاوي” ، ثم يتجهن إلى جامع القصبة، وهو بناية قديمة عالية توجد على بعد كيلومترين أو ثلاثة من الدوار، فيصعدن السطوح والجدران، ويمكثن هناك إلى غروب الشمس، ثم يَعُدن إلى بيوتهن وقد أنهكهن التعب والجوع، لكنهن قضين يوما جميلا من أيام الاحتفال الجميل الذي كان .
المسار السابع
امتلك أولاد ميمون أراضٍ شاسعة استعملوها للرعي والزارعة والفلاحة البورية أو المسقية، وظلت تُعرف بالأراضي السلالية، وهي تنتقل من أب إلى أولاده بالتوارث، وينظمها الظهير العائد إلى سنة 1919م، والذي لم يُجدد للأسف، ولم يسمح لحد الآن بتحفيظ هذه الأراضي . وكما أن الحماية الفرنسية وضعت قوانين مجحفة لاستغلال هذه الأراضي، فقد انعكس الوجود الاستعماري على أولاد ميمون، فقاسَوا مثل كل المغاربة من الأحكام الفرنسية، ومن الخدمة الإجبارية التي لم يسلم منها إلاَّ القلة، فظلت توجه إلى الناس أوامر إجبارية بالعمل أياما عديدة على شكل دورات في مشاريع بناء قصبات الحُكَّام، وتعبيد الطرق، واستخراج الفحم الحطبي من الأفران وغيرها، وكانت التوجيهات تصدر للناس بالحَرْف “حد الصايم” أي لكل بالغ الصوم، فالخدمة الإجبارية واجبة في حقه.
كان الناس يتوجهون إلى تلك الأشغال بالقوة والقهر والعَسْف، وتحت التهديد بالحبس أو العقاب أو هما معا، فكان المُجبرون على الخدمة يحملون القوت القليل من بيوتهم، ويقضون أياما من العمل على تلك الحال دون أجر أو شكر. ومنهم من كان يُكَلََّف بالتوجه إلى أكادير مشيا على الأقدام ليحمل البريد الفرنسي الموجه إلى القايد أو الأعيان في بيوكرى، ثم من بيوكرى يُكلف ثانية بحمل الرسائل إلى الدواوير القريبة على الأقدام، ولا يعود إلى بيته إلا في وقت متأخر من الليل، وقد أنهكته المسافات والجوع والإذلال والقهر.
ويُروى أن المنتدب الفرنسي (على الجهة)يخرج إلى السوق والأماكن العامة على فرس حولها أربعة أعوان، والناس يؤدون له تحية التوقير والإجلال، وكل من لم يُؤد التحية كما ينبغي يُحبَس جراء ذلك شهرا كاملا.وحدث أن أحد الناس أراد تحية هذا الحاكم وهو على فرسه فرفع يده اليمنى إلى جنب رأسه(كما يفعل العسكريون)، ثم أردفها بتحية عسكرية باليد اليسرى، فأثار ذلك راكب الفرس، واقتاده إلى مكتبه، فسأله عن ذلك . قال الرجل :
” التحية باليمنى لك سيدي، و التحية (العسكرية)باليسرى لفرسك!” أعجب ذلك الحاكم فأكرمه وأمر بتخلية سبيله.
لكن مقابل ذلك شدد الفرنسيون في متابعة اللصوص وعمليات النهب، واضعين أشد العقوبات، فسرى الأمن، حتى لم يعد يُخشى على الممتلكات، وهذه شهادات الذين شاهدوا ذلك وعاشوه، والمقام هنا مقام تدوين لا مقام تحقيق أو تعليق.
في هذه الظروف الصعبة اضطر الكثير من الميمونين الأوائل إلى الرضوخ للطلب الفرنسي، وحاجته للعمال بسبب ما خلفته الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية من نقص في الموارد البشرية واليد العاملة، فرحل العديد منهم للعمل في المناجم، والأعمال الشاقة، ثم في الصناعات الثقيلة بعد ذلك، وكانوا لا يزورون عائلاتهم إلا لِماما، ويكتفون ببعث النقود القليلة المتوافرة.
في رحاب محمد بازي ثانية
يذكر الرواة أن أولاد ميمون كانت ملاذ القادمين من القبائل الأخرى لأسباب مختلفة. وقد وجدوا في محمد بازي وسعيد أيت الشريف وغيرهما الحماية الكافية من عقاب القبائل المطالبة بهم أحياء أو أمواتا.
ويذكر الناس في هذا الصدد شخصية بوشتى السايح ، القادم من أغرود العروسيين جنوب تين منصور الحالية، وهي قبيلة تتكلم الدارجة العربية مثل أولاد ميمون تماما، ولسبب ما لا نعرفه غادر بوشتى قبيلته، فاعتصم بمحمد بازي الذي أواه وحماه، لما يعرف عنه من القوة والشدة والبطش، وأولاد ميمون حينئذ أحوج ما يكون إلى أمثاله.
