( 1 ) في الذكرى /92/ لميلاد جمال عبد الناصر ، وفي السنة ال 40 على رحيله مازال الحديث عنه ذو نكهة خاصة ، ليس لأنه يخرجنا من واقع مر إلى عالم الأحلام الكبيرة ، والرؤى البعيدة ، والتجارب المريرة ، والمواجهات العنيفة ... ، وحسب ، ولكن لأن جمال عبد الناصر تمرد على ما عرف في عصره نهج الانقلابات العسكرية ، أو "العسكرتاريا" ، وحاول بقدر ما يستطيع أن يتلمس نبض الشارع ، وأن يتمرد على الكثير من المفاهيم السائدة ... ويناضل لتوضيح الهوية ، ويخوض معارك الأمة ، حتى استحق بحق لقب "قائد معارك التحرر العربي" ، بغض النظر عن النتائج ... لقد أصاب وأخطأ ، انتصر وانهزم ، هاجم ودافع ، لكن لم يكن الحكم ، والسيطرة , والتوريث هو هاجسه ، وإنما كان وسيلته لتحقيق أهداف ومبادئ أعطاها عمره ، وأعصابه ... وللذين يحاولون تقييم جمال عبد الناصر عبر لغة الأرباح ، والخسائر يكفي أن نشير إلى الدرك الذي انحدرت إليه الأمة العربية ، وفي القلب منها مصر بعد رحيله .. لندرك الثغرات ، والثغور ، التي كان يصدها بقامته المديدة ... ( 2 ) لقد كتبت عن جمال عبد الناصر ، الكثير ، وستبقى الكتابة عنه بالنسبة إلي نافذة للخروج من حالة الإحباط ، والمحنة المطبقة على أعناقنا ... لقد عاش جمال عبد الناصر ، بحساب السنين /52/ عاماً ، من 15 كانون الثاني " يناير " 1918 إلى 28 أيلول " سبتمبر " 1970 ، وإذا كان " شؤون لاي " رئيس وزراء الصين قد استغرب كيف يموت رئيس في سن ال /52/ ، فإننا نقول موضوعياً ، أنه علينا ان نضاعف العمر الزمني الحقيقي لجمال عبد الناصر ابتداء من حصاره في فلوجة فلسطين 1948 ، وحتى 28 أيلول " سبتمبر " 1970 حيث يجمع كل من عاصر الرجل أنه خلال تلك الفترة الممتدة كان يمارس نشاطه ، بما هو أكثر بكثير من ضعف النشاط الإنساني الذي يمارسه الإنسان العادي ، والذي يطيقه البشر عادة ، يومياً .. فمن حصار الفلوجة ، إلى حرب الفداء في مدن القنال ، إلى حريق القاهرة ، ومن انقلاب 23 تموز " يوليو " 1952، إلى الثورة عبر ثورة الفلاحين ، وهيئة التحرير ، وإجلاء الانجليز عن القناة 1954 ، ودعم ثورة الجزائر ، ومن معركة بناء السد العالي ، إلى تأميم قناة السويس ، إلى مواجهة العدوان الثلاثي 1956 ، ومن دستور 1956 إلى مواجهة تهديد حلف الأطلسي لسورية عبر تركيا ، إلى قيام الجمهورية العربية المتحدة 1958، وبناء الاتحاد القومي ، ومعارك التأميم ، ومن اغتيال انقلاب 1958 في العراق ، إلى انفصال الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة ، إلى دعم الانقلاب في اليمن 1962 ، وإعلان الميثاق وبناء الاتحاد الاشتراكي ، إلى فشل ميثاق نيسان " إبريل " لبناء دولة الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق ، إلى الدعوة إلى الحركة العربية الواحدة ، وبناء السد العالي ، وبناء المصانع ، والقطاع العام ...