هل يمكن لمجتمع غني بالنفط أن يكون مجتمعا إرهابيا ، ام هل يمكن لمجتمع ينفق موارد ضخمة على التعليم والرفاه والتمدين أن يكون مولدا للعنف الديني وخطاب التكفير والكراهية، أم هل يمكن لحكومات تدعي الوسطية وترفع شعار الاعتدال الإسلامي أن تكون يوما من الأيام دول تحتضن عمليات الإرهاب الاسلامي؟..بالتأكيد قد يكون ذلك غير منطقي او أمر مبالغ به او حتى غير حقيقي، ولكنه رغم ذلك، حدث مؤخرا في بعض دول الخليج العربي، في الكويت والسعودية، تلك الدول المتهمة امميا بتمويل الارهاب الاسلامي والانفاق على داعش بدعم لوجستي مادي ومعنوي في سوريا والعراق وفي مختلف ساحات الجهاد الاسلامي بالوطن العربي وفي خارج المنطقة العربية في بعض الأحيان... فكيف حدث هذا التحول لدينا في الخليج بينما لم يحدث أيضا في مجتمعات غنية أخرى تمتلك موارد طبيعية ثرية، وكيف استطاعت شعوب الكويت والسعودية من تقديم نماذج في غاية العنف تحت شعارات إسلامية، من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، او من اجل تطبيق الحدود الإسلامية او الدعوة الي الخلافة السنية أو ولاية الفقيه الشيعية. دعونا اولا نستذكر بعض الحقائق عن الانفاق الحكومي على التعليم في تلك الدولتين، ففي الكويت والسعودية وبعض دول الخليج يحتل الانفاق على التعليم مؤشرا عاليا لإيمان السلطتين بالتعليم ودوره في تنمية مجتمعاتهم.. ففي الكويت. وبحسب جريدة الجريدة في شهر يناير من العام 2015 تقول "رغم الإنفاق الكبير على التعليم في الكويت الذي وصل إلى 1.7 مليار دينار، أي ما يعادل 9.5 في المئة من الإنفاق الحكومي، فإن تقرير التنافسية العالمية كشف أن جودة التعليم في البلاد تراجعت بشكل عام إلى المرتبة 106 من أصل 148 دولة، فضلا عن تراجع جودة التعليم الأساسي أيضاً 14 مرحلة". وفي المملكة العربية السعودية، تشير مجلة المعرفة العدد 244 يناير 2016 الي ان "ما ينفق على التعليم نحو 10 في المائة من إجمالي الناتج القومي، كما تبلغ الميزانية التعليمية نحو 27 في المائة من الميزانية العامة للدولة، هذا بالإضافة إلى الاعتمادات المالية التي يتم توفيرها للتعليم خارج إطار الميزانية العامة". إذن لا تشكي الكويت او السعودية او حتى دول الخليج قاطبة من تدني الإنفاق على التعليم والتنمية نظرا لتواجد موارد النفط والغاز بشكل مستمر وبأسعار ظلت مرتفعة لأوقات كثيرة، وأيضا للبعد التاريخي والاقتصادي الذي يربط حكام ودول الخليج بعضهم البعض بمصاهرات وعلاقات عائلية وغيرها، ولعلنا نشهد ونتذكر كيف أن بعض دول الخليج تساعد الأخرى في حال تعرضها لضائقة مالية كما حدث لإمارة دبي، او كما يتم دعم البحرين وسلطنة عمان في أزماتهما، وهذا طبعا بدون منة او شروط، ولكنها روابط اهل الخليج والامتداد الطبيعي لعلاقات العرب ونخوتهم وشهامتهم. إذن كيف حدثت ظواهر العنف وقتل الأقرباء بهذا الرتم المتوحش بالنحر من الرقبة وليس باستخدام الأسلحة التقليدية، وكيف أصبحت الشعوب قاب قوسين أو أدني من التعامل مع ظاهرة قد خرجت من عقالها لتشكل تهديدا أسريا وإخفاقا تربويا وفشلا تعليميا وبالأخير تراخيا حكوميا في إدارة مجتمعاتنا وتمكينها من السلام والتطور والإنسانية، فحوادث العنف هذه إنما تدل على أزمات في الحكم وأزمات في التربية والتعليم وأزمات في الثقافة والدين والسلوك. وجميعها تحتاج الي مواجهة حقيقية وليس تجميل القبيح او التشدق بشعارات الإصلاح والتجديد والمراجعة، فالحلول دائما تأتي بهدم العوائق وليس بترقيعها او إعادة صبغها بألوان زاهية، فالسم يبقي سما قاتلا حتى لو كان داخل أجمل الأزهار. فالتطرف الذي وصل بالبعض الى ان يدفعهم لسلوكيات ومواقف تُخالف الإنسانية، بل وتحرم الحلال على سبيل المثال مثل الموسيقي او كشف وجه المرأة أو التعامل مع الحضارة والفلسفة لم يكن أمرا فقهيا او متصلا ببعض السلوكيات الفردية بل أصبح اليوم توجها شرعيا له فتاوي متعددة ومرجعيات دينية ومنابر دعوية تنادي به.. فهل من الممكن أن تتبنى فئات اجتماعية واسعة، التطرف كمنهج حياة؟ وهل من الممكن أن ما يحدث لشعوبنا الخليجية او العربية انها واقعة تحت ما يسمى اضطراب الشخصية والمعروف باضطراب الشخصية الوسواسية القهرية Obsessive-compulsive personality disorder والذي يتميز المصاب به بالدقة، والنظام، والنزعة للكمال والاهتمام بأدق التفاصيل.. بل وهل من الممكن ايضا ان تكون بعض شعوبنا مصابة بما يعرف بالوسواس الديني، فالمصاب به، يعتقد بأن تزمته هو الدين، وحرصه على التفاصيل هو من تمام العبادة.. ورغم أن العلماء ليس لديهم معرفة واسعة بسبب الإصابة بهذا الوسواس لكنهم رجحوا بأن الجينات والبيئة المحيطة بالشخص يمكنها أن تساعد في ظهور الأعراض. كما أشارت إحدى الدراسات المنشورة في مجلة "الأعراض المرتبط بالوسواس القهري" عام 1994 إلى "ترتفع نسبة الوسواس القهري المرتبط بالدوافع الدينية في الدول التي تعرف بأنها أقل علمانية إذ وصلت إلى 50 في المائة و60 في المائة من نسبة الحالات المرتبطة بالوسواس القهري في السعودية ومصر." فهل يمكن تفسير التطرف الديني، بناءً على معايير اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية؟..ام انه الشعور بالعجز في علاقة الفرد بالوطن الذي يعيش فيه او ينتمى اليه وهو ما ادى الي الاغتراب عن المجتمع، بمعنى ان المتطرف لم يستطع ان يقيم علاقة صحية مع المجتمع ومع الأخر المتشارك معه بالوطن؟. ام ان الأمر أعمق من اضطراب الشخصية والاغتراب الوطني، ويتناول عدة عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية لها الدور الأكبر في صنع التطرف المؤدى الي القسوة تحت حجج دينية او مذهبية. في الواقع، كانت الحكومات العربية وبعد استقلالها الوطني يؤكدون على اهمية التعليم والثقافة، فمنحوا قدرا كبيرا من الاهتمام للثقافة والتعليم سرعان ما تراجع هذا الاهتمام ليتحول الى تزايد كمي في اعداد الطلاب والطالبات مع تخلف المضمون العلمي والمعرفي الذي يشكل محتوي المناهج التعليمية. ومع تزايد الصراع على السلطة في الوطن العربي تمدد الصراع الى مؤسسات التعليم والثقافة بل والمعابد الدينية، وهنا ظهرت الجماعات والاحزاب والحكومات لتنشر بؤسها الفكري والمعرفي بغية تحشيد الأفراد والجماعات.. وفي هذا السياق فشل التعليم في خلق شخصية وطنية وفي رفع قيمة الوطن وجغرافيته الموحدة كقيمة ذات اولوية في وعي الانسان وقناعاته لان احزاب غير وطنية تمثلت بالإسلام السياسي رفعت شعارات تتجاوز الوطن واخرى رفعت شعارات القبيلة او المذهب، وجميعها تتقاتل اليوم في الداخل وتستجدي الخارج، وفوق كل هذا تتضاءل الثقافة الوطنية في حضورها العام والخاص ليبقى الافراد والجماعات عرضة لثقافة مناهضة للدولة والمدنية بل وللوطن ايضا. ان ما حصل مؤخرا في منطقة الخليج العربي من حوادث قتل الأقرباء يكاد يكون مؤشرا على تنامي العنف تحت مسوغات دينية، وهذا أمر علينا الاعتراف به قبل ان نستكمل سبل العلاج. فالأعداد الكبيرة من المجاهدين والراغبين بالموت أكثر من الحياة هم نتاج مدارس دينية في دول غنية ماديا، والمناهج الدينية يتم طباعتها وتدريسها وتخريج دعاتها من مجتمعات تحظى بتنمية اقتصادية كبيرة. لكن المعضلة الأساسية تمثلت ان الكويت والسعودية وغالبية مجتمعاتنا العربية مازالت واقعة وأسيرة نظام قبلي ديني توليتاري يسعى بكل قوة لتثبيت ما هو كائن ومحاربة ما هو يكون من تطور وتراكم معرفي وحضاري. فقد وقعنا كشعوب وأنظمة في قاع الجمود والخوف والتابوهات المقدسة الدينية والسياسية والاجتماعية، ولم نستطع حتى البدء في مناقشتها او حتى اصلاحها كما فعلت غيرنا من الشعوب المتقدمة، وهذا ما أوصلنا الي ما نحن فيه من تراجع وتردي تنموي، ومن الطبيعي ان يمتد هذا التردي الي بقية المجتمعات ومؤسساتها، فالنهوض لا يمكن ان يعتمد فقط على الناحية المادية والحداثة التكنولوجية، فالتطور صيغة متكاملة من النمو، تنجح بعواملها المتعددة ولكنها تخفق اذا ما أخفق أي عامل في تحقيق اهدافه. لن تتغير الصورة النمطية عن دول الخليج المولدة للقسوة والعنف طالما ظلت الانظمة والشعوب وحتى الطبقة النخبوية المثقفة عاجزون عن أداء أدوارهم، ولن يتحقق التغيير والتطور بدون دولة علمانية ومشروع ثقافي تنويري يخرج الافراد من قيودهم التقليدية الى رحابة الوطن ومن النقل الى رحابة العقل ومن الاعتدال الي اختيار المسار الحقيقي بفصل الدين عن الدولة وتبني مشاريع المساواة والعدالة والحريات والمواطنة، فبدون ذلك، علينا أن نستعد لأيام أقسى وتاريخ مضطرب وشعوب تتقاتل او تهاجر الي حيث تجد انسانيتها التي فقدتها في ما يسمى أوطان عربية. عبدالعزيز القناعي [email protected]