واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    اعتقال موظفين ومسيري شركات للاشتباه في تورطهم بشبكة إجرامية لتزوير وثائق تسجيل سيارات مهربة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    بورصة البيضاء تنهي التداولات ب "انخفاض"    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صفحات من التاريخ المحلي (2)


نوافذ مفتوحة على ذاكرة أولاد ميمون
( الجزء الثاني)
إهداء
إلى” آية الجليلة” التي تجلس على ركبتي الآن، تزاحمني على لوحة المفاتيح، ثم تأبى إلا أن تجلس قرب الشاشة لتحجب الحروف والكلمات المرقونة، وبفعل هذا التزاحم الواعي وغير الواعي على هذه الذاكرة، قد يحصل التشويش على مسارات الكتابة، لكني أتحمل ذلك من أجلها،ومن أجل الصغيرة “بسملة ” التي لا يحلو لها النوم إلا قرب أفكاري؛ لِتَنَمْ ما شاءت، لكني متأكد أنها ستسعد وأختها بهذه الذاكرة،عندما تكبران ، إليهما وإلى من في جيلهما عندما يصبحون أجدادا وجَدَّاتٍ فيحتفلون بهذا الطائر الجميل الذي انطلق من عمق البحر، ليحط فجأة على النخلة الشامخة الواقفة قرب بابي داعيا إياي إلى الاستمتاع إليه وإلى تدوين ما يروي ، عندها يكون كل شيء فَِيَّ قد طواه النسيان، أو عجز عن ذكره اللسان، ويكون عبورنا تحت ظل شجرة الدنيا في خبر كان ، نسأل الله برحمته أن يبارك أعمالنا القليلة في الميزان ويجعلنا بها في ظلال الجِنان.
توضيح لا بد منه
هذا مشروع تدوين مفتوح للجميع، يسعى إلى حفظ ذاكرة أولاد ميمون، لِما يزخر به بحرها، وتخفيه معالمها، ولا يكشف عن ذلك إلا الغوص والمخاطرة والصبر والمكابرة، من أجل إتحاف أجيال اليوم والغد بمحصلات الذاكرة المعاندة التي لا تُستَجْمَع بسهولة، وما أشبهها بطائر جميل يقترب لنراه، وعندما نحاول الإمساك به يطير في كل مرة، ويقف بعيدا على الأسوار العالية نشوان بلهفتنا للقبض عليه، سنظفر به حتما إذا حاصرناه جميعا من كل الجهات ...
النافذة الأولى
أصل الميمونيين أقوام رحل، كما جرت بذلك عادات القبائل المغربية القديمة، ثم استقروا في منطقة أحسنوا اختيارها جغرافيا، على مستوى السهول والمناخ والانبساط والصلاحية للزراعة وتربية الماشية، وقد أثبتت الدراسات، كما أثبتت التجربة الحياتية أن أحسن مسافة للاستقرار من البحر هي سبع كيلومترات، تفاديا للمناخ البحري الرطب، وقوة الرياح، وصخب البحر عند الهيجان. كما تتميز المنطقة باعتدال مناخها، فلا تتأثر بالحرارة المفرطة التي تميز المناطق الجبلية والصحراوية، ولا بالبرد القارس الذي يميز المناطق الباردة بسبب تساقط الثلوج.