ومن تهديد "إسرائيل" لسورية ، إلى هزيمة الخامس من حزيران" يونيه " 1967 ، إلى لاءات الخرطوم ، وحرب الاستنزاف ، وانقلابات ليبيا ، والسودان ، ومبادرة روجرز ، وأيلول الأسود الملكي على الفلسطينيين في الأردن ، إلى الرحيل الحزين 28 أيلول " سبتمبر " 1970 ... ( 3 ) لقد تبيّن فيما بعد ، أن جمال عبد الناصر كان عليه أن يواجه ذلك كله ، وعليه يقع عبء القرار ، وأن القلة ممن كانوا حوله ، كانوا يوافقونه الأهداف العظيمة ، وينفذون بإخلاص ، وأن الكثرة ، الكثيرة ممن كانوا حوله كانوا يضمرون العداء ، أو التآمر ، ويكظمون الغيظ ، بدليل أن الأجهزة ، ونظام الحكم برمته ، باستثناء بعض الرجال المخلصين قد انقلب على ما كان جمال عبد الناصر يعمل لتحقيقه ، ليعكس اتجاه الأحداث ، والمواقع ، والمواقف ، فبجهود ، وأفعال رموز ذلك النظام تحولت مصر ، التي كانت جمهورية عربية متحدة ، من قاعدة متقدمة لحركة التحرر العربية ، إلى قاعدة مضادة لها ، يرتع فيها الصهاينة ، وقوى الهيمنة الدولية .. يأخذ البعض على جمال عبد الناصر أنه لم يقيم نظاماً ديموقراطياً ، وإنه كان ديكتاتوراً ... وفي المقابل يأخذ عليه البعض الآخر أنه كان وسطياً وأنه لم يكن ثورياً حاسماً ، وأن فكرة " تحالف قوى الشعب العامل " تعبر عن " البرجوازية الصغيرة " ...إلى آخره . إن مشكلة طبيعة النظام في مصر ، ومن ثم في الجمهورية العربية المتحدة ، وفي الإقليم الجنوبي فيما بعد الانفصال ..كانت مشكلة المشاكل التي واجهت جمال عبد الناصر، ذلك أن جمال عبد الناصر جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري ، على أنقاض نظام ملكي ، في بلد محتل من الناحية الفعلية بجيش الاحتلال البريطاني الذي كان هو الحاكم من الناحية العملية ، أما بنية الأحزاب السياسية فكانت بنية هشة بفعل هيمنة القصر ، وقوات الاحتلال ، والباشوات ، وبالتالي فإن تلك البنية ، لا تحتمل مشاريع ثورية كالإصلاح الزراعي ، وتحرير مصر من الإحتلال البريطاني ، ومواجهة العدوان الثلاثي ، وأحلام الوحدة العربية ، وإحياء مجد الأمة ، وتحرير فلسطين ، والثروات العربية ، والتنمية ، والعدالة الاجتماعية ... ودعم حركات التحرر ، لهذا كان من الطبيعي أن يفكر جمال عبد الناصر بالبدائل ، والبدائل كانت محاولة بناء تنظيم سياسي بديل ... يحمل راية الأهداف الثورية التحررية لجمال عبد الناصر ، وقد كرر المحاولات لبناء ذلك التنظيم من " هيئة التحرير " في بداية تحول الإنقلاب العسكري إلى ثورة ، ثم مع " الاتحاد القومي " مع بداية التحول من الدولة الإقليمية إلى دولة الأمة العربية النواة " الجمهورية العربية المتحدة " ، ثم إلى " الاتحاد الاشتراكي العربي " مع بداية التحول إلى البناء الاشتراكي ، ثم إلى " الحركة العربية الواحدة " مع بداية التحول من وحدة الصف العربي ، إلى وحدة الهدف ، ثم إلى التنظيم الطليعي ، وطليعة الاشتراكيين ، ومنظمة الشباب الاشتراكي ، وأخيراً بيان 30 آذار" مارس " 1970 . لقد فشلت تلك المحاولات جميعاً ، وإن كانت قد أدت أدواراً مرحلية محدودة ، وهذا الفشل لم يكن لأن جمال عبد