هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صفحات من التاريخ المحلي (2)


نوافذ مفتوحة على ذاكرة أولاد ميمون
( الجزء الثاني)
إهداء
إلى” آية الجليلة” التي تجلس على ركبتي الآن، تزاحمني على لوحة المفاتيح، ثم تأبى إلا أن تجلس قرب الشاشة لتحجب الحروف والكلمات المرقونة، وبفعل هذا التزاحم الواعي وغير الواعي على هذه الذاكرة، قد يحصل التشويش على مسارات الكتابة، لكني أتحمل ذلك من أجلها،ومن أجل الصغيرة “بسملة ” التي لا يحلو لها النوم إلا قرب أفكاري؛ لِتَنَمْ ما شاءت، لكني متأكد أنها ستسعد وأختها بهذه الذاكرة،عندما تكبران ، إليهما وإلى من في جيلهما عندما يصبحون أجدادا وجَدَّاتٍ فيحتفلون بهذا الطائر الجميل الذي انطلق من عمق البحر، ليحط فجأة على النخلة الشامخة الواقفة قرب بابي داعيا إياي إلى الاستمتاع إليه وإلى تدوين ما يروي ، عندها يكون كل شيء فَِيَّ قد طواه النسيان، أو عجز عن ذكره اللسان، ويكون عبورنا تحت ظل شجرة الدنيا في خبر كان ، نسأل الله برحمته أن يبارك أعمالنا القليلة في الميزان ويجعلنا بها في ظلال الجِنان.
توضيح لا بد منه
هذا مشروع تدوين مفتوح للجميع، يسعى إلى حفظ ذاكرة أولاد ميمون، لِما يزخر به بحرها، وتخفيه معالمها، ولا يكشف عن ذلك إلا الغوص والمخاطرة والصبر والمكابرة، من أجل إتحاف أجيال اليوم والغد بمحصلات الذاكرة المعاندة التي لا تُستَجْمَع بسهولة، وما أشبهها بطائر جميل يقترب لنراه، وعندما نحاول الإمساك به يطير في كل مرة، ويقف بعيدا على الأسوار العالية نشوان بلهفتنا للقبض عليه، سنظفر به حتما إذا حاصرناه جميعا من كل الجهات ...
النافذة الأولى
أصل الميمونيين أقوام رحل، كما جرت بذلك عادات القبائل المغربية القديمة، ثم استقروا في منطقة أحسنوا اختيارها جغرافيا، على مستوى السهول والمناخ والانبساط والصلاحية للزراعة وتربية الماشية، وقد أثبتت الدراسات، كما أثبتت التجربة الحياتية أن أحسن مسافة للاستقرار من البحر هي سبع كيلومترات، تفاديا للمناخ البحري الرطب، وقوة الرياح، وصخب البحر عند الهيجان. كما تتميز المنطقة باعتدال مناخها، فلا تتأثر بالحرارة المفرطة التي تميز المناطق الجبلية والصحراوية، ولا بالبرد القارس الذي يميز المناطق الباردة بسبب تساقط الثلوج.
