"أنا بحبك يا بلادى .. أنشودة جميلة ومؤثرة"، هكذا عبر ولدى عن إعجابه باللحن الذى يذاع كثيراً بعد 25 يناير رغم إعادة تدويره، سألته ما اذا كان يعرف قصته.. نفى مبدياً استعداده لجلسة معلوماتية إعتاد وأخوه أن تلى أى سؤال.. هكذا أجد متعتى مع صغيرىِّ. حسناً.. لنبدأ.. الأربعاء 8 ابريل 1970.. صباح كئيب كصباحات كثيرة أشرقت تحت عتمة هزيمة 1967، إصطففنا، ككل تلاميذ مصر، فى طوابير الصباح بمدرستى "السادات الابتدائية المشتركة" بشارع سوق السلاح قلب قاهرة المعز نسبة الى الشيخ محمد السادات بطل الثورة على الحملة الفرنسية الذى حكيت لكما قصته من قبل، هتفنا بإخلاص وجدية "تحيا الجمهورية العربية المتحدة"، هكذا كانوا يطلقون عليها، صعدنا الى فصولنا على ايقاع المارش العسكرى ننشد "الله اكبر فوق كيد المعتدى"، التاسعة وعشرون دقيقة.. الأستاذ "مصطفى" مدرس الموسيقى الكفيف على عوده يلقننا من نظمه ولحنه.. نردد خلفه فى حماس لا يخلو من براءة.. "قناة السويس قناة السويس بناها جدى عيسى وعويس.. جه ديليسبس.. قال لنا هس.. انتو النص واحنا النص ! جانا جمال أبو الأبطال خدها منه قوام فى الحال".. ينتهى اللحن.. نصفق لأنفسنا بصفاء غير المدرك للحزن المرسوم فى عيون الأباء فى المنازل أو فى إنكسار صوت مدرسنا وأنين عوده.. الكبار دائماً يعرفون أشياءً كثيرة.. نفس "التاسعة وعشرون دقيقة" من نفس الصباح الكئيب.. هناك فى إحدى قرى الحسينية شرقية.. تقبع مدرسة أصغر كثيراً من مدرستى.. "بحر البقر الابتدائية".. دور واحد وثلاثة فصول متواضعة تضم150 تلميذاً.. طائرات الفانتوم الأمريكية تعربد فى سماء القرية الصغيرة.. تنتفض قلوب الصغار.. يبكون.. أزيزها يقتلهم رعباً.. لا يوجد مخبأ.. وما حاجته وهى مجرد مدرسة أطفال بين خضرة المزارع ؟! .. الطيارون الاسرائيليون يحومون بها كالذباب.. أصابهم الملل.. أرادوا التجديد.. "ما رأيكم يا شباب بسفك بعض الدماء ؟ أسفل منكم فرصة لن تعوض.. أطفال مصريون دمائهم عذبة كمياه النيل.. عملية مضمونة للهو وتقديمٌ للقربان.. هيَّا ؟ هيَّا" هكذا حدث بعضهم البعض.. خمس قنابل وصاروخان ساوت المدرسة بالأرض.. أتخيل نشوة الطيارين.. ضحكات الفرح الهيستيرية تتفجر على شفاههم النجسة.. تلذذهم بسفك دماء صغارٍ تبعثرت أشلائهم.. يد هنا.. قدم هناك.. تناثرت أشيائهم.. حذاء صغير هنا.. توكة شعر هناك.. قلم رصاص قصف سنه.. بقايا كراس.. صفيحات من كتاب "اعرف عدوك".. نظارة صغيرة.. شناط صنعتها الأمهات من القماش "الدمور".. إيشارب كان أبيضْ.. مريلة ممزقة من "تيل نادية" خلت من جسد نادية إلا دمائها.. شطائر طازجة كانت معدة للفسحة.. أكثر من خمسين معاقاً.. ثلاثون شهيداً.. أحمد أنس الباشا أحمد عبد العال السيد أحمد علي عبد العاطي إيمان الشبراوي طاهر بركات سلامة حماد جبر عبد المجيد فايد حسن محمد الشرقاوي خالد محمد عبد العزيز زينب السيد إبراهيم سامي إبراهيم قاسم سعد امين عبد الغنى صلاح محمد إمام طارق نبيل أبو زيد طه عبد الجواد طه عادل مصطفى خميس عوض محمد الجوهري فاروق إبراهيم الدسوقي كحلاوي صابر فتحي محسن سالم عبد الجليل محمد أحمد محرم محمد السيد عوض محمد أنور العناني محمد حسن إمام محمود محمد عطية ممدوح بدر علي نجاة محمد خليل وليد إبراهيم حسن... جميعهم فى مثل سن أبيك أو مثل سنك الآن.. لم تسمع عنهم أجيال كثيرة.. نَسَاهُم البعض فى زخم الحياة.. ربما حذفوا قصتهم من كتاب المدرسة حتى لا تُؤذى أحاسيس الجناة ! بعدها.. كتب "فؤاد حداد" ولحن "بليغ حمدى" أنشودتهم التى أعجبتك.. "محافظتى الشرقية، مدرستى ... بحر البقر الابتدائية، كراستى ... مكتوب عليها تاريخ اليوم.. مكتوب على الكراس اسمى.. سايل عليه عرقى ودمى.. من الجراح اللي فى جسمى.. ومن شفايف بتنادى يا بلادى يا بلادى أنا بحبك يا بلادى..."، هكذا نادت "شفايف" الصغار فاستوجبوا القتل.. أنا بحبك يا بلادى... تلك قصتهم.. فاذكرهم يا ولدى.. لا تنسَ ولا تَعفُ عما سلف.. فثأرهم باق فى عنقك ما بقيت.. أخذته بيدك أو أخذه أحفاد أحفادك.. ثأرهم باق ما بقيت مصر وما بقى عدوك.. وحتى يأذن الله. ضمير مستتر: لا تصالح على الدم .. حتى بدم لا تصالح .. ولو قيل رأس برأسٍ أكلُّ الرؤوس سواءٌ ؟! أقلب الغريب كقلب أخيك ؟! أعيناه عينا أخيك ؟! وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك بيدٍ.. سيفها أثْكَلك ؟! "أمل دنقل" علاء الدين حمدى