وهي منطقة عارية من أية حماية طبيعة، فلا تستجيب بذلك للحفاظ على أمنهم واستقرارهم، إذ الأكثر أمنا هو المناطق الجبلية العالية المحصنة تحصينا طبيعيا. غير أن الميمونيين لم تكن لهم تلك النزوعات التوسعية الكبيرة، ولم تكن لهم القوة الضخمة ولا العدد الكبير الذي يجعلهم يفكرون في ذلك . والراجح أن استقرارهم لم يتعد أربعة قرون بدليل أن الجد ميمون دفين المزار عاش في أواخر القرن العاشر الهجري، كما تشير إلى ذلك المادة التاريخية المعلقة في ضريحه. غير أن الميمونيين سواء الذين استقروا في الخْمَيِّسْ قرب القليعة أو في أولاد ميمون الحالية، ومنهم من استقر ببني ملال ويُسمون أولاد موسى، تمتعوا باحترام كبير بسبب نسبهم الشريف، وقيمهم وأخلاقهم، وشجاعتهم وكرمهم وذكائهم، وإذا انتبه القارئ إلى الوثيقة التي وُقِّعت بين المولى إسماعيل الذي بويع مباشرة بعد وفاة أخيه الرشيد سنة 1682م ، وبين أعيان قبيلة أيت عميرة بهشتوكة سيجد أسماء الميمونيين أسفلها، ومنهم سي حمد الميموني، وسي محمد بن علي الميموني... نظرا لمكانتهم وفِقههم وعلمهم، فكان لهم حضورهم المميز؛ وهذه الوثيقة التاريخية الهامة تُظهر ولاء هذه القبيلة للسلطان العلوي آنذاك المولى إسماعيل، ثم عطفه عليهم ببيعهم منطقة واسعة تمتد إلى “بنكمود”، وإلى “أيت عميرة”، ومن “علاَّل” إلى البحر الأطلسي، وهي تمكنهم من أن يحوزوا هذه الأراضي حيازة تامة، ويتصرفوا فيها بالحرث والحصاد، ويورثوها أبناءهم. غير أنه لم يتم تفعيل هذه الوثيقة ذات الأهمية الكبيرة لتسوية الوضع الحالي الذي عليه أراضي الجموع بهذه المنطقة.
نسخة من التعاقد الذي تم بين المولى إسماعيل العلوي وأعيان قبيلة اشتوكة
النافذة الثانية
يُروى أن مساكن أولاد ميمون القديمة، أو بعضها، كانت في الأماكن المسماة الآن بأحراش “سيدي علي الضاوي” في الهضبة المشرفة على القرية الحالية، وهو مكان مرتفع نسبيا ويشرف على ما حوله من أراضٍ، ولأن عدد الميمونيين كان وقتئذ قليلا، فيمكن أن نتصور أن عددا المساكن التي بنوها كان قليلا أيضا، ولم تكن مساكن ضخمة تصمد كثيرا، والأغلب فيها بنائها الحجر والتراب، ولذلك أسرع إليها الخراب، ويؤكد هذا كون أصول العائلات القديمة تملك قطعا أرضية صغيرة، مساحتها صغيرة لا تصلح إلا للسكن أو جعلها أحواشا للبهائم. وكانت لأصحاب هذا الدوار مخازن وهي عبارة عن مطامير للزروع في الصفائح الصخرية الموجودة مباشرة شمال المقبرة الحالية. وإذا كان أهل الجبال يصنعون مخازنهم على شكل بنايات عالية تسمى ” إكودار”، فإن الميمونيين وضعوا مخازنهم في جوف الأرض نظرا لطبيعة المنطقة.
وتذكر بعض الروايات الشفوية أن مكان استقرار بعض الميمونين الحاليين كان في المنطقة المسماة ب” المْغيليق” وهي تصغير ” مَغلَق”، وأن بعض البنايات الدالة على استقرارهم لازالت شاهدة هناك، ثم التحقوا بعد ذلك بأولاد ميمون، و تصاهروا مع أيت بنداود، وأصبحوا عائلة واحدة، لها امتدادات قوية في الوقت الحالي.
النافذة الثالثة
يُقال إن المقبرة القديمة لأولاد ميمون كانت في الموضع الحالي للمركب الثقافي للجمعية، وهو مكان ضريح سيدي “أبو الأنوار” الذي كانت تحج إليه أفواج المرضى وطالبي الشفاء إلى عهد قريب. قالوا إن أنوارا كانت تضرب فوق قبره، ولذلك بنوا فوقه ضريحا، وأصبح يتبرك به. وهذا لا يصح في الشريعة، وقد نهى النبي (ص) عن ذلك في عدد من الأحاديث، منها قوله:” اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعْبد”، وهو حديث صحيح تقوم به الحجة، والذي يطلبه الميت من الحي هو الترحم عليه والدعاء له ، لأن المرء إذا مات لا ينفع الحي مطلقا، بل هو المستفيد من الحي دفنا وترحما عليه. لقوله (ص):” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له” رواه مسلم.
