حين تغيب الرافعة الحقيقية في عملية التغيير، يصبح خطاب المثقفين مجرد خواطر نثرية لا تتعدى كونها وجدانيات في رثاء الذات والمجتمع. كثيرا ما يسأل الكاتب أو الشاعر أو المثقف بشكل عام سؤالا عريضا: لمن تكتب، وعن دوافع الكتابة؛ لماذا تكتب، والإجابة عن هذا السؤال تختلف باختلاف مزاج الكاتب ونفسيته وفكره ورؤيته لنفسه ولإبداعه، ونظرته إلى العالم من حوله بشكل عام، فمن الكتاب من يرى أنه يكتب لذاته ولتحقيق كينونته كمبدع، ومنهم من يعتبر الكتابة فعل تغيير وإصلاح ويمارسها للمشاركة في إحداث فرق ملموس في حياته وحياة من حوله، وهناك أيضا من يربط الكتابة بغنى تجربته الحياتية والإبداعية، ورغبته في مشاركة الآخرين هذه التجربة، ومنهم من ينصب نفسه شاهدا على عصره، يوثق للتاريخ فترة زمنية تخصه ويربطها مع الأحداث السياسية والثقافية والاجتماعية وحتى الاقتصادية منها. تعددت الدوافع بين الطرح البسيط وبين الخوض في مسائل وجودية كبرى، لكن السؤال الملح: ماذا تفعل هذه الأحبار الكثيرة التي تسيل كل يوم في المطابع على فراغ الملايين من الأوراق البيضاء، وماذا تقول هذه النقرات التي لا تعد ولا تحصى على مفاتيح اللغة في لوحات الحاسوب عبر شاشات الشبكة العنكبوتية؟ هناك نقاشات دائمة حول مهمة المثقف في إحداث تغييرات في الوضع القائم في مجتمعه، وإضافة إنجاز يجير لصالح الثقافة ودورها الشرعي في مواجهة الصعوبات الحياتية المختلفة، ويحتاج المثقف العربي حتى يحمل المعرفة اللازمة لصياغة رؤيته الخاصة للوضع الذي تعيشه أمته أن يستقل بفكر إبداعي يتماشى مع أوضاع مجتمعه، ويحاول بتصوره الخاص تصويب هذه الأوضاع، ولا يكتفي بنقد ما يجري وفق قوالب تحليلية طبقت على مجتمعات أخرى. وإذا كان المثقف كما هو متعارف عليه في الأوساط الفكرية هو الشخص الذي يشتغل في وظيفة تدعى الكلمة، بمختلف أشكالها المنطوقة والمكتوبة أو المصورة والمغناة، التي يؤثر بها المثقف على وعي الناس، فإنه بحكم هذا التعريف يملك من المعرفة ما يؤهله للقيام بدوره في بناء نظرية شمولية تعكس وظيفته في التغيير والتحويل. وحتى يحقق هذه الدور الذي ينشده قارئه، فإن المثقف العربي مطالب بقراءة وفهم الجذور التاريخية لقضايا عصره الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية ومداخلاتها جميعا، مما يجعله قادرا على استشراف المستقبل بشكل سليم، وهو بهذا يقف أمام مهمة شاقة تتمثل في فهم التاريخ واستيعاب الحاضر من أجل خلق مستقبل مختلف. وهو أيضا مطالب من أجل بناء هذا المستقبل بالالتصاق المستمر بقرائه أو جمهوره وتبني مواقفهم والدفاع عنها، والإيمان بحرية الجماهير التي هي حريته أولا وأخيرا والدفاع عنها، والتصدي بقوة للعادات والتقاليد البالية التي تقف في أحيان كثيرة كعائق أمام الرؤية المستنيرة، كما أن محاربة بعض النزعات والأفكار المثالية الجاهزة التي تسيطر كثيرا على عقول ومخيلة الكثير من الناس، واستبدالها من خلال المنجز الثقافي بالرؤية العلمية، من متطلبات المهمة التي يلتزم بها المثقف تجاه ذاته ومتلقيه من أجل السير حثيثا نحو المستقبل. التساؤل الذي يجب طرحه: أين هو الآن المثقف العربي الملتزم بقضايا مجتمعه والذي يحمل رسالة مسؤولة في التغيير، ويخدم رسالته عبر إحداث علامة فارقة؟ إن تنشئة المثقف الفكرية البعيدة كل البعد عن الديمقراطية والغائبة عن جو النقد وروح الحرية، شوهت الدور الذي يسعى إليه، وخلقت أزمة بين المثقف ومجتمعه من جهة، وبين المثقف وقارئه من جهة أخرى، ورسمت هذه الأزمة صورة غير مشرقة للمثقف العربي في عيون جمهوره. لكن من الإنصاف القول إن البيئة المأزومة التي يعيش في وسطها المثقف العربي، لم تعطه المساحة الصحية ليكون مثقفا موضوعيا، وإن وجد القليل من المثقفين الاستثنائيين الذين هزموا أزمتهم مع واقعهم وحاربوا البيئة المشوهة التي عاشوا ضمن إطارها المتخلف، ولم يسمحوا للأنظمة السياسية التي يعيشون تحت قبتها أن تطال من مشروعهم الفكري، لكن أغلب هؤلاء الاستثنائيين ممن عاشوا في الغرب وتمتعوا بحرية تعبير واسعة. ولعل حرية التعبير والنقد التي تعتبر من أهم الأدوات الديمقراطية التي تستعملها الشعوب للتعبير عن حقوقها ومطالبها هي العنوان الذي سجله المثقفون العرب عريضا وواسعا كقامع أكبر حال دون تحقيق المثقف العربي لأدنى التزاماته الفكرية تجاه مجتمعه، وحين تغيب الرافعة الحقيقية في عملية التغيير، يصبح خطاب المثقفين مجرد خواطر نثرية لا تتعدى كونها وجدانيات في رثاء الذات والمجتمع.