الناصر كان على قمة السلطة ، مما يجعل تلك الهيئات صنيعة السلطة ، وحسب ، ولكن لأن لوثة الحزب الواحد ، والحزب القائد ، والحزب الحاكم ، كانت قد تسربت إلينا من الاتحاد السوفيتي ، ومعسكره الاشتراكي الذي كان حليفاً لنا في مواجهة العدوان الصهيوني ، والإمبريالي الذي لم يحمل إلينا إلا الاستعمار ، والاحتلال ، والتجزئة ، والاحتكارات ، ونهب الثروات ... على أية حال ، فإن أنور السادات الذي قاد الانقلاب على نهج جمال عبد الناصر قد استخدم أدوات النظام ذاتها بما فيها أجهزته الأمنية ، وأجهزته السياسية ، فأجهزة المخابرات ، والاتحاد الاشتراكي كانوا في صلب الانقلاب ، وللأسف الشديد ، فإن الذين حاولوا تقليد جمال عبد الناصر ، من الحكام في الوطن العربي ، لم يأخذوا عنه إلا نظام الحكم الذي انقلب عليه ، كانوا، وما زالوا ، كأنور السادات ، بالضبط كأنور السادات ، أخذوا تركيبة النظام ، للتفرد بالسلطة ، والانقلاب على المبادئ حتى الذين جاؤوا بأحزاب إلى السلطات طوعوا تلك الأحزاب فيما بعد لتكون خادمة لتلك السلطات ، عوضاً من أن تكون موجهاً لها ، ولم يأخذوا شيئاً من إخلاص جمال عبد الناصر للمباديء ، وتفانيه لتحقيقها . ( 4 ) ربما أخذتني مشاعري ، وهواجسي بعيداً ، عما أردته من هذا الحديث ، الآن سأعود ... منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً كتبت ما معناه ، وبعد أن بدأت حروب الردة عن القومية العربية تنطلق من القاهرة ، ومن غير القاهرة شاملة وطن العرب ، علناً ، وعلى رؤوس الأشهاد ، قلت : إن ما يحدث لا يمكن أن يكون مرتجلاً ، إنه تنفيذ دقيق لمخططات مدروسة بعناية ، وكان تنفيذها ينتظر غياب ، أو تغييب جمال عبدالناصر ، وبما أنهم لا يبنون عادة على الرمال ، فإن تغييب جمال عبد الناصر كان حجر الزاوية في تلك المخططات المعادية للأمة العربية ..وبالتالي فإن تلك المخططات لم تكن تنتظر الصدفة ، لم نكن نملك معلومات ، ولكن أي تحليل يعتمد البحث العلمي ، والتداعيات التي حصلت ، سيصل إلى هذه النتيجة ..... اليوم ، الأستاذ محمد حسنين هيكل ، وبعد أربعين عاماً يقدم الدليل ، وهو الآتي : " إن جهاز مخابرات الجمهورية العربية المتحدة تمكن من زراعة أجهزة تنصت بالغة الدقة في سفارة دولة الولاياتالمتحدةالأمريكية ، وأن ذلك وفر معلومات بالغة الأهمية في مجالات مختلفة ذكر الأستاذ هيكل أمثلة على بعضها ، ما يهمنا ، وما يدخل في نطاق هذا الحديث ، أنه بتاريخ 6 ديسمبر – كانون الأول 1969 تم تسجيل لقاء على مستوى عال بين الوزير المفوض الأمريكي في سفارة الولاياتالمتحدة " بدولة إسرائيل " ومديرة مكتبه ، وبين السفير الأمريكي في القاهرة ، وممثل المخابرات المركزية الأمريكية في الجمهورية العربية المتحدة .. وبما أن الحدث هام ، وعاجل فقد نقل الشريط إلى الرئيس جمال عبد الناصر ليستمع بنفسه على التسجيل الذي جاء فيه : - إن جمال عبد الناصر هو العقبة الرئيسية في قيام علاقات طبيعية بين المصريين و" الإسرائيليين " . - إن هناك حالة من الإلتفاف الشعبي المصري ، والعربي حول عبد الناصر تجعل السلام مع إسرائيل بالشروط الأمريكية مستحيلاً ، وأن مصر التي كان من المفترض أنها مهزومة تبدو منتصرة ، في حين أن إسرائيل التي كان من المفترض أن تبدو منتصرة تبدو مهزومة بسبب حرب الاستنزاف . - إن سمعة " موشي دايان " أكبر بكثير من إمكانياته . - إن قادة إسرائيل "جولدا مائير ، موشي دايان ، أهارون ياريف ، إيغال آللون" قد أجمعوا على أن بقاء إسرائيل ، ونجاح المشروع الأمريكي في المنطقة مرهون باختفاء جمال عبد الناصر من الحياة وأنهم قرروا اغتياله بالسم ، أو بالمرض .. - إن "غولدا مائير" رئيسه وزراء " دولة إسرائيل " قالت بالنص ، وبالحرف الواحد ( we will get hi ) " سوف نتخلص منه " وإلا فإن العالم العربي ضائع ، وسيخرج عن نطاق السيطرة الأمريكية ... يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل أن عملية " عصفور " هذه ، وهو رمز عملية التنصت على السفارة الأمريكية في القاهرة ، كانت محصورة بعدد قليل جداً من رجال عبد الناصر ، علي صبري ، وشعراوي جمعة ، والفريق محمد فوزي ، وسامي شرف ، وأن جميع المعلومات التي كانت ترد عن طريق هذا المصدر كانت محصورة بهم ، وان أوامر الرئيس جمال عبد الناصر كانت أن لا يعلم أنور السادات بسر تلك العملية .. يضيف الأستاذ هيكل ، أن جمال عبد الناصر كتب تلك المعلومات المتعلقة بحياته ، بخط يده على ورقة ، ويقول : "لقد ظلت في ذهني باستمرار ، وأنا في غرفة جمال عبد الناصر في اللحظات الأخيرة من حياته ، وفي الجنازة التي لم أستطع استكمالها للنهاية ... كنت أسأل نفسي .. هل هناك معنى في هذا .. إني أتذكر صوته .. وهو يقرأ ما يرتب له لإنهاء حياته ، لأن إسرائيل تعلم أنه العقبة الأساسية .." ( 5 ) أخطر ما في تلك القصة ، هو ما جرى بعد رحيل جمال عبد الناصر .. يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل ، أن علي صبري ، وشعراوي جمعة ، والفريق محمد فوزي ، وسامي شرف كانوا قلقين بعد رحيل جمال عبد الناصر ، من أن يعرف أنور السادات ، أي رئيس الجمهورية الجديد بالعملية " عصفور " ، وكانوا يخشون عليها منه ، بل أنهم رأوا في بعض ما وصلهم عبر تلك العملية ما قد يدين رئيس الجمهورية الجديد ، ويستوجب محاكمته .. لكن ، وهنا كانت المفاجأة ، أن الرئيس أنور السادات لم يعلم بتلك العملية إلا عندما أخبره الأستاذ محمد حسنين هيكل ذاته ، فقد كان أنور السادات وأسرته في زيارة للأستاذ هيكل في مزرعته ، في برقاش ، حيث أفشى الأستاذ هيكل للرئيس السادات بالسر ، وأخبره بالعملية ، فذهل السادات ... وكان ذلك قبيل إنقلاب السادات على الثورة في 15 مايو 1971 .. واعتقال كل ما تبقى من رجالاتها في السلطة ، ومنهم كل أولئك المشرفين ، والعارفين بأمر تلك العملية المخابراتية ، البالغة الخطورة ... المهم كيف تصرف السيد الرئيس أنور السادات ..؟ ، لقد استدعى الرئيس ، على الفور ، السيد كمال أدهم رئيس المخابرات السعودية التي يصفها الأستاذ هيكل نفسه أنها الأبنة الشرعية للمخابرات المركزية الأمريكية ال CIA .. وقد أخبر السادات الأستاذ هيكل أنه أفشى السر للسيد كمال أدهم ، ووصف الموقف " إن الواد كمال كان هيقع من طوله لما أخبرته بالأمر " وبالطبع فإن الأمر وصل على الفور إلى السفارة الأمريكية في القاهرة التي طلبت أجهزة متطورة لإبطال مفعول الميكروفات المزروعة داخل قاعات السفارة الأمريكية ، وسكت العصفور عن التغريد .. ولعل لنا رأي آخر ، من خلال دراسة شخصية الرئيس السادات ، فهو لا يمكن أن يكون قد ترك شرف تقديم البلاغ للمخابرات المركزية الأمريكية عن تلك العملية للسيد كمال أدهم ، وإنما لابد انه قام هو عن طريق قناة الاتصال الخاصة به ، بالإبلاغ ، ومن ثم أعلم كمال أدهم ، لينسب إليه أنه هو الذي أبلغ المخابرات المركزية الأمريكية ، بالأمر ...لا أكثر ولا أقل .... على أية حال أن هذه الحادثة تثير تساؤلات عديدة ، نرى أنه لابد من إثارتها ، ولعل الأستاذ محمد حسنين هيكل معني بها أكثر من أي أحد آخر والإجابة عليها قد تضع الأمور في نصابها الصحيح . أولاً : لماذا سكت الأستاذ محمد حسنين هيكل على هذا السر طوال تلك ال 40 سنة البالغة الخطورة في تاريخ أمتنا العربية ومصرفي القلب منها ..؟ ثانياً : إذا كان الرئيس جمال عبد الناصر لا يثق بأنور السادات ، وإذا كانت بعض الدلائل التي غرد فيها " العصفور " تلقي بالشبهة عليه ، وإذا كان الرئيس جمال عبدالناصر قد تأكد أن حياته في خطر ، فكيف يترك أنور السادات نائباً لرئيس الجمهورية في تلك المرحلة الدقيقة ، وهل صحيح أن قرار إعفاء أنور السادات من مهامه كان جاهزاً وأن أحداث أيلول الأسود قد أخرت إعلانه ، ثم إذا كان السادة علي صبري ، وشعراوي جمعة ، والفريق محمد فوزي ، وسامي شرف تساورهم تلك الشكوك ، بل وأكثر من الشكوك ، كيف وافقوا على أنور السادات رئيساً للجمهورية بعد رحيل جمال عبد الناصر ، بينما كانوا يمسكون بمفاصل السلطة المرّكزة في أيديهم ، هل كانوا معاً ، أو أن كل واحد منهم على حدة ، قد توهم أنه يستطيع أن يحكم من خلال أنور السادات الضعيف ..... ألم يخبرهم " عصفور " أن الهدف من التخلص ، من جمال عبد الناصر ، هو بقاء إسرائيل ، ونجاح المشروع الأمريكي في المنطقة ، وإزاحة العقبة الرئيسية عن طريق قيام علاقات طبيعية بين المصريين و"الإسرائيليين" ..؟ ثالثاً : لماذا أبلغ الأستاذ محمد حسنين هيكل أنور السادات بسر " عصفور " رغم أوامر جمال عبد الناصر ، وتشكك أبطال العملية ، والعارفين فيها بأنور السادات ..