وكانت الساحة قربه تمتلئ بدواب الزوار وعابري السبيل. غير أن المصلحة اليوم اقتضت تنقيل رفات الأموات التي وجدت بالمكان ودفنها بالمقبرة الحالية، والتي تحظى بعناية كبيرة من أهل البلدة ( الخرباويين والبريجيين على السواء)، وهو دليل إكرامهم لموتاهم، فهي مسورة بسور كبير، ومجهزة بجميع اللوازم من ماء ونور، وهو مما يجب أن يُعتز به، ويترحم به على الذين قاموا بهذا العمل الجبار.أقول هذا لأني رأيت بمناطق الصحراء والجبال مقابر يدوسها الناس بالأقدام، وتخترقها الطرقات من جميع الجهات، لغياب العناية بالأسوار رغم وجود الحجر الكثير، ولا خير في قوم لا يكرمون موتاهم.
والظاهر أن القرية القديمة، أو بعض مساكنها، تحولت شيئا فشيئا إلى المكان الذي فيه الدوار الآن، وبالأخص المحور حول المسجد الحالي حيث وجدت أغلب مساكن العائلات القديمة في الدوار، ومنها : عائلة سي حمد بازي الأول، وعائلة بنداود، ولحسن أوسعيد، وايت خماش، والعبوبيين وغيرهم، ولازالت آثار هذه الدور شاهدة إلى اليوم في الجنوب الغربي للمسجد الحالي.أما المسجد القديم فكان قبالة دار الشريقي إلى الشرق بينها وبين المركَّب الحالي. وكان مسجد القرية إلى وقت قريب مأوى عابري سبيل والمساكين، يأكلون ويشربون وينامون، وفي اليوم الموالي ينصرفون إلى مقاصدهم، وكان محمد بازي الجد من المحافظين على المسجد، والواقفين عليه، ساهرا على غرس أشجار التين والرمان التي كانت في ساحته الخلفية.
وكان للدوار بابان كبيران غربي قرب المركب الحالي للجمعية، وشرقي قرب دار أيت لحسن أوسعيد الكبيرة القديمة ( لم يبق منها شيء اليوم للأسف، لأنها كانت مثالا للدور الشامخة بمدخل الدوار القديم)، وأما جوانب الدوار فكانت محاطة بالجدران والأحراش والسِّدر اليابس والأشجار بحيث يتعذر اختراقها بسهولة.
النافذة الرابعة
عاش الميمونيون إلى وقت قريب في جو من التكافل الاجتماعي، عشنا بعضا من أجوائه واحتفالاته في طفولتنا إلى حدود أواخر السبعينيات من القرن الماضي. ومن ملامح العمل الجماعي ظاهرة “النوبة”، وهي من المناوبة والتناوب، وقد استمرت إلى أوائل السبعينيات، بحيث تُخرِج كل أسرة ما تملك من أبقار وعجول إلى ساحة الدوار، فتتجمع العشرات منها، ثم يتكفل واحد من الناس برعيها مجتمعة، وفي اليوم الموالي يقوم بالرعي شخص آخر، وهكذا دواليك. ولا زلت أذكر مشاهد قليلة من هذا. في المساء عندما تصل الأبقار ساحة” مرح الدوار”تجد مالكيها في انتظارها لسَوْقها إلى البيوت، وإلا فإنها تتجه مباشرة إلى محلاتها من تلقاء نفسها بحكم العادة.
كانت الحيوانات تقصد بيوت أصحابها دون أن يعترضها معترض، وقد كان والدي رحمة الله عليه يملك بغلة يقصد بها شاطئ تفنيت للصيد في الصباحات الباكرة، فيتركها ترعى في الغابة المجاورة إلى أن يغادر البحر، ثم يضع السمك في الخُرْج (الشواري)، ويوجهها إلى الدوار-إذا قرر المبيت إذ كان له مسكن هناك ولازال- على مسافة عشر كيلومترات، فتقصد البيت مباشرة، وتقف إلى جانب البئر،حيث ترتوي من العطش، تتفقد أمي الخُرج لتخرج منه السمك، وقد أكدت لي أن هذا حصل مرارا لما رأتني أستغرب أن يحدث هذا.
النافذة الخامسة
كان الناس يتعاونون على أعمال الحصاد والزرع، فيستعملون لحرث الأرض المحارث الخشبية والدواب، ويتم ذلك مباشرة بعد الحصاد، ويسمون هذا ” تَعْجَّاجْتْ” وأصلها من العَجاج والغبار الذي يثيره حرث الأرض الجافة، وعندما يسقط المطر ينبت الزرع. كما كانوا يتعاونون على الحصاد ويسمى ذلك “أدوال” وأصله من التداول، أي الانتقال من حقل إلى حقل بشكل جماعي، وكان الحَصَّاد صاحب الحمار غير مرغوب فيه، بسبب ما يُحدِثُه من إفساد الحقل، فقالوا:” حَصَّادْ بْحمارو شْهابْ بْنارو”، أي أن الحصَّاد القادم بحماره كأنه شُهب من نار، تأكل الحقل وتأكل قلب صاحبه، وربما يفكر في تحميل حماره بما يصيب من زروع، و ياله من تشبيه بليغ ومؤلم في الوقت نفسه لكل من فَكَّر في ركوب حماره إلى حقل غيره.
كان التكافل الاجتماعي قويا بين الناس، وكان التعاون حاصلا في البناء والزراعة وحفر الآبار، وإقامة الحفلات، والصدقات (صدقة جدي ميمون و”المعروف” مثلا) وحفلات الزواج والتسوق الجماعي، والدفاع والمراقبة .
وكان بالمسجد بيت لتسخين الماء فيه مسخنة تسمى” تفضنة” ، يزود الناس هذا المرفق بالحطب، بحيث يضعونه حزما أمام المسجد، توقد هذه المسخنة من الخارج، ليغتسل الرجال اغتسالا كاملا، وبالأخص في الأيام الباردة. كما كنا ننشف عليها الألواح بعد غسلها، خاصة في الأيام المطيرة.
وكانت في باحة المسجد شجرة تين كبيرة ، كنا نجلس تحتها في فترة الصبا لحفظ السور القصار من القرآن الكريم، تعلمنا الحروف على يد الفقيه، وكنا نُدَوِّن ما نحفظ على الألواح الخشبية، وبعد عرض ذلك وإجازة الفقيه، نستعين بورقة من أوراق شجرة التين الأسود لإزالة مداد الصمغ(السْمَاخْ)، ثم نتركها تجف لبعض الوقت إذا كان الجو مشمسا، لتُطْلى بعد ذلك بحجر الصلصال وهو يُعين على محوها بالماء ، لتُدون عليها آيات جديدة.
ظلت شجرة التين تلك واقفة بشموخ في ساحة المسجد، وفي نفسي إلى اليوم، رغم اقتلاعها لتجديد البناء، أو ربما جفت جذوعها كما جفت كثير من الأشياء الأخرى الجميلة بالقرية.كنا نظفر بما نضج من ثمرها لِماما، أما في مساء يوم موسم “سيدي بيبي” المعروف، فقد كان يُسمح لنا بالصعود فوق سطح المسجد استثناءً، فنصيب من الثمرات الناضجة التي كنا نتابعها بأعيننا الصغيرة بحسرة بالغة دون أن نستطيع إليها سبيلا.
وكان معروفا دفع بعض النقود القليلة أو البيض للفقيه يوم الأربعاء، ليتأتى له التسوق يوم الخميس، وإن كانت أعطياتنا هزيلة وبئيسة في معطم الأحيان، غير أننا كنا نردد من أجل القيام بذلك الواجب الأسبوعي:
بيضة بيضة لله باش نْقَرِّي لَوْحْتي
لوحتي عند الطالب والطالب فالجنة
والجنة محلولة حللها مولانا ...