وهي منطقة عارية من أية حماية طبيعة، فلا تستجيب بذلك للحفاظ على أمنهم واستقرارهم، إذ الأكثر أمنا هو المناطق الجبلية العالية المحصنة تحصينا طبيعيا. غير أن الميمونيين لم تكن لهم تلك النزوعات التوسعية الكبيرة، ولم تكن لهم القوة الضخمة ولا العدد الكبير الذي يجعلهم يفكرون في ذلك . والراجح أن استقرارهم لم يتعد أربعة قرون بدليل أن الجد ميمون دفين المزار عاش في أواخر القرن العاشر الهجري، كما تشير إلى ذلك المادة التاريخية المعلقة في ضريحه. غير أن الميمونيين سواء الذين استقروا في الخْمَيِّسْ قرب القليعة أو في أولاد ميمون الحالية، ومنهم من استقر ببني ملال ويُسمون أولاد موسى، تمتعوا باحترام كبير بسبب نسبهم الشريف، وقيمهم وأخلاقهم، وشجاعتهم وكرمهم وذكائهم، وإذا انتبه القارئ إلى الوثيقة التي وُقِّعت بين المولى إسماعيل الذي بويع مباشرة بعد وفاة أخيه الرشيد سنة 1682م ، وبين أعيان قبيلة أيت عميرة بهشتوكة سيجد أسماء الميمونيين أسفلها، ومنهم سي حمد الميموني، وسي محمد بن علي الميموني... نظرا لمكانتهم وفِقههم وعلمهم، فكان لهم حضورهم المميز؛ وهذه الوثيقة التاريخية الهامة تُظهر ولاء هذه القبيلة للسلطان العلوي آنذاك المولى إسماعيل، ثم عطفه عليهم ببيعهم منطقة واسعة تمتد إلى “بنكمود”، وإلى “أيت عميرة”، ومن “علاَّل” إلى البحر الأطلسي، وهي تمكنهم من أن يحوزوا هذه الأراضي حيازة تامة، ويتصرفوا فيها بالحرث والحصاد، ويورثوها أبناءهم. غير أنه لم يتم تفعيل هذه الوثيقة ذات الأهمية الكبيرة لتسوية الوضع الحالي الذي عليه أراضي الجموع بهذه المنطقة.
نسخة من التعاقد الذي تم بين المولى إسماعيل العلوي وأعيان قبيلة اشتوكة
النافذة الثانية
يُروى أن مساكن أولاد ميمون القديمة، أو بعضها، كانت في الأماكن المسماة الآن بأحراش “سيدي علي الضاوي” في الهضبة المشرفة على القرية الحالية، وهو مكان مرتفع نسبيا ويشرف على ما حوله من أراضٍ، ولأن عدد الميمونيين كان وقتئذ قليلا، فيمكن أن نتصور أن عددا المساكن التي بنوها كان قليلا أيضا، ولم تكن مساكن ضخمة تصمد كثيرا، والأغلب فيها بنائها الحجر والتراب، ولذلك أسرع إليها الخراب، ويؤكد هذا كون أصول العائلات القديمة تملك قطعا أرضية صغيرة، مساحتها صغيرة لا تصلح إلا للسكن أو جعلها أحواشا للبهائم. وكانت لأصحاب هذا الدوار مخازن وهي عبارة عن مطامير للزروع في الصفائح الصخرية الموجودة مباشرة شمال المقبرة الحالية. وإذا كان أهل الجبال يصنعون مخازنهم على شكل بنايات عالية تسمى ” إكودار”، فإن الميمونيين وضعوا مخازنهم في جوف الأرض نظرا لطبيعة المنطقة.
وتذكر بعض الروايات الشفوية أن مكان استقرار بعض الميمونين الحاليين كان في المنطقة المسماة ب” المْغيليق” وهي تصغير ” مَغلَق”، وأن بعض البنايات الدالة على استقرارهم لازالت شاهدة هناك، ثم التحقوا بعد ذلك بأولاد ميمون، و تصاهروا مع أيت بنداود، وأصبحوا عائلة واحدة، لها امتدادات قوية في الوقت الحالي.
النافذة الثالثة
يُقال إن المقبرة القديمة لأولاد ميمون كانت في الموضع الحالي للمركب الثقافي للجمعية، وهو مكان ضريح سيدي “أبو الأنوار” الذي كانت تحج إليه أفواج المرضى وطالبي الشفاء إلى عهد قريب. قالوا إن أنوارا كانت تضرب فوق قبره، ولذلك بنوا فوقه ضريحا، وأصبح يتبرك به. وهذا لا يصح في الشريعة، وقد نهى النبي (ص) عن ذلك في عدد من الأحاديث، منها قوله:” اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعْبد”، وهو حديث صحيح تقوم به الحجة، والذي يطلبه الميت من الحي هو الترحم عليه والدعاء له ، لأن المرء إذا مات لا ينفع الحي مطلقا، بل هو المستفيد من الحي دفنا وترحما عليه. لقوله (ص):” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له” رواه مسلم.