ذكر لي ابنه الأكبر أن خصومات شبت بين أخوي بوشتى السايح وامرأة في أغرود العروسيين، وكانت قوية إذ تمكنت من إسقاطهما أرضا ضربا بالحجر، ولما اُخبِر بوشتى بذلك أخذ سيفه واتجه إليها في بيتها، فرمته بدوره بحجرين في صدره وهو أمام الباب، ثم انقض عليها وفلق رأسها بالسيف.وحُكم عليه بغرامة قدرها خمسة جِمال لِما كان من شفاء المرأة.غادر بعدها إلى فرنسا حيث قضى اثنتي عشرة سنة، ثم عاد ليستقر بأولاد ميمون ويتزوج بها
غير أن قبيلة بوشتى السايح وحاكم أيت الدليمي بالأخص ظلا يطالبان به حيا أو ميتا، وألَحَّا في ذلك، مُهددِين بالهجوم في أية لحظة، لكن بوشتى ظل متشبثا بالبقاء في أولاد ميمون، فقررت قبيلته تدبير حيلة للظفر به، فاتفقت مع أحد عملائها بأولاد ميمون على القبض عليه أو قتله مقابل ثمانية ريالات حسنية. بحيث يستدعي الرجلُ العميل بوشتى إلى بيته لشرب الشاي وتناول الطعام، وهناك سيختبئ للقبض عليه أربعة رجال واحد منهم من العبيد.هذا الأخير لم يعجبه الأمر، فأشفق على بوشتى، و قصد أولاد ميمون متخفيا ليخبر من يوصل الخبر إليه. وبالفعل أُخْبِر بوشتى فكان في غاية الاستعداد حيث جهز بندقيته الخماسية لأي طارئ محتمل.
عند حلول الليل أقبل صاحب الشاي، وطرق الباب، ففتح له بوشتى لمَّا رآه وحده، فأعلمه بما اُعلِم به وبمكيدته التي يدعوه إليها، وهدده بأنه إن لم يذهب إلى حال سبيله ليَقْتُلنَّه رميا بالرصاص فورا، فولى الرجل مذعورا مدحورا.
شاع خبر المكيدة في الدوار، وغضب الناس لذلك. طلب محمد بازي من بوشتى تهييء “الذبيحة” والسكر وخيوط الحرير(المجادل) هدية للحاكم بوسلام الدليمي الذي لم يكن يُؤتمن شره. كما قرر أولاد ميمون أن يبعثوا –احتياطا- رسالة إلى القايد حْسَينة في بنكمود، مشيرين إلى مطلبهم، وقاصدين إعلامه بما يمكن أن يقع بعد ذلك من مكاره.
أخذ أولاد ميمون بوشتى بأنفسهم ، وهو لا يصدق أن يعود ، لما كان وقتها من شيوع قتل الناس.كان الحاكم ينتظره بفارغ الصبر ليقتص منه، وتكلم كلٌّ بكلامه، وذكر حجته، والرجل مقيد ينتظر مصيره، عندها تدخل محمد بازي بهيبته وشجاعته المعروفة، وطالب بالإفراج عنه، ومسامحته، معتبرا إياه واحدا من المقيمين بأولاد ميمون قائلا : ” هاذو الشْرفاء أولاد ميمون جاوكوم ضيافين الله، بوشتى كانون ديالنا(أي بيت) ، وداي بنتنا، واللي كان يديرها حنا قادين بها من حرب أو عمل”. وذكر بوسلام أنهم أولى به، وأنهم في حاجة إلى من يدافع عن القبيلة.وقد عبر بوشتى نفسه وهو يروي لأولاده أن الأشداء يعرفون وقتئذ قيمة بعضهم البعض لكثرة الغدر وتفشي القتل، وسيادة الفوضى وغياب الأمن.قال:” ذاك الوقت، الرْجالْ كل واحد يْعرَفْ سيدو، أما اليوم حتى النَّعجة تْخَصَّرْ الرََّيْ”، وكأنه يقول لو لم يعرفوا قدْري لما ألحوا في طلبي.
وما زالوا في أخذ ورد حتى دخل مبعوث القائد حْسَيْنَة الذي سلم بوسلام رسالة، قرأها صامتا، ثم أعاد قراءتها، وقد سُقِط في يديه، فانهمرت الدموع من عينيه، إذا هدده القايد حْسينة بأنه ” إذا مس شعرة واحدة من الميمونيين
فإن مئتي فرس المربوطة استعدادا لأي معركة، ستُمْسي بأيت الدليمي ولن تترك فيها إلا الخراب والغبار!”. استسلم بوسلام، ثم طلب من بازي أن يفك قيده، فأشار محمد بازي بأنه أنت الذي يجب أن تفك قيده بيدك دليلا على عفوك. وفعل الحاكم، ورجع الميمونيون ومعهم بوشتى العروسي الذي عاش بأولاد ميمون، وترك بها أولادا لازالوا على قيد الحياة ومنهم الأستاذ السايح إبراهيم وإخوانه وأخواته.