أما طعام الفقيه فكان يُعد بالتناوب بين الأسر، إذ تُحَضِّر كل دار وجبة الغذاء والعشاء للفقيه، ومن معه من الطلبة الذين يقطنون بالمسجد لحفظ القرآن وتعلم الحديث والفقه.إضافة إلى الشرط السنوي الذي تقدمه جماعة السكان إلى الفقيه والمستنِد إلى دفتر تحملات رمزي بينهما. وكان المرشح للإمامة يخضع قبل التعاقد معه -مثلما هو معمول به اليوم في سائر المساجد- لامتحان شفوي ، وآخر عملي، حتى تثبت جدارته بالمنبر والمحراب.
النافذة السادسة
ذكر لي بعض الناس أنه كان قرب دار أيت لحسن أوسعيد القديمة فرن”أفارنو” تخبز فيه نسوة البلدة بالتناوب، وعليه عبد يقوم بإشعال النار، وإعداد الحطب.كما كان بدار جدي الحاج عمارة بالدوار فرن كبير يُفتَح يوم العيد فقط في وجه كل نساء الدوار، حيث يأتون بالعجين وبعض الحطب ، وتتكفل جدتي بإنضاج الخبز منذ الصباح الباكر إلى منتصف النهار.
أما الدور القديمة فكانت في غاية الشساعة والرحابة، وذات غرف جانبية مفتوحة على السماء ، تُبنى من التراب الأبيض (تافزا) اعتمادا على الألواح الخشبية( اللوح)،تبنى غرفة الضيوف” الدويرية ” في القسم الخارجي للدار، ويكون عبارة عن غرفة كبيرة، ذات نوافذ صغيرة في الأغلب، تفرش بالحصائر والزرابي التقليدية (الحنابل)، وتوضع فيه فروات وثيرة للخروف(الهواضر)، تهيأ للجلوس. قرب الباب يوضع مغسل تقليدي، ومقراج كبير من النحاس على “كانون” نحاسي رفيع الصنع ذي قوائم عالية، وإلى جانبه “الصينية” المجهزة بالكؤوس والبراد، وفي هذه الساحة بيت للوضوء.وتغرس شجرة واحدة أو اثنتين، إلى جانبها نبات الحبق ذي الرائحة الطيبة، ونبتة النعناع الذي يحلو معه إعداد الشاي .
أما الغرف الداخلية فتصطف- كما ذكرنا- إلى جانب السور، وهي عبارة عن غرف للجلوس والنوم ومطبخ تقليدي(أنوال) وحمامات، وكانت الغرف ذات طول ملحوظ، وعلو واضح وتُغَطى بخشب “الأركان”، وهي مواد تضمن الدفء في الفصول الباردة، والبرودة في الصيف. ويُبنى فوقها جدار متوسط للسترة يسمى (الستارة) بها ثقوب لأغراض دفاعية ،بحيث يتأتى الدفاع في حالة هجوم الأعداء دون أن يصاب المدافعون بأي أذى. ويخصص القسم الثالث من الدار القديمة لبناء المخازن ومرابط الدواب والمواشي، ولأن حاجة القرويين لخزن الحبوب والتبن لا جدال فيها فقد كانوا يهيئون لهذا الغرض غرفا ذات طول ملفت للانتباه بحيث تستوعب كميات كبيرة من المخزونات، إضافة إلى الأدوات الفلاحية والحطب وغيرها.وقد كان بيت جدي الحاج عمارة على سبيل التمثيل من الدور الكبيرة التي توافرت فيها هذه المواصفات .وكانت للدور القديمة أبواب كبيرة تصنع في الغالب من شجر الأركان المتين ، وهي أبواب واسعة وعالية، بحيث تسمح بمرور الدابة مُحَمَّلة، ودخول الحيوانات الضخمة مثل الجمال والخيل والبغال.
وقد شاهدت ببيت الحاج عمارة سواء في الدار القديمة بالدوار، وهي الموروثة عن الأجداد، أو في الدار الجديدة شرق الدوار كل هذه المرافق، إلى جانب مخزن للحطب ، والرحى التقليدية المنصوبة تحت” الرْحَل”، وهو عبارة عن سرير معلق عاليا توضع فيه أدوات الطبخ (الطواجين، والقصاع، والغرابيل...) و الطحين. وتستعمل الرحى في طحن الذرة، و الزروع، وغيرهما.
و تجد في الجدران أوتادا خشبية تعلق فيها الملابس والأدوات التي تستعمل بكثرة، أما الملابس الموسمية أو ملابس التجمل والاحتفال فتوضع في صناديق خشبية تفوح منها رائحة الكافور، أو البخور، أو غيرها من المطيبات، إلى جانب الحلي الفضية(من خلاخل ومشابيح ودمالج وخواتم) التي تُجمع للفتيات قبل زواجهن، ولذلك قالوا:”إلى عَنْدَك الأولاد بْني حَيْط لْعام ، وإلى عَنْدَك البنات شْري قَرشْ لعام”.يوضع هذا الصندوق في بيت نوم الأبوين إمعانا في مراقبته وإبعاده عن عبث العابثين، أو نزوات الطائشين. و تجد في هذا البيت الكبير خوابي للماء من الطين، تملأ في الصباح الباكر وبشكل يومي ، وتُغطى، والمرجل النحاسي المسود بالدخان (القمقم)ويصلح لتسخين الماء.
النافذة السابعة
وقد أدركنا في بداية السبعينيات كل أنواع الأشغال التقليدية، وانخرطنا فيها بحكم الحياة البدوية التي كانت، ولم يكن مجال للإفلات من هذه الأشغال من قبيل الرعي، والحرث بالمحراث الخشبي، والحصاد وجمع الغلات، والدَّرس بالدواب، وأذكر أني قمت بهذا العمل مرة واحدة اضطرارا عندما فَر أخي الأكبر من” الدرسة” تأففا وضجرا ، وترك ” الرْوا” يدور ويدرس وحده، وكانت تلك أواخر سنوات اليأس من البدواة وأدواتها، ودخول الأدوات الحديثة من جرارات وآلات درس، غير أن الحصاد ظل بالأيادي لمدة أخرى طويلة، وكنا نكلف ونحن صغار بجمع الحطب في الغابات والخلاء وإحضاره على الدواب إلى البيت، و ويُعد هذا من الواجبات اليومية إلى جانب ملء الخوابي بالماء، وسقي الدواب. وإذا امتلأ الحوش(الزريبة) بروث البهائم فلا مناص من إخراجه طيلة يوم أو يومين، وغالبا ما يتم ذلك في جو من النفور والتقاعس ثم الزجر والوعد أو الوعيد من طرف الأبوين أو الأخ الأكبر ، وهو ما ينعكس ذلك بشكل سلبي على الدواب إذ نَصب جام غضبنا في ضربها أو إفساد العمل تذمرا وعصيانا.
وكنا نكلف بإزالة التين من الأشجار ، ولأمر ما كانت كل البساتين مفتوحة في وجه العموم في سنوات السبعينيات بعد ترك الناس للبحاير، وذهاب بعضهم إلى فرنسا،أو يأسهم من هذا النوع من الفلاحة، فكنا ننتقل من حقل إلى حقل، ومن شجرة إلى أخرى لقطف الثمرات الناضجة، وكان هذا من الصدقات الجارية، ورحم الله الغَرَّاسين للكروم وأشجار التين والأحراش فقد أكلنا من أيديهم ، وتنعمنا بثمار جهودهم ، فرحمة الله عليهم بكل شجرة وكل ثمرة. غير أن الأشجار والأحراش آلت بفعل الجفاف أو الشيخوخة أو التدمير والإزالة إلى الموت.وكنا نشارك ونحن صغار في البناء بتقريب المواد أو نقلها ومساعدة البنائين بسقي الماء،وإعداد المواد الأولية،وإحضار الطعام، وتعلمنا البيع والشراء، ولما ضاقت عنا أشغال البر تم نقلنا للعمل بالبحر، والتدرب على المهنة الجديدة بمخاطراتها ، فيا لها من مدرسة هاته التي أسسها والدي وربانا فيها على الجانب المهني! كنا نأنف منه وننفر، غير أنه علمنا الاحتكاك بالحياة، وعلمنا كيف نعتمد على أنفسنا.
وللحديث بقية....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.