هل يمكن أن تكتب أمام البحر.. وفي الصيف تحديدا؟ ليست دبلوماسية، ولكن لكل فصل أسباب خاصة تغري للكتابة، إلا أنني لابد أن أعترف بحميمية خاصة لفصل الشتاء قد تفتقر لها الفصول الأخرى وخاصة الصيف. لكني سأكون أكثر واقعيا معك، أنا لا أكتب في حديقة أو مقهى - وأستغرب ممن يفعلون ويمارسون الكتابة في أماكن عامة فاضحة - أو أي مكان يمكن أن يحسب على أنه "في الخارج"، أكتب في غرفة أكون وحيدا فيها، لست بالضرورة منعزلا، والتّكييف يحل المسألة. قد أكون فظّا لكن الحقيقة أن بطء وسرعة اللابتوب تؤثر على مزاجي أثناء الكتابة أكثر من الفصل الذي (للأسف) لا أتذكر حلوله إلا في الطريق من باب البيت إلى باب السيارة، وحين أتذكره -وخاصة الصيف- ألعنه. نصك الأول، فاتحة مجدك الإبداعي، هل مازلت تذكره؟ لا أعتقد بأن هنالك نصا يختصر كل ما سبقه من نصوص ليكون "النَّص الأول"، ولا أعتقد بأن "النص الأول" سيكون إبداعيا لو لم يسبقه نصوص أخرى، نصوص/تجارب، بل أعتقد بأن كل ما كتبته وما سأكتبه ستبقى تجارب "للنص الأول" الذي لن يأتي. أرى أن العملية تراكمية لما كتبت وما قرأت، بل وما شاهدت من أفلام سينما، ولوحات وفنون بصرية، وما سمعت من موسيقى وأغان، وما اختبرت في حياتي، وما أحببت. كما أني لا أعتقد بأن ما وصلت إليه يمكن تحميله عبء تسمية "مجد"، لأن نصوصي جميعها كما قلت هي مجرد تجارب فاشلة في تحويل الفكرة في رأسي- تماما كما هي- إلى كلمات، وربما لذلك ألجأ للرسم أحيانا، لكني وجدت في النهاية أنه ليس أقدر على التعبير- أو محاكاة الشغف الداخلي- من الكلمات، رغم أنني علقت وتعلّقت به. وعلى كل حال، ليس في كل ذلك ما يمكن تسميته ب "مجد". النقد حين يسبر مغاوير النص، ما الذي يضيفه لك كمبدع؟ النقد مسألة ضرورية ولا غنى عنها في "ما بعد" العملية الإبداعية، أقصد ما بعد عملية خلق النص، لأن النقد بحد ذاته هو عملية إبداعية تعيد خلق النص، أو تعيد نبشه من ذاته، تماما كما نبشه المؤلف من رأسه. وعملية النقد هي ديمقراطية في الأساس، فأول (وكل) ناقد سيكون حتما أول (وكل) قارئ، بالنسبة لي كل القراء نقاد، وأحيانا كثيرة أتفاجأ من فكرة - تبدو لي جدّ صحيحة- يخرج بها أحد القراء أو النقاد بخصوص سطر أو أكثر في أحد نصوصي، أتفاجأ لأني أولا لن أستطيع انكار صحّتها، ولأني ثانيا لن أستطيع انكار غيابها التام عن وعيي أثناء وبعد الكتابة. وأنت بصدد الكتابة هل تستحضر المتلقي، وهل تعتبره شريكا مفترضا في المتعة المشتركة؟ هنالك عقد أخلاقي أوجدته بيني وبين المتلقي، أن يبتعد عني أثناء الكتابة، وأن أبتعد عنه بعد النشر، لن أرضي غير ذاتي أثناء الكتابة، ولا أفكر بغيري، ولن أسمح لأحد أن يتدخّل في هذه العملية الحميمة من النص التي لا تختلف عن ممارسة الجنس بالشيء الكثير، ولهذا قلت سابقا أستغرب ممن لا يخجلون الكتابة في الأماكن العامة. ولذلك أيضا لا أسمح لنفسي بالتدخل في رأي أو استيعاب المتلقي للنص بعد نشره، لن يكون النص ملكي حينها بل هو وبكل تأويلاته ومعانيه سيكون حقا مطلقا للقارئ، ولذلك أيضا لا أسمح لنفسي بالتدخل في شرح أو حتى إبداء رأي في أحد النصوص أو أحد تفصيلاته، لأنه سيعدّ تدخلا سافرا في رأي القارئ وفهمه للنص، وفي هذا نوع من التسلّط، الكتابة والقراءة أبعد ما تكون عنها. ما يحدث في العالم الآن كيف يتسلل إلى مواضيع كتاباتك؟ ما يحدث في العالم هو المحفز الرئيسي للمقالات التي أكتبها، ليس للنصوص الأدبية، إن كان المقصود في "العالم" الحالة الموضوعية، أي كل ما يحيط بي، أي كل ما هو خارجي أنا، هو بالنسبة لي عالميّ: من المقربين إلي، إلى المحيط الذي أعيش فيه إلى فلسطين، بلدي، إلى كل ما يحصل على هذا الكوكب. لا يمكن أن يكون الكاتب إنسانا بالمطلق، بعيدا عن التأثيرات المحيطة وغير المحيطة، وفي المقابل لا أعتقد بأنه يمكن قراءة نص دون أدنى فكرة عن كاتبها، لا أؤمن بفكرة موت المؤلف في نصه. أصبح الكاتب يزاوج بين الكتابة الصحفية والعمل الإبداعي، ما الذي يتحقق في هذه المزاوجة كقيمة مضافة؟ بالنسبة للكتابة الصحافية، فلنفرق بين نوعين، ما يمكن تسميته بالكتابة الوظيفية، وهو كتابة التقارير وما إلى هنالك من عمل صحافي يمتهنه الكاتب كأي وظيفة أخرى، وبين مقالات الرأي والأعمدة، والتي يكتبها عادة أدباء ومثقفين لا يعملون بالضرورة في المجال الصحافي، هذه الكتابة هي بحد ذاتها عمل إبداعي (طبعا ليس لأن من يكتبونها أدباء) لأنها تحوي أهم شروط النص الإبداعي وهو برأيي الحرية التامة أثناء الكتابة وهو ما تفتقده المواد الصحافية الأخرى التي تعتمد غالبا على النسخ/لصق وعلى قوالب مسبقة للكتابة وروح إخبارية لا أراى فيها أبداعا. لكن إن افترضنا أن السؤال يحكي عن الكتابة الأدبية من جهة والصحافية- بكل أشكالها- من جهة، لابد أن يضيف كل منهما إلى الآخر إن عرف الكاتب كيف يمشي كلاعب السيرك على الحبل الرفيع دون أن يختل توازنه. تذكّرت الآن أمرا قد يكون ذا صلة: ألاحظ دائما أن الشعراء الذين يمارسون كتابة المقال إضافة إلى الشعر، ينجون من تهمة "الشاعر الساذج" التي تلتصق أكثر بالشعراء "المخلصين" للشعر. يعدّ النشر الإلكتروني حاليا أكثر سرعة ووصولا للقاريء، كيف ترى حالة الكتاب الورقي من حيث القرائية والإنتشار؟ هنا علينا أن نفرّق، أنا مع النشر الصحافي الالكتروني، لكني لا أتحمّل قراءة كتاب الكتروني. عملية القراءة، عندي، تشمل مسك الكتاب وشمّ صفحاته كل حين وسماع حفيف الورق، هي عملية تشترك فيها أكثر من حاسة، لا يمكن لشاشة مضيئة أن تعوّض كل ذلك، كما أنني لا أتذوّق النصوص الأدبية إن قرأتها من على الشاشة كما يمكن أن أقرأها على الورق. لكن صحافيا، أنا مع النشر الالكتروني لأنه أكثر عملية، وأكثر حداثة: فيديو، صوت، روابط متشعّبة... الخ، وأسرع، ومجاني، وأقدر على الانتشار. وكل هذا، وأسباب أخرى، حفزني على إصدار صحيفة فنية ثقافية (إنترنتيّة) فلسطينية هي "رمّان". السفر والملتقيات الإبداعية والفيس بوك أخيرا، ما حدود الخدمة التي تتوفر في كل هذا؟ ما يجمع بين الأماكن هذه كلها هي "غريزة" التواصل مع القارئ. كما ذكرت فحين أكتب لا أفكر بالقارئ أبدا، لكن لحظة نشر النص، يصبح القراء هم "أصحاب الجلالة" كما أسماهم محمود درويش، أحيانا أفكر بأن النص رغم (أو بسبب) الذاتية التي أكتب من خلالها، لو أن شخصا واحدا على الأقل لا يقرؤه، يصبح النص مجرد لا شيء، وكل ما ذكرتَ هي أساليب "خبيثة" قد يلجأ إليها الكاتب لنشر نصوصه إلى أكبر عدد ممكن من القراء، أي التواصل معهم عبر النصوص. ويمكن استغلال الفيسبوك، والإنترنت إجمالا، جيدا في هذا المجال. في اعتقادك، الجوائز التي يحصل عليها المبدع ما تأثيرها على مساره الإبداعيّ، وإلى أي حدّ تعدّ حافزا؟ برأيي أن (بعض) الجوائز لابد أن تكون متّهمة إلى أن تثبت براءتها، ليس رأيي هذا رفضيا بالمطلق، بل التجربة، والعربية خاصة، وتحديدا مؤخرا، أثبتت أن مع كل جائزة "فضيحة"، وأنا لا أعمم طبعا، لكن معظم الجوائز العربية تكون إما من جهات تريد منح نفسها "شرعية" من خلال منح أسماء كبيرة في الأدب جوائزها، أو جهة تريد "شراء" بعض الأسماء والأقلام، أو جهة تعتمد المحسوبية والعلاقات العامة والشللية والقبلية الثقافية في منح الجوائز وما إلى هنالك من "تخبيص" في هذا المجال، إلا أن هنالك جوائز صادقة ويعتمد منظموها المهنية والصدق في منحها، وجوائز كهذه هي التي يمكن أن تعدّ حافزا إبداعيا، لأن السابقات ليست إلا حوافز لكتم الإبداع أو شرائه، وهو بالتالي لن يكون إبداعا، بل النقيض منه. يهيمن على وسائل الإعلام الموقف السياسي في تحليل ما يحدث، في المقابل يغيب موقف المثقف والمبدع، كيف ترى هذا التغييب، وما حدود تأثيره في تشكيل وتنوير الرأي العام؟ برأيي قد يكون هنالك عدة أسباب لهذا الغياب، أو التغييب كما قلتَ وهي الكلمة الأنسب، لكن من الأسباب الرئيسية لذلك هو الفكرة التجارية والعرض والطلب التي تخضع لها التلفزيونات، باختصار، الجمهور لا يريد أن يوجع رأسه بكلام يصدر عن مثقفين وهو إجمالا لا يخاطب العاطفية، بخلاف كلام السياسيين الذي لا يخاطب العقل وهو الخطاب الأريح عند معظم الناس، وهذا يدل تماما على الترّدي السياسي والثقافي والفكري والفني ووو في مجتمعاتنا العربية. المثقف (العضوي) حين يتكلّم - طبعا أنا لا أعمم على جميع المثقفين- يحاول أن يغيّر آراء سائدة ويساهم في التراكمات التي آمل أن تحدث تطوّرا نوعيا في المجتمعات، أما السياسي - وهو كذلك صاحب النفوذ والسلطة والمال- فهو إجمالا يحاول أن يتكيّف ويتماشى مع الرأي السائد "لجماعته" أو لطائفته أو للجماهير البسيطة. وحال كهذه يسود فيها السياسي على الثقافي، والغريزي على المنطقي والغيبي على العلمي، تكون في حاجة ملحة للتنوير، وهذا حال مجتمعاتنا العربية، في أحسن حالاتها. مؤسسات الدعم الثقافيّ ودور النشر والسياسات الثقافية، هل تراها كافية وذات جدوى في دعم المبدع؟ قد يكون جوابي السابق طرح أحد أسباب الحاجة لمؤسسات تدعم المبدع، وهي، وإن وجدت، تبقى غير كافية، فالشعور العام عند المبدعين هو اليتم، أو الوحدة، أنه دون مؤسسة تقف إلى جانبه، فلأتكلم بخصوصية أكثر: الإبداع الفلسطيني إجمالا - أدب سينما مسرح فنون بصرية الخ- هو إبداع فردي، يقوم به أفراد لا مؤسسات، لابد أن حالة الشتات لهذا الشعب دورا رئيسيا في غياب المؤسسات، لكن في نهاية الأمر معظم الإبداعات الفلسطينية هي فردية، وعلى المبدع أن يدبّر نفسه بنفسه إلى أن يجد إحدى المؤسسات - وقد لا يجدها- لتدعمه في مشاريعه، وطبعا هنا لا أتكلم عن المؤسسات الرسمية للسلطة الفلسطينية (أو منظمة التحرير) الغارقة حتى أنفها في الفساد السياسي والأخلاقي والمالي والإداري. أتعتقد أنك كتبت نصك المشتهى؟ لا أعتقد بأني سأكتب يوما نصي المشتهى، أعتقد بأن النصوص كالنساء في هذه الحالة: ليس هنالك "النص المشتهى" بل هنالك نصا مشتهى. البوصلة، مجلتنا/ك، كيف تراها؟ أتوقع للبوصلة النمو والانتشار المتسارع، وأتمنى لها كل أسباب التميّز، وأن تكون دائما جسر وصل ثقافي بين جميع شعوبنا العربية. مهمة البوصلة ليست سهلة لكنها اختارت - كونها ثقافية- الطريق الصعب. ===================== السيرة: سليم البيك، فلسطيني، مواليد 1982، يقيم في دولة الإمارات. أصدر مجموعة نصوص نثرية باسم "خطايا لاجئ" عن دار كنعان، وقريبا ستصدر له مجموعة قصصية. يكتب مقالات رأي في الشؤون الثقافية إجمالا، يمكن قراءتها في جريدة "القدس العربي" أو في موقعه الشخصي www.horria.org يحرر ويصمّم جريدة "رمّان"، وهي جريدة تعنى بالفن والثقافة الفلسطينيين http://www.horria.org/romman.htm يرسم الكاريكاتور ونشر بعضها في منابر مطبوعة والكترونية، وجميعها في مدونته http://s-ana-7or.blogspot.com كما أن له مجموعة لوحات زيتية على قماس الكانفاس تتناول موضوع الأماكن الفلسطينية في مخيلة تجريدية للاجئ عنها.