و ذكر لي أبناء بوشتى السايح أن أباهم كان ترمل من زوجته الأولى ، وقد تركت أبناء صغارا حار في تربيتهم والقيام بشؤونهم، وتزوج أخت امرأته الأولى تلك على أساس أن تقوم بشؤونه وأولاده، غير أن التفاهم لم يحصل ليصيرا إلى الفراق، وظل بوشتى في معاناة مع الحياة، وذات يوم قصده محمد بازي ليتفقد أحواله، فطرق الباب، تردد بوشتى في الفتح، ولما أُخبِر أن الطارق هو محمد بازي، قال: أسرعوا بالفتح، فوجده جالسا يدير الرحى يطحن الحبوب ليطعم الأبناء. لما رأى محمد بازي واقفا أمامه أشفق من نفسه وبكى من الهم، وقلة الحيلة، وكأنه لا يرغب إن يراه صديقه على تلك الحال، عرف بازي مقدار همه فأنَّبه بقولته المأثورة:” نوض ألنعجة قاع ما لقيتْ العْيالات تْلقى الرْجال!”، قصد به بازي أخته ليزوجه ابنتها، ومنها ولد إبراهيم السايح وأختيه، وكانت خير مساعد له على أعباء الحياة وعلى تربية الأولاد،توفي بوشتى السايح رحمه الله سنة 1956م.هذه الأحداث كان يرويها لي أبناء بوشتى الكبار بافتخار بالغ، واعتراف كبير بأدوار الجد بازي في حياة والدهم، وفي حياتهم وهم صغار.
مقامات الاعتبار:
الاعتبار الأول
ما ذُكر في هذه الروايات علامة على انتهاء تاريخ وبدء آخر، وعلى طي صفحات وفتح أخرى، غير أن ما هو جوهري في علاقتنا بالمكان أو الذاكرة يجب أن يبقى شهادة على العصر، وعلى احتفالنا بما أُنجز لحد الآن في مجال التدوين وهو قليل.
الاعتبار الثاني
لم يدون أجدادنا بأولاد ميمون شيئا ذا بال، ربما بسبب عدم انتصارهم على سلطان الحرف والكتابة، وعدم إدراكهم لحاجة أولادهم لمثل هذا التاريخ، وبسبب قهر الظروف، وغياب الأداة القادرة على التدوين والمعرفة بكيفياته، وكانت العناية محصورة في كتابة عقود الزواج والرهن والبيع والشراء، ولم تتعد ذلك إلى التأليف.
الاعتبار الثالث
الذاكرة الميمونية غنية بالمعلومات والأخبار، غير أنه إذا لم يتم إنقاذها، ستعيش الأجيال القادمة فراغا معرفيا مهولا بالتاريخ والجغرافيا المحليين، وقد يتحول هذا الفراغ إلى عداء تجاه الماضي وتجاه السابقين، وقد قيل الإنسان عدو ما جهل.
الاعتبار الرابع
عاش جيلنا آخر سنوات البداوة بجميع تفاصيلها، وعاش بدايات الحضارة بكل عنفوانها وجبروتها ، والذي يمكننا أن نصنعه هو التوسع في جغرافيا الفكر، والذاكرة والتدوين، ووضع الأسس الأولية لمعرفة رصينة بأحوال الزمان والمكان، والسعي إلى التأثير الإيجابي فيما حولنا.
الاعتبار الخامس
ليس هناك اليوم من شيء نستطيع التعاون فيه غير خدمة الإنسان في ارتباطاته المحلية والإقليمية والوطنية، وتقوية القيم العليا، وتعزيز الارتباط بالذاكرة والتاريخ والمحكي، والممارسة الدينية القويمة.
الاعتبار السادس
لزوم المحافظة على الأثر الميموني الإقليمي عموما والاعتزاز به، والتأسيس للهوية الميمونية إلى جانب الهويات الأخرى المجاورة، والتفكير في وسائل تقنية حديثة لنشرها والتعريف بها، وتبادل النتائج الإيجابية بين هذه الهويات.
الاعتبار السابع
القصد من تدوين المحكيات التي تجمعت عندنا منذ سنوات بعيدة، تصوير الواقع الذي كان، ووضع أجيال اليوم في صورة التحديات الكبرى، والمعاناة العميقة التي عاشها آباؤهم، ليدركوا حجم النعم التي هم فيها اليوم، فيحتفلوا بهؤلاء الآباء الذين عانوا من أجلهم، ثم يحمدوا الله على نعمه الكثيرة المحيطة بهم ظاهرة وباطنة، ويسألوا الله دوامها عليهم. ويعلموا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن العاقبةَ للمتقين. والله المستعان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.