فى أحد معسكرات الأمن المركزي جلس عبد الجبار في ركن في حوش المعسكر وقد ارتسمت عليه علامات التعب كان أسمر اللون أقرب للدمامة ضخم الجثة كان يعيش الآن أهملحظات حياته .. اللحظة التي اكتشف فيها أخيرا أن بإمكانه أن يكون مهما.. تنشر الجرائد صوره فى صفحتها الأولى وهو يوسع المتظاهرين ضربا ولكنه لم يصل إلى هذا النجاح إلا بشق الأنفس .. يستندالعسكري بظهره إلى الجدار ويجول بعينيه في السماء، أما ذاكرته فتسافر إلى قريته في إحدى محافظات الوجه القبلي منذ خمسة عشر عاما حينما كان في الثالثة عشر من عمره. يرى نفسه سعيدا ويضحك بينما يجرى في الحقول مع أقرانه كانت بلدته جميلة للغاية الجبل خلفها والنيل أمامها وأهلها طيبون وبسطاء إلا أنه لم يدرك أبدا كنه الشيء الذي كان يدفعهم إلى تقديس القهر ففي العهود التي لم يحكمهم فيها عمدة ظالم كانوا يظلمون هم أنفسهم وتنتشر جرائم القتل ثم الثأر للقتل بالقتل، حتى أنه كان دائما يعتقد أن أهل قريته يعشقون الحزن ويحبون خنّاقهم تماما مثل القطط. يقطع عليه حبل أفكاره صوت زميله عيد وهو ينادى عليه لأن عبد القوى باشا يريده، يقف العسكري وفى عينيه مزيج من الذل والغضب المكتوم ويهتف في سره: - عايز إيه تانى؟ يا ترى هيضربنى بإيه المرة دى؟ ويسير العسكري متثاقلا حتى يصل إلى باب غرفة الباشا مدير المعسكر وعلى الباب يقف العسكري الآخر وفى عينيه الخوف والتقدير للقادم ويفتح له الباب قائلا في إعزاز: - اتفضل يا عسكري الدرك ويدخل عسكري الدرك إلى مكتب عبد القوى الذي لا يرحم ولا يترك رحمة الله تنزل على عباده ويغلق الباب خلفه وهو لا يعلم أن ثمة باب من الجحيم قد انفتح على البلد ولن يستطيع هو ولا غيره أن يغلقه.. ويقف عبد الجبار مرتعدا أمام الباشا بينما تسافر ذاكرته إلى 1990 فى قريته الصغيرة بالصعيد كان والد عبد الجبار جالسا في حقله ممسكا بناي يعزف عليه لحنا شجيا ، وكان عبد الجبار صبيا يلهو مع أقرانه بعد أن فرغ من تناول الغذاء مع والده، بينما أتى من الجانب الآخر رهط من الرجال قاصدين "مظلوم" الذى لم يعرف أبدا لماذا سمته أمه بهذا الاسم ، وكان مظلوم كالقبلة التي يقصدها كل محتاج وذو مظلمة في البلد، ولم لا وهو المناضل القديم الذي عاش شبابه المبكر مقربا من نجيب سرور وشهدي عطية ورؤساء الحركة الشيوعية في مصر في فترة الستينات. وينادى عليه أكبرهم سنا: - السلام عليكم يا أبو عبد الجبار - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. اتفضلوا يا رجالة وجلس الرجال ليبثوا مظلوم شكواهم من العمدة المفترى الذي يأتمر بأمر مأمور المركز وباشاوات مصر واستمع لهم باهتمام وعلامات الأسى تملا وجهه الأسمر.. ثم قال: - أنا قلت ميت مرة لابد نسيب خناق بعض شويه ونمسك في خناق الظلمة وناخد تارنا منهم لكن محدش سمع كلامي وهنا هتف أحد الرجال: - خناق مين يا مظلوم ؟ إحنا قدهم - لو نظمنا نفسنا وحددنا مطالبنا واحد اثنين تلاته هنكون قدهم ونص، دلوقتى الأرض بتاعة قناوي وعبد الرحمن هياخدوها وتدخل كردون مباني لأن الباشا اللواء عايز يعمل فوقها مدرسة وإحنا عارفين انه بعد ما طلع معاش عايز يدخل الانتخابات بتاعة مجلس الشعب وعايز يبنى المدرسة على أرض مش بتاعته بفلوس حرام أخدها من الرشاوى.. يعنى من دقنه وافتل له.. لازم كلنا نتحد ونواجهه هو عنده خمسين فدان في بلدنا لو عايز يعمل مدرسه يعملها على أرضه .. - أنت في دماغك حاجه يا مظلوم ؟ - أيوه يا عم محمدين أنا عندي خطة.. اسمعوا يا جماعه ويشرح مظلوم خطته لمواجهة مخطط الضابط وعصابته والرجال يستمعون في اهتمام ويحدث محمدين نفسه قائلا: - يا سلام على كلامك يا مظلوم طول عمرك حديتك مزوج ومترتب بتعرف تتكلم بجد"... ومن بعيد كان عبد الجبار يلهو مع أقرانه وينافسهم في العوم ويسبقهم وخلفه رفيقيه "الزعيم" و "ورداني" وهما يتندران على جسد عبده اللي زى الطور ومن لسانه الذي لا يستخدمه ربع ما يستخدم ايديه المرزبات.. ويضحك الزعيم قائلا " هو بيعرف يتكلم أصلا؟".... فيرد ورداني: - على رأيك رغم إن أبوه كلامنجى ميه ميه!!!!!! وجد عبد الجبار نفسه في مواجهة "عبد القوى" باشا لأول مرة منذ ضربه بالقلم على وجهه يخمد عبد الجبار سيف جبروته فكل مفترى له مفترى أقوى يلمه، يقول عبد القوى بدون أن ينظر تجاهه: - الجرائد المعارضة كلها كاتبة عن عسكري في الأمن المركزي يشيع الرعب فى الشارع وناشره صورك نقلا عن النيويورك تايمز واعترافات فى رسائل تدين أجهزة الأمن في تلفيق قضايا وتزوير وهتك عرض.. احم احم.. الحقيقة إن فيها حاجات تم ارتكابها في معسكرنا هنا.. قصدي يعنى.. بيدعوا إنها حصلت هنا.. ويلوح شبح ابتسامة تشفى على وجه عبد الجبار ثم يتدارك الأمر بسرعة وينظر في عيني عبد القوى باشا ويهز كتفيه وكأنه لا يعلم.. فيقول الباشا في غضب عارم: - الرسائل دى موقعة باسمك؟ - عبد الجبار مظلوم يا فندم؟.. – لا التانى.. اسم الشهرة، اللقب بتاعك عسكري الدرك.. يرتجف عبد الجبار متهتها : - العساكر ك.. كتير يا باشا وبعدين أنا مم مم مقدرش اعمل حاجة زى كده يا فندم وهنا هب عبد القوى واقفا ودار حول عبد الجبار الذي تحول لونه الأسود الى صفار يميل إلى الزرقة وكأنه جثه واقفة على قدمين.. وهمس مهددا : - لو تأكدنا انه أنت مش هنرحمك ثم يضربه على قفاه أنت عارف هنعمل فيك إيه وهنوديك فين يا ابن ال..... وانهالت الاهانات والركلات واللكمات على عبد الجبار وهولا يجد على لسانه إلا كلمات متلعثمة - مش أنا يا باشا .. مش أنا يا فندم وبعد أن تعب عبد القوى من الضرب طرد عبد الجبار من مكتبه..ثم استدعى عسكري آخر وطلب منه مراقبة عبد الجبار سكناته وحركاته وموافاته بتقارير عما يلاحظه أما عبد الجبار فقد انتابته رعشه في جسده كله وشعر بدقات قلبه تتزايد وبجسده يبرد فاندفع بكامل قوته إلى مطبخ المعسكر وضرب الطباخ ثم فتح الثلاجة والتهم معظم ما كان فيها مما أثار خوف وذهول الطباخ.. وبعد أن امتلأت معدة عبد الجبار بدأ رعبه يزول تدريجيا ليبقى بداخله مرارة الذل وعار الإهانة.. وكان بداخله يعرف أنه لن يقدر على مواجهة عبد القوى ولو فعل لكان هو الخاسر الوحيد فهو مجرد عسكري حقير..كما أنه يفك الخط بالعافية فكيف يكتب تقارير ويرسلها إلى صحف أجنبية صحيح أنه يشعر بالفخر وهو يرى صورته تزين الجرائد بالرغم من أنه لا يفهم الكلام المكتوب تحتها إلا أنه لا يملك الجرأة ليراسل جريدة أو مجلة بل إنه أصلا لم يكتب خطابا فى حياته..شعر بالذل وبالغضب وقلة الحيلة وفجأة تذكر انتصار الفتاة الجميلة ابنة المستشار التي تم اختطافها من مظاهره في وسط البلد واحتجازها في المعسكر والتي اعتاد الرائد علاء ضابط أمن الدولة الذى يأتى للتحقيق مع المحتجزين التحرش بها وعندما كان عبد الجبار يحاول مغازلتها كانت تبصق في وجهه.. اقتحم عبد الجبار الغرفة التي يحتجزونها فيها وكعادته لم يتحدث بل استخدم يده وسلاحه بعد أن حشا فمها بمنديله حتى لا تصرخ.. فى أحد أيام يوليو وداخل شقة سكنية بأحد الأبراج بحى فيصل اجتمع عدد من ضباط الجيش والشرطة، يبدو على وجوههم الغضب والإحباط، وبدا على وجه أكثر من واحد منهم ميلا للزعامة وإعجابا شديد بالنفس، يبدو انه اجتماع هام للغاية وبدأ الحديث رائد الجيش ناجى الذى يبدو أنه زعيمهم : - لقد جمعتكم اليوم بعد أن تأكدت أنكم من أفضل عناصر الجيش والشرطة وبعد أن قام كل منكم بإثبات انتمائه للوطن، ولقد رأيت فيكم النقمة على الأوضاع التي آلت إليها مصر في العهد الحالي من فساد ورشوة ومحسوبية وغلاء، لقد رأيتم كيف قامت الحكومة منذ أيام برفع أسعار البنزين والسولار وكيف ارتفعت أسعار تذاكر المترو يرد عصام نقيب فى الأمن المركزى: - هو المترو بس؟ المترو والميكروباص والتاكسيات والعيش بس احنا ايه دخلنا بده انا عن نفسى عربية الشغل بتودينى وتجيبنى أدخل فى المفيد يا ناجى بيه يرمقه ناجى بحده قائلا: - وفي الوقت الذي تشن فيه إسرائيل حربا فيه على فلسطين ولبنان وقد نجحت بالأمس في التوغل في الجنوب اللبناني، سكت نظامنا الجبان واكتفى بإدانة نصر الله لقد التحقت بالحربية لأحارب في سبيل وطني ورفعته، ولكنني اشعر الآن أننى وزملائي في الجيش المصري قد أصبحنا كما مهملا نأخذ مرتباتنا لقاء التمرينات التي نقوم بها ونظل قابعين في الثكنات والخنادق الى أن تظهر أى بادرة تحرك من الشعب أو حتى من فئة من فئاته يخرجونا لقمعهم يقول علاء "رائد شرطة": - زى اللى حصل من جنود الأمن المركزي في الثمانينيات يجيبه ناجى: - أيوه ووقتها بس يمارس الجيش وظيفته التي أرادها المستبد.. ينزل الشارع ويقمع أى انتفاضة للشعب ثم يعود إلى ثكناته ويرد عصام" نقيب أمن مركزي" : - مش الجيش لوحده ، شوف الأمن المركزي بقت وظيفته محاربة المتظاهرين وقمعهم بقينا قطاع طرق وهاتكي أعراض عمرى ما هانسى اللى حصل في المظاهرة التي تمت في وسط البلد بعد نتائج انتخابات الرئاسة بقليل ده انا شفتهم بيسحلوا أعضاء حركة كفاية في الشوارع شفت عسكرى بيتحرش بست في عمر أمي .. ويصمت لحظة يختلس خلالها النظر الى علاء ثم يقول: - تخيلوا ان واحد من ضباط أمن الدولة أمرني بجلب إحدى المتظاهرات إلى مكتبه لأنها عجبته وعندما رفضت بص لى بصة عمرى ما هانساها وفضلت بعدها بعشر شهور أعانى من شروره ومضايقاته لغاية ما اتنقلت الصعيد. يا زملائي الأعزاء أنا مش بأدعى أنى ملاك ده حتى المنصب ياما خدعنى وغرتنى البدلة الميرى وكنت مغرور لغاية ما اكتشفت أن الجهاز الامنى في مصر ليس قمعيا فقط ضد المعارضة لكنه جهاز يقمع بعضه بعضا. يأخذ ناجى نفسا عميقا ثم يستطرد - اخوانى لقد طفح الكيل واستبد الغضب واليأس بالجميع وما نحن إلا نبته من تراب هذا الوطن و.....واصل ناجى خطبته المؤثرة بينما جلس "عبد الجبار" في احد الأركان وعلى وجهه ابتسامة ، لقد كان يعلم في قرارة نفسه أن ناجى صادق تماما فيما يقوله وأنه مؤمن بكل حرف يردده ولكن من الذين التفوا حوله؟ هذا الرائد علاء صاحب الشقة التي يعقد فيها الضباط اجتماعهم، ضابط الشرطة الذي هتك عرض انتصار في معسكر الأمن المركزي حيث كانوا يحتجزونها. أليس هو الذئب الذي ألهم عبد الجبار باغتصابها ؟ هل استيقظ ضميره فجأة؟ أم انه يسعى لطموح أكبر من خلال الحركة الجديدة؟ قطع علاء حبل أفكاره مناديا: - اعمل لنا شاي يا عبد الجبار أسرع عبد الجبار الى المطبخ وهو يتعجب من محمود بك بتاع البنات الذى دخل الهوجة بعد ما اتصاحب على بنت من حركة كفاية اسمها ولاء البنت ملهاش في الوطنية ولا التغيير هي بس دخلت الحركة عشان تجيب عريس ولأن كل شباب كفاية هارشينها محدش بصلها غير الضابط الخايب اللى اسمه محمود واللى بقى بيزايد على بتوع كفاية عشان يعجب المزه. ولا عصام نقيب الأمن المركزي هو كويس وجدع وايده فرطه بيدينى كل ما يقابلني لكن أنا مش فاهم ازاى واحد قزعه زيه ولابس نظارة قعر كباية يبقى ضابط ولا يدخل الشرطة أساسا، الحكاية وما فيها إن أبوه لوا وطبعا لو ابن اللوا ميبقاش ظابط البلد هتخرب. وراح يتذكر عبد الجبار كيف تمت مجازاته وضربه لمجرد اشتباه القيادات انه أرسل بملفات تحوى تجاوزات الشرطة الى صحف المعارضة، بينما لم تتحرك تلك القيادات بعد أن ضبطه رائد علاء في غرفة الاحتجاز مع انتصار بعد أن كان قد فرغ من اغتصابها للتو وكل ما حدث هو أن علاء بيه تفاجأ ثم ضحك قائلا لزميله: اشمعنى هو أهو طباخ السم بيدوقه وبعدها كلما كان يحلو لعلاء بيه أن يفترس انتصار كان يصحب معه عبد الجبار ليسجل بالكاميرا تلك اللحظات وكان علاء بيه يبرر تصرفه دائما بأن هذه الصور ستبقى المزه تحت التصرف حتى بعد خروجها من المعتقل. وسأل عبد الجبار نفسه : هما دول اللى هيحرروا البلد م الفساد ؟؟صحيح أنا كمان مجرم زيهم ومسمى نفسي عسكري الدرك رغم انى عارف إن أنا حراميها لكن مش بادعى انى اسمه إيه ده المنتظر اللي هينضف الكون.. ويصب عبد الجبار الشاي في الأكواب ويتجه إلى غرفة الجلوس ليجد الضباط قد انتقلوا برابطة المعلم إلى مائدة الطعام الخالية إلا من مصحف في منتصفها ويسمع صوت الرائد ناجى: - لنتعاهد سويا على مبادئ الحق والخير والمساواة من أجل الله والوطن، لنتعاهد على الكتمان والسرية حتى تقوى جماعتنا ويشتد عودها ويأتي وقت النضال.. لنضع أيدينا على المصحف ونتعهد بالإخلاص لجماعتنا الإصلاحية.. ضباط من أجل التغيير.. وترتعد الصينية في يد عبد الجبار ويدخل في روعه أن شيئا كبيرا سيحدث ولكنه لم يتوقع خيرا.. خرجت انتصار من الاحتجاز فى أحد معسكرات الأمن المركزى إلى لاظوغلى حيث بقيت ثلاثة أيام أسود من ليالى الشتاء ثم أطلقوا سراحها ، أخذوها فى نفس السيارة التى اختطفت فيها ثم ألقوا بها إلى قارعة الطريق وكان الوقت متأخرا للغاية ولم تدر أين تذهب هل تذهب لأمها ؟ ترى كيف تحملت أيام الغياب وما الذى حدث لها؟ ترى هل علم والدها بغيابها وارتعدت لمجرد احتمال ان يكون علم بغيابها تلك الأيام السبعة. نظرت انتصار الى السماء ثم اختنقت بالدموع وفتحت حقيبة يدها التى تقطعت فى أيديهم أثناء التفتيش وبالطبع لم تجد النقود لكنها وجدت مفاتيحها وكان بينها مفتاح شقة خالها والتى كانت تذهب اليها كلما أحست بالقهر ولأن الوقت كان قد تجاوز منتصف الليل رأت انتصار أن لامكان لديها إلا تلك الشقة وذهبت متجاوزة مضايقات أطفال الشوارع وراكبى السيارات الفارهة ونظرات البواب وشهقات زوجته عندما رأوها وقد تمزقت ملابسها وازرق وجهها وما ظهر من جسدها وطار حجابها من فوق رأسها وظهر شعرها أشعث ومتمزق مثل روحها وجسدها وفتحت باب الشقة ثم دخلت وصفقت الباب خلفها. وخلف الباب افترشت الأرض ونامت عشرساعات متواصلة واستيقظت لتجبر نفسها على النوم مرة أخرى وعندما استيقظت بعد خمس ساعات اتجهت بجسد مثقل إلى أقرب مرآه لتشيح بوجهها على الفور والدموع فى عينيها كانت تلك أول مرة ترى فيها وجهها منذ أيام ولم تره فى حياتها بهذا القبح وكأنها ترى فى كل كدمة تفاصيل العذاب الذى لاقته والأهوال التى رأتها ، كأنها تسمع من جديد كل سبة وكل كلمة جارحة ، كانها تشعر من جديد بكل الأنياب والأظافر التى نشبوها فى جسدها المستباح. لقد نسيت شعور الخجل بعد أن مزقوا حجابها فى سيارة الشرطة قبل وصولها الى مقر الاحتجاز ولكنها تتذكر جيدا الهلع والرعب وجسدها يتعرى بين أغراب .. مازال البرد يلسعها فيصيب جسدها بالرعشة ويسلمها لحالة لا نهائية من الغثيان والدوار والضياع. لم يستجوبها أحد ولم يوجه لها اتهام ولم يحاولوا انتزاع اى اعتراف منها فقد حاكموها واتهموها وما كان الخطف إلا لتنفيذ الحكم الذى أصدره هؤلاء الذئاب .. لو أنهم فقط حققوا معها لكان عذابها قد هان ولكانت بررت لنفسها ما تحملته بأنه ثمن لرأيها وحريتها .. لطالما سألت نفسها قبل اختطافها هل ما تفعله حبا للوطن أم سعيا وراء الشهرة أم تحد غير مباشر لقهر والدها لها ؟ أما بعد اختطافها كان هناك شعور واحد ترسب بداخلها وهو أنها كانت تستعرض جسدها فى ميدان المظاهرات حتى أعجبتهم وأن ما فعلوه لم يكن إلا تجاوبا مع رغبتها المدفونة وردا على رسالتها غير المعلنة وأما المرآه وقفت تسأل نفسها: - معقول؟ معقول أكون رخيصة كده؟ مش ممكن بس لو انا مش رخيصة ولو انا خطر فعلا على أمن الدولة ولو أنا مناضلة حقيقية مش كانوا حتى استجوبونى على الأقل؟ كادت انتصار أن تفقد عقلها واتجهت إلى الغرفة الصغيرة والتى كانت تبيت فيها وخالها على قيد الحياة والتقطت بذلة محتشمة كانت قد اشترتها بعد ارتدائها للحجاب – والحقيقة أن ملابسها كانت غالبا محتشمة أو تميل إلى الاحتشام حتى قبل الحجاب- ولكن البذلة نظيفة أما هى فلم تعد كذلك .. ترى أى ماء ذلك الذى سيطهر كل هذا الرجز؟ إنها تحتاج أن تغتسل فى الجحيم لعلها تتطهر وارتدت البذلة بدون استحمام وتناولت غطاء للرأس ووضعته بلا عناية فوق شعرها وغادرت..