وكانت الساحة قربه تمتلئ بدواب الزوار وعابري السبيل. غير أن المصلحة اليوم اقتضت تنقيل رفات الأموات التي وجدت بالمكان ودفنها بالمقبرة الحالية، والتي تحظى بعناية كبيرة من أهل البلدة ( الخرباويين والبريجيين على السواء)، وهو دليل إكرامهم لموتاهم، فهي مسورة بسور كبير، ومجهزة بجميع اللوازم من ماء ونور، وهو مما يجب أن يُعتز به، ويترحم به على الذين قاموا بهذا العمل الجبار.أقول هذا لأني رأيت بمناطق الصحراء والجبال مقابر يدوسها الناس بالأقدام، وتخترقها الطرقات من جميع الجهات، لغياب العناية بالأسوار رغم وجود الحجر الكثير، ولا خير في قوم لا يكرمون موتاهم.
والظاهر أن القرية القديمة، أو بعض مساكنها، تحولت شيئا فشيئا إلى المكان الذي فيه الدوار الآن، وبالأخص المحور حول المسجد الحالي حيث وجدت أغلب مساكن العائلات القديمة في الدوار، ومنها : عائلة سي حمد بازي الأول، وعائلة بنداود، ولحسن أوسعيد، وايت خماش، والعبوبيين وغيرهم، ولازالت آثار هذه الدور شاهدة إلى اليوم في الجنوب الغربي للمسجد الحالي.أما المسجد القديم فكان قبالة دار الشريقي إلى الشرق بينها وبين المركَّب الحالي. وكان مسجد القرية إلى وقت قريب مأوى عابري سبيل والمساكين، يأكلون ويشربون وينامون، وفي اليوم الموالي ينصرفون إلى مقاصدهم، وكان محمد بازي الجد من المحافظين على المسجد، والواقفين عليه، ساهرا على غرس أشجار التين والرمان التي كانت في ساحته الخلفية.
وكان للدوار بابان كبيران غربي قرب المركب الحالي للجمعية، وشرقي قرب دار أيت لحسن أوسعيد الكبيرة القديمة ( لم يبق منها شيء اليوم للأسف، لأنها كانت مثالا للدور الشامخة بمدخل الدوار القديم)، وأما جوانب الدوار فكانت محاطة بالجدران والأحراش والسِّدر اليابس والأشجار بحيث يتعذر اختراقها بسهولة.
النافذة الرابعة
عاش الميمونيون إلى وقت قريب في جو من التكافل الاجتماعي، عشنا بعضا من أجوائه واحتفالاته في طفولتنا إلى حدود أواخر السبعينيات من القرن الماضي. ومن ملامح العمل الجماعي ظاهرة “النوبة”، وهي من المناوبة والتناوب، وقد استمرت إلى أوائل السبعينيات، بحيث تُخرِج كل أسرة ما تملك من أبقار وعجول إلى ساحة الدوار، فتتجمع العشرات منها، ثم يتكفل واحد من الناس برعيها مجتمعة، وفي اليوم الموالي يقوم بالرعي شخص آخر، وهكذا دواليك. ولا زلت أذكر مشاهد قليلة من هذا. في المساء عندما تصل الأبقار ساحة” مرح الدوار”تجد مالكيها في انتظارها لسَوْقها إلى البيوت، وإلا فإنها تتجه مباشرة إلى محلاتها من تلقاء نفسها بحكم العادة.
كانت الحيوانات تقصد بيوت أصحابها دون أن يعترضها معترض، وقد كان والدي رحمة الله عليه يملك بغلة يقصد بها شاطئ تفنيت للصيد في الصباحات الباكرة، فيتركها ترعى في الغابة المجاورة إلى أن يغادر البحر، ثم يضع السمك في الخُرْج (الشواري)، ويوجهها إلى الدوار-إذا قرر المبيت إذ كان له مسكن هناك ولازال- على مسافة عشر كيلومترات، فتقصد البيت مباشرة، وتقف إلى جانب البئر،حيث ترتوي من العطش، تتفقد أمي الخُرج لتخرج منه السمك، وقد أكدت لي أن هذا حصل مرارا لما رأتني أستغرب أن يحدث هذا.