وفي تلك المرحلة بالذات التي كان يستعد فيها السادات للانقضاض على ما تبقى من ثورة يوليو ، وليس مجرد التخلص من طامعين بالسلطة ، الأستاذ هيكل لم يفصح عن تلك الأسباب ، لكن ، ربما تكون أن الأستاذ هيكل كان حسن النية ، أو أنه قد قدر أن أنور السادات ، وبعد أن أصبح رئيساً للجمهورية لم يعد من الجائز إخفاء أسرار عنه . وإذا كان هذا هو السبب فهو محق في ذلك ، لكن تصرف الرئيس السادات بعد أن عرف بالأمر ، قد نقل الريبة إلى اليقين ، عندما أبلغ المخابرات المركزية الأمريكية بالأمر ، وأنهى تلك العملية ذات الفائدة القصوى للدولة في الجمهورية العربية المتحدة ، خاصة في تلك المرحلة التاريخية الحاسمة .. ذلك أن ما قام به الرئيس السادات بهذا الصدد هو فعل جرمي بكل المقاييس تتوفر فيه الدوافع المادية ، والمعنوية ، لجريمة الخيانة العظمى ، حيث قام موظف بمنصب رئيس جمهورية بإفشاء أسرار الدولة لمخابرات دولة حليفة لدولة عدوة هي " دولة إسرائيل " كانت ، في حينه ، في حالة حرب مع دولة الجمهورية العربية المتحدة . وبالتالي ، فإن الواجب الوطني كان يفرض على الأستاذ محمد حسنين هيكل تقديم بلاغ إلى النائب العام في الجمهورية العربية المتحدة ، ليضع يده على تلك القضية ، وإحالتها إلى المرجع القضائي المختص .. رابعاً: إن تلك الأحداث وقعت قبيل انقلاب أنور السادات في 15 مايو"أيار" 1971 على الخط الذي رسمه جمال عبد الناصر ، وبالتالي فإن أنور السادات لم يكن في مجال تصفية حسابات شخصية ، وإنما كان يمهد الطريق لقيام العلاقات الطبيعية مع "الإسرائيليين" بعد أن زالت العقبة التي كانت متمثلة بجمال عبد الناصر ... ( 6 ) هنا يثور سؤال بالغ الأهمية ، من حقنا على الأستاذ محمد حسنين هيكل ، وفاء للاحترام ، والتقدير الذي يكنه له تيار واسع من الجماهير العربية ، وأنا واحد منهم ، أن نوجهه رغم معرفتنا بحساسيته ، السؤال هو : لماذا وقف الأستاذ محمد حسنين هيكل هذا الموقف الحاسم ، في تلك الأيام الحاسمة مع الرئيس أنور السادات في مواجهة الرجال الذين مهما تنوعت الآراء فيهم كانوا أوفياء ، على طريقتهم ، لخط جمال عبد الناصر ، منهم من قضى ، ومنهم من ينتظر ، واختاروا الزنازين ، والسجون على ان يسيروا بالخط الذي أدخل الصهاينة إلى قلب القاهرة ، وساهم أخيراً ، بإدخال الأمريكان إلى قلب بغداد ، فيما بعد ...؟؟! إنني أعرف مدى حساسية السؤال .. لكنني على ثقة أن الأستاذ هيكل لديه الجواب ، وربما كان يعلم عن تلك المرحلة مالا نعلم ، لكن إذا كان ذلك كذلك ، فقد آن لنا أن نعلم ...! خاصة ، وأن الذين عاصروا تلك الأيام الحاسمة في تاريخ أمتنا يجمعون على انه لولا الموقف الحاسم الذي وقفه الأستاذ محمد حسنين هيكل إلى جانب أنور السادات ، والذي يعتبر البعض انه تجاوز فيه كل الحدود ، وساهم بتقديم صورة كاريكاتورية لأولئك الرجال ، الذين أطلق عليهم " مراكز القوى " تجاوزت حد التجريح الشخصي ، باعتبارهم ذوات شخصيات متنافرة يحضرّون الأرواح ، ويؤمنون بالخرافات ، ويلاحقون المنجمين ، والسحرة ، ويتقاتلون على السلطة ، وإلى آخره ...ويضيف ذلك البعض ، أنه لولا ذلك الموقف الحاسم من قبل الأستاذ هيكل مع أنور السادات في تلك الأيام الحاسمة ما كان له أن يكون رئيساً للجمهورية .. السؤال الآن ، وبعد تلك الأحداث المفجعة ، الهائلة ، هل يعتقد الأستاذ محمد حسنين هيكل أن هناك خطأ ، ما ، ارتكب في ذلