توجهت يوم أمس الخميس 29 يناير مجموعة من المناضلين والمقاومين إلى مقبرة شهداء سلاوالرباط للترحم على الأرواح الطاهرة لشهداء 29 يناير 1944 كما سيتوجه مجموعة من المناضلين والوطنيين والمقاومين في مدينة فاس إلى مقبرة الشهداء للترحم على شهداء 31 يناير 44 وهي التفاتة سنها المجاهدون رفقاء أولئك الشهداء منذ عقود، وتزامن هذا العمل التذكاري والوفاء لأولئك الشهداء مع ما يعيشه المجاهدون في غزة حيث سقط الشهداء بالمآت. وحديث الجمعة في هذه الحلقة يرصد ما بين الحديثين من شبه من حيث التضحيات والاستشهاد مع قلة الوسائل وغطرسة الاستعمار في كلا لموقفين وكذا ما افرزه العمل البطولي من المواخاة والتكافل الاجتماعي وإذا كان النصر والتحرر هو مآل نضال المغاربة فإن وعد الله بالنصر الذي تحقق لهم سيتحقق عما قريب لإخوانهم في فلسطين وعد الله ولن يخلف الله وعده. تظللنا هذه الأيام ذكريات غالية على الشعب المغربي لأنها تؤرخ لمرحلة تاريخية مهمة من تاريخ النضال الذي خاضه هذا الشعب من أجل التحرر والإنعتاق ففي 11 يناير 1944 أي منذ خمس وستين سنة تقدمت طليعة الشعب المغربي ممثلة في المناضلين في صفوف كثلة العمل الوطني ثم الحزب الوطني خطوة كبرى إلى الأمام بقطع الصلة مع أفكار الدعوة إلى الإصلاح في ظل نظام الحماية والدعوة إلى إلغاء نظام الحماية وإعلان الاستقلال، ولم تقبل إدارة الحماية الاستعمارية هذه الوثبة وهذه الروح الجديدة التي انطلقت من خلال ما تضمنته الوثيقة من نقد لنظام الحماية، وما استنتجته من ضرورة إلغاء هذا النظام وإحلال نظام الاستقلال التام محله، وبناء الحكم الوطني على أسس الشورى والديمقراطية. إن هذه الوثيقة التي وضعت وقدمت إلى جلالة الملك محمد الخامس طيب الله ثراه وإلى الجهات المعنية في هذا الشهر اعتاد الناس أن يتحدثوا عنها وحولها بأنها طالبت بالاستقلال والوحدة والديمقراطية ولكن لا يتحدثون عما تضمنته من نقد لنظام الحماية وفشله طيلة ما يزيد عن ثلاثين سنة من الحكم المباشر من انجاز ما التزمت به الدولة الحامية من إصلاحات في مجال الأمن والعدل والاقتصاد وغيرها فبقدر ما كانت الوثيقة مؤسسة لفكرة الاستقلال وللنضال من أجل هذا الاستقلال المنشود، اهتمت الوثيقة كذلك بإبراز ضمن حيثياتها فشل الحماية في المجالات التي كانت المبرر الذي اعتمدت عليه فرنسا عام 1912م والدول التي أيدتها لفرض حمايتها على المغرب، ولذلك كانت الإدارة الاستعمارية تتحين الفرص طيلة عشرين يوما التي تلت تقديم الوثيقة لتفتك بالمناضلين الذين تقدموا بهذه العريضة وببقية المناضلين والمواطنين الذين أيدوا هذه الوثيقة وألحوا على الاستجابة الفورية والكاملة لها، وهكذا كان الاعتقال الذي طال زعماء الحركة الاستقلالية مما دفع بالمناضلين والمواطنين للقيام برد الفعل والاصطدام مع القوة الاستعمارية الغاشمة في يوم 29 يناير 1944 في مدينتي الرباطوسلا و أدى إلى استشهاد الكثير من المناضلين وجرح الكثير واعتقال الآخرين وانطلقت الاحتجاجات في فاس كذلك وبلغت ذروتها في يوم 31 يناير 1944 حيث سقط عدد كبير من الشهداء واعتقل الكثيرون وجرح آخرون ولكن المعارك والمظاهرات استمرت إلى منتصف شهر فبراير من نفس السنة. ووفاء لهؤلاء الشهداء ولهذه المرحلة النضالية يقوم المناضلون في هذه لأيام بالترحم على أرواح أولئك الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن الكرامة والعزة وفي سبيل استقلال البلاد ووحدتها. بين أحداث يناير 44 وأحداث غزة 2009 ويتزامن إحياء هذه الذكرى هذه السنة والمعركة الضارية على أشدها بين المقاومين والمجاهدين في فلسطين أمام الهجوم العدواني الذي قامت به الدولة الصهيونية على غزة واستمر ثلاثة أسابيع وهي قريبة من المدة الزمانية التي استغرقها الاحتلال الفرنسي في هجومه واستباحته لمدينة فاس ومقدساتها تجاوزا لكل الأعراف والقوانين التي تربط المغرب بفرنسا وفي مقدمتها معاهدة الحماية. ويطرح ما جرى ويجري في غزة اليوم أسئلة وانتقادات كانت تطرح كذلك في ذلك العهد من طرف أناس محبطين ومنهزمين روحيا ومعنويا قبل ان ينهزموا عسكريا وماديا، لقد لاحظنا في هذه الأيام أثناء استعراض الصهاينة لقوتهم وتفننهم في الأساليب الهمجية التي يضربون فيها المساجد والمدارس ويهدمون البيوت على سكانها وجدنا من المسؤولين ومن المثقفين العرب أو على الأصح المحسوبين على المثقفين أو النخبة ولكنهم في الواقع يتحدثون باسم الأنظمة المنهزمة والمستسلمة فينتقدون «حماس» والمقاومة الفلسطينية بصفة عامة بأن القوة غير متكافئة وان الجيش المعتدي يتوفر على الوسائل لا يتوفر عليها المقاومون الفلسطينيون بل ان هناك من تجاوز الانتقاد إلى الشماتة بما حصل بل ان هناك من تباكي على مصير القضية الفلسطينية التي تسعى المقاومة لضياعها لأنها تقاوم ولا تلتحق بركب التطبيع والاستسلام وينسى هؤلاء ان جميع المعارك التي خاضتها المقاومة في كل حروبها في العالم من أجل التحرر لم تكن في أي وقت من الأوقات متكافئة. ان المرء وهو يقرأ ما يكتبه هؤلاء يتساءل هل هؤلاء بالفعل هم الذين يحملون تلك الألقاب العلمية أو المهنية؟ لأن ابسط ما يعرفه كل من له إلمام بقضايا الكفاح ضد المستعمر، ان وسائل المقاومة تكون دائما ضعيفة بالنسبة للمحتل فإذا رجعنا إلى المقاومة المغربية ودققنا في بدايتها وكيف انطلقت وما هي وسائلها وجدناها بسيطة للغاية بل ان بعض الكتاب في مصر الذين ينعون على المقاومة الفلسطينية ضعف إمكانياتها أمام الصهاينة ومن تم ضرورة الاستسلام للأمر الواقع تظل قنواتهم الفضائية تقدم لنا مسلسلات وأفلاما عن ثورة 1919 م والوسائل البسيطة التي كانت لديها في مواجهة جبروت القوة الاستعمارية الانجليزية، وكذلك الدور الذي قام به الفدائيون المصريون في الخمسينيات من القرن الماضي في قناة السويس ضد الانجليز، ناهيك على البدايات الأولى للمقاومة الجزائرية والتونسية وغير هذه من أشكال المقاومة التي انطلقت في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وغيرها فلم يعرف تاريخيا ان مقاومة قاومت المستعمر والمحتل وكانت لديها قوة وقدرة عسكرية تكافئ او تتجاوز ما يتوفر عليه المحتل من قوة وإمكانيات. بين القوة المادية والروح المعنوية ان الذي يقوم مقاوم اختلال ميزان القوة في هذا الباب هو مدى إيمان الحركة التحريرية بعدالة القضية التي تدافع عنها وتعمل من أجل نصرتها. لقد قال عمر بن الخطاب ذات يوم نحن لا نقاتل بالكثرة ولا بالعدة ولكن نقاتل بالإيمان. و ورد كذلك ان خالد ابن الوليد سمع احد الصحابة في معركة بالشام يقول (ما أكثر جيش الروم؟ وقال له خالد قل ما أقل جيش الروم؟ فنحن لا نقاتل بالكثرة ولكن نقاتل بالإيمان)، هذا الإيمان هو إرادة القتال والرغبة في النصر أو الاستشهاد، وهذا بالفعل ما كان يبني عليه المجاهدون والمقاومون والفدائيون إستراتيجيتهم الحربية في مقاومة العدو. وليس معنى هذا أنهم لا يفكرون في نسج الخطط وبناء إستراتيجية في مواجهة إستراتيجية العدو، وليس معناه عدم السعي لتوفير القوة المادية لمواجهة قوة العدو، ولكن معنى ذلك ان القوة المادية في مثل هذه المعارك ليست هي الحاسمة، فالمقاومون مدافعون عن أرضهم وعن عقيدتهم وعن أمتهم، ولذلك لا يمكنهم إبقاء العدو في راحة ولو لحظة مهما كان الظرف ومهما كان ميزان القوة مختلا تلك أمور من بديهيات حروب المقاومة منذ بدء التاريخ والى الآن. ان بعض الناس في الواقع لا تغيب عنهم هذه الحقائق فهم يستعملونها عندما تروقهم بعض الجهات وبعض الأطراف والمعسكرات ولكنهم ينسونها او يتناسونها عندما يريدون ذلك فهي مبنية على مقولة (ولكن عين السخط تبدي المساويا.) لقد كتب بعض الناس كلاما ما كان يتصور ان يصدر عنهم وهم الذين ينظرون للثورة والفكر الثوري التحرري عندما يأتي من جهة يرضونها ويرضون عنها أو عندما تكون الجهة التي تنتمي إليها الوسائط الإعلامية راضية ولكن عندما لا ترضى فالأمر له وجهة أخرى هو وجهة استحضار العواقب مع ان الأمر بالنسبة للمقاومة يقتضي ما قاله الشاعر: إذا لم يكن الاركوب الأسنة مركبا فما على المضطر الا ركوبها.. وكذلك كان بالنسبة للمناضلين والمجاهدين في غزة فقد فرض عليهم ركوب الأسنة وركوب مركب المقاومة، لان الحصار الذي طالهم لمدة عام ونصف والحرمان من كل شيء ومن ابسط مقومات الحياة لم يترك لهم منفذا يخرجون منه أو طريقا يسلكونه لفك الحصار إلا المقاومة. وكذلك كان الأمر بالنسبة للمناضلين في مدينة غزة بالوسائل الممكنة واهم ما يجمع بين المدينتين في المقاومة بساطة ما بيد المناضلين وشدة تنكيل المستعمر المحتل وقد برز في كلا الحالتين التكافل الاجتماعي في أبهى واصدق صوره وإذا كنا قد تتبعنا من خلال القنوات الفضائية وغيرها ما جرى في غزة فلنسمع احد شهود عيان يحدثنا عن فاس في ذلك التاريخ 31 يناير 1944 يقول المرحوم العلامة عبد الرحمان ربيحة: »في ظلال الليل وسكون الحركة تسرب الجيش لاحتلال المدينة وتطويق القرويين ليمنع على المتظاهرين دخولها أو الاقتراب منها. واستعد للمواجهة بحفر الخنادق في »حي الشماعين« و »سماط العدول«. وبلغت أخبار تحركات الجيش في وقتها إلى قيادة الحزب وبات من المؤكد وقوع الاصطدام بين جيش الاحتلال والمجاهدين من رجال حزب الاستقلال، وأعطيت الأوامر للدباغين في تلك الليلة بقيادة سيدي العربي الإدريسي بأن يتسللوا من »دار الدبغ شوارة« واحدا بعد واحد جاعلين بذلك حاجزا بين صفي الجنود المدججين بالسلاح ثم يهجم كل واحد من خرازين وغيرهم من بقية الشعب للقيام بنفس الدور في نفس الوقت، لكن الأطفال والنساء سبقوا الإحداث فهاجموا الجند في »حي المشاطين« بالحجارة فرد الجند عليهم بإطلاق النار. فهاج الشعب وتعالى الصياح وتقدم المجاهدون من حزب الاستقلال إلى المعمعة بالتكبير والتهليل. وفي »حي الشماعين« هاجم الحسن العلوي الجنود وأمطرهم بوابل من الحجارة وتمكن احدهم من إطلاق النار عليه فسقط رحمه الله في ساحة الشرف والمجد يجود بنفسه. وودع كأول شهيد في هذه الحياة معركة الاستقلال عزيزا، كما عاش فيها مناضلا شريفا، وتمكن الشهيد العربي الكغاط بوسائله من الصعود إلى برج القرويين وصار يمطر من أعلاه الجنود بالحجارة فصوب إليه أحدهم بندقيته فكان ثاني شهيد في المعركة وتوالت الاصطدامات وسقط الشهداء في ساحة الشرف أمثال سيدي عبد العزيز بوطالب والعربي كعيوط ومحمد بناني وعبد العلي الصقلي وغيرهم وكنت صحبة ابن العربي الاسفي وسط المتظاهرين نلهبهم حماسا وتوقدا، مؤبنين الشهداء تحت وابل من الرصاص والمفرقعات. وانضم إلينا الطالب مولاي علي بن عبد القادر الصقلي والذي ألقى قصيدة في جموع المتظاهرين. وكان أحد المتعاونين يدعى إسماعيل يسأل عن أسماء معينة. فارتأب المجاهدون في أمره وانقض عليه أحمد الجباري وربط يديه إلى ظهره وفتش جيوبه فألفى بها مسدسا ورصاصا ولائحة تضم بعض رجال الحزب أمثال الحاج أحمد مكوار وعبد الكبير الفاسي وعبد العزيز بن إدريس والهاشمي الفيلالي وغيرهم، وصرح بأنه جاء من الرباط خصيصا لقتل هؤلاء فأشبعه المتظاهرون ضربا بسكاكينهم ومقداتهم. وأخيرا وضع العربي العلوي من سكان فاس الجديد حدا لحياته. وتجند الممرضون بقيادة المرحوم الحاج محمد بن يحيى فاستعملوا خبراتهم وكل ما عندهم من مواد طبية في معالجة الجرحى، وقدموا لهم حسب إمكانياتهم الإسعافات الأولية. وكان المجاهدون يحملون الشهداء إلى القرويين لتأبينهم والتعرف على هويتهم، واستطاع محمد العراقي ان يتعرف على أسمائهم وعناوينهم فجمع منها ما يزيد على الثلاثين وأخذوهم من القرويين إلى سيدي أحمد التيجاني والى مسجد الرصيف حيث أبنهم الحاج أحمد بن شقرون ومحمد بن شقرون، واستمرت الاصطدامات بين المجاهدين وجيش الاحتلال إلى أن جاء أمر الحزب بإيقافها بعد غروب الشمس، ولقد أعلنت باسم الحزب عن القرار في »حي الشماعين« حيث كان المجاهدون يواجهون رصاص المستعمر بقلوب ثابتة ويقين في الله قوي. أما الشهداء فنقلوا تحت ظلام الليل إلى جامع الجنائز بالأندلس في انتظار مراسيم الدفن. وأصدر الجنرال »سوفران«أمره بعدم تشييع الشهداء في وقت واحد. وأن يتولى دفنهم الجيش بنفسه. وأن يدفنوا في مقابر متعددة ولا يقل بعد ما بين القبر والقبر على خمسين مترا. وشاء الله أن تنتصر إرادة الشعب لأنها من إرادة الله. ونقل الشهداء ليلا في سرية تامة إلى روضة الشرفاء العراقيين بحي واد الحريقي »ساحة الشهداء« في غيبة عن الإدارة وعيون أعوانها. ولم يجد الجيش في جامع الجنائز إلا الفشل والخيبة و لم تستطع الإدارة معرفة موضع الدفن إلا بعد فوات الأوان. واستمر الشعب في المقاومة وتنظيم المظاهرات في صمود واستماتة خمسة عشر يوما بمشاركة الإخوة عبد السلام بنعبد الجليل والطاهر غلاب ومحمد الإدريسي واحمد بنموسى. وقاوم بكل بسالة وإخلاص وإيثار ما قامت به الإدارة من منع الماء والضوء والمواد الغذائية. وفتح أهل فاس قلوبهم ودورهم لكل محتاج، وتوصل كل بيت وكل عائلة بواسطة لجنة الإسعاف بما يكفيه ويغنيه من الماء والطعام والثياب. وأصبح الكل كما حكى الله عن أهل الجنة: »إخوانا على سرر متقابلين« الشيء الذي فقد معه المستعمر صوابه فأطلق لجنوده السبل لنهب الدور والدكاكين. انها صورة من صور النضال والجهاد توجت بالنصر والله لا يضيع اجر المجاهدين فلهم دائما إحدى الحسنيين النصر أوالشهادة.