النافذة الخامسة
كان الناس يتعاونون على أعمال الحصاد والزرع، فيستعملون لحرث الأرض المحارث الخشبية والدواب، ويتم ذلك مباشرة بعد الحصاد، ويسمون هذا ” تَعْجَّاجْتْ” وأصلها من العَجاج والغبار الذي يثيره حرث الأرض الجافة، وعندما يسقط المطر ينبت الزرع. كما كانوا يتعاونون على الحصاد ويسمى ذلك “أدوال” وأصله من التداول، أي الانتقال من حقل إلى حقل بشكل جماعي، وكان الحَصَّاد صاحب الحمار غير مرغوب فيه، بسبب ما يُحدِثُه من إفساد الحقل، فقالوا:” حَصَّادْ بْحمارو شْهابْ بْنارو”، أي أن الحصَّاد القادم بحماره كأنه شُهب من نار، تأكل الحقل وتأكل قلب صاحبه، وربما يفكر في تحميل حماره بما يصيب من زروع، و ياله من تشبيه بليغ ومؤلم في الوقت نفسه لكل من فَكَّر في ركوب حماره إلى حقل غيره.
كان التكافل الاجتماعي قويا بين الناس، وكان التعاون حاصلا في البناء والزراعة وحفر الآبار، وإقامة الحفلات، والصدقات (صدقة جدي ميمون و”المعروف” مثلا) وحفلات الزواج والتسوق الجماعي، والدفاع والمراقبة .
وكان بالمسجد بيت لتسخين الماء فيه مسخنة تسمى” تفضنة” ، يزود الناس هذا المرفق بالحطب، بحيث يضعونه حزما أمام المسجد، توقد هذه المسخنة من الخارج، ليغتسل الرجال اغتسالا كاملا، وبالأخص في الأيام الباردة. كما كنا ننشف عليها الألواح بعد غسلها، خاصة في الأيام المطيرة.
وكانت في باحة المسجد شجرة تين كبيرة ، كنا نجلس تحتها في فترة الصبا لحفظ السور القصار من القرآن الكريم، تعلمنا الحروف على يد الفقيه، وكنا نُدَوِّن ما نحفظ على الألواح الخشبية، وبعد عرض ذلك وإجازة الفقيه، نستعين بورقة من أوراق شجرة التين الأسود لإزالة مداد الصمغ(السْمَاخْ)، ثم نتركها تجف لبعض الوقت إذا كان الجو مشمسا، لتُطْلى بعد ذلك بحجر الصلصال وهو يُعين على محوها بالماء ، لتُدون عليها آيات جديدة.
ظلت شجرة التين تلك واقفة بشموخ في ساحة المسجد، وفي نفسي إلى اليوم، رغم اقتلاعها لتجديد البناء، أو ربما جفت جذوعها كما جفت كثير من الأشياء الأخرى الجميلة بالقرية.كنا نظفر بما نضج من ثمرها لِماما، أما في مساء يوم موسم “سيدي بيبي” المعروف، فقد كان يُسمح لنا بالصعود فوق سطح المسجد استثناءً، فنصيب من الثمرات الناضجة التي كنا نتابعها بأعيننا الصغيرة بحسرة بالغة دون أن نستطيع إليها سبيلا.
وكان معروفا دفع بعض النقود القليلة أو البيض للفقيه يوم الأربعاء، ليتأتى له التسوق يوم الخميس، وإن كانت أعطياتنا هزيلة وبئيسة في معطم الأحيان، غير أننا كنا نردد من أجل القيام بذلك الواجب الأسبوعي:
بيضة بيضة لله باش نْقَرِّي لَوْحْتي
لوحتي عند الطالب والطالب فالجنة
والجنة محلولة حللها مولانا ...
أما طعام الفقيه فكان يُعد بالتناوب بين الأسر، إذ تُحَضِّر كل دار وجبة الغذاء والعشاء للفقيه، ومن معه من الطلبة الذين يقطنون بالمسجد لحفظ القرآن وتعلم الحديث والفقه.إضافة إلى الشرط السنوي الذي تقدمه جماعة السكان إلى الفقيه والمستنِد إلى دفتر تحملات رمزي بينهما. وكان المرشح للإمامة يخضع قبل التعاقد معه -مثلما هو معمول به اليوم في سائر المساجد- لامتحان شفوي ، وآخر عملي، حتى تثبت جدارته بالمنبر والمحراب.
النافذة السادسة
ذكر لي بعض الناس أنه كان قرب دار أيت لحسن أوسعيد القديمة فرن”أفارنو” تخبز فيه نسوة البلدة بالتناوب، وعليه عبد يقوم بإشعال النار، وإعداد الحطب.كما كان بدار جدي الحاج عمارة بالدوار فرن كبير يُفتَح يوم العيد فقط في وجه كل نساء الدوار، حيث يأتون بالعجين وبعض الحطب ، وتتكفل جدتي بإنضاج الخبز منذ الصباح الباكر إلى منتصف النهار.
أما الدور القديمة فكانت في غاية الشساعة والرحابة، وذات غرف جانبية مفتوحة على السماء ، تُبنى من التراب الأبيض (تافزا) اعتمادا على الألواح الخشبية( اللوح)،تبنى غرفة الضيوف” الدويرية ” في القسم الخارجي للدار، ويكون عبارة عن غرفة كبيرة، ذات نوافذ صغيرة في الأغلب، تفرش بالحصائر والزرابي التقليدية (الحنابل)، وتوضع فيه فروات وثيرة للخروف(الهواضر)، تهيأ للجلوس. قرب الباب يوضع مغسل تقليدي، ومقراج كبير من النحاس على “كانون” نحاسي رفيع الصنع ذي قوائم عالية، وإلى جانبه “الصينية” المجهزة بالكؤوس والبراد، وفي هذه الساحة بيت للوضوء.وتغرس شجرة واحدة أو اثنتين، إلى جانبها نبات الحبق ذي الرائحة الطيبة، ونبتة النعناع الذي يحلو معه إعداد الشاي .
أما الغرف الداخلية فتصطف- كما ذكرنا- إلى جانب السور، وهي عبارة عن غرف للجلوس والنوم ومطبخ تقليدي(أنوال) وحمامات، وكانت الغرف ذات طول ملحوظ، وعلو واضح وتُغَطى بخشب “الأركان”، وهي مواد تضمن الدفء في الفصول الباردة، والبرودة في الصيف. ويُبنى فوقها جدار متوسط للسترة يسمى (الستارة) بها ثقوب لأغراض دفاعية ،بحيث يتأتى الدفاع في حالة هجوم الأعداء دون أن يصاب المدافعون بأي أذى. ويخصص القسم الثالث من الدار القديمة لبناء المخازن ومرابط الدواب والمواشي، ولأن حاجة القرويين لخزن الحبوب والتبن لا جدال فيها فقد كانوا يهيئون لهذا الغرض غرفا ذات طول ملفت للانتباه بحيث تستوعب كميات كبيرة من المخزونات، إضافة إلى الأدوات الفلاحية والحطب وغيرها.وقد كان بيت جدي الحاج عمارة على سبيل التمثيل من الدور الكبيرة التي توافرت فيها هذه المواصفات .وكانت للدور القديمة أبواب كبيرة تصنع في الغالب من شجر الأركان المتين ، وهي أبواب واسعة وعالية، بحيث تسمح بمرور الدابة مُحَمَّلة، ودخول الحيوانات الضخمة مثل الجمال والخيل والبغال.
وقد شاهدت ببيت الحاج عمارة سواء في الدار القديمة بالدوار، وهي الموروثة عن الأجداد، أو في الدار الجديدة شرق الدوار كل هذه المرافق، إلى جانب مخزن للحطب ، والرحى التقليدية المنصوبة تحت” الرْحَل”، وهو عبارة عن سرير معلق عاليا توضع فيه أدوات الطبخ (الطواجين، والقصاع، والغرابيل...) و الطحين. وتستعمل الرحى في طحن الذرة، و الزروع، وغيرهما.
و تجد في الجدران أوتادا خشبية تعلق فيها الملابس والأدوات التي تستعمل بكثرة، أما الملابس الموسمية أو ملابس التجمل والاحتفال فتوضع في صناديق خشبية تفوح منها رائحة الكافور، أو البخور، أو غيرها من المطيبات، إلى جانب الحلي الفضية(من خلاخل ومشابيح ودمالج وخواتم) التي تُجمع للفتيات قبل زواجهن، ولذلك قالوا:”إلى عَنْدَك الأولاد بْني حَيْط لْعام ، وإلى عَنْدَك البنات شْري قَرشْ لعام”.يوضع هذا الصندوق في بيت نوم الأبوين إمعانا في مراقبته وإبعاده عن عبث العابثين، أو نزوات الطائشين. و تجد في هذا البيت الكبير خوابي للماء من الطين، تملأ في الصباح الباكر وبشكل يومي ، وتُغطى، والمرجل النحاسي المسود بالدخان (القمقم)ويصلح لتسخين الماء.
النافذة السابعة
وقد أدركنا في بداية السبعينيات كل أنواع الأشغال التقليدية، وانخرطنا فيها بحكم الحياة البدوية التي كانت، ولم يكن مجال للإفلات من هذه الأشغال من قبيل الرعي، والحرث بالمحراث الخشبي، والحصاد وجمع الغلات، والدَّرس بالدواب، وأذكر أني قمت بهذا العمل مرة واحدة اضطرارا عندما فَر أخي الأكبر من” الدرسة” تأففا وضجرا ، وترك ” الرْوا” يدور ويدرس وحده، وكانت تلك أواخر سنوات اليأس من البدواة وأدواتها، ودخول الأدوات الحديثة من جرارات وآلات درس، غير أن الحصاد ظل بالأيادي لمدة أخرى طويلة، وكنا نكلف ونحن صغار بجمع الحطب في الغابات والخلاء وإحضاره على الدواب إلى البيت، و ويُعد هذا من الواجبات اليومية إلى جانب ملء الخوابي بالماء، وسقي الدواب. وإذا امتلأ الحوش(الزريبة) بروث البهائم فلا مناص من إخراجه طيلة يوم أو يومين، وغالبا ما يتم ذلك في جو من النفور والتقاعس ثم الزجر والوعد أو الوعيد من طرف الأبوين أو الأخ الأكبر ، وهو ما ينعكس ذلك بشكل سلبي على الدواب إذ نَصب جام غضبنا في ضربها أو إفساد العمل تذمرا وعصيانا.
وكنا نكلف بإزالة التين من الأشجار ، ولأمر ما كانت كل البساتين مفتوحة في وجه العموم في سنوات السبعينيات بعد ترك الناس للبحاير، وذهاب بعضهم إلى فرنسا،أو يأسهم من هذا النوع من الفلاحة، فكنا ننتقل من حقل إلى حقل، ومن شجرة إلى أخرى لقطف الثمرات الناضجة، وكان هذا من الصدقات الجارية، ورحم الله الغَرَّاسين للكروم وأشجار التين والأحراش فقد أكلنا من أيديهم ، وتنعمنا بثمار جهودهم ، فرحمة الله عليهم بكل شجرة وكل ثمرة. غير أن الأشجار والأحراش آلت بفعل الجفاف أو الشيخوخة أو التدمير والإزالة إلى الموت.وكنا نشارك ونحن صغار في البناء بتقريب المواد أو نقلها ومساعدة البنائين بسقي الماء،وإعداد المواد الأولية،وإحضار الطعام، وتعلمنا البيع والشراء، ولما ضاقت عنا أشغال البر تم نقلنا للعمل بالبحر، والتدرب على المهنة الجديدة بمخاطراتها ، فيا لها من مدرسة هاته التي أسسها والدي وربانا فيها على الجانب المهني! كنا نأنف منه وننفر، غير أنه علمنا الاحتكاك بالحياة، وعلمنا كيف نعتمد على أنفسنا.
وللحديث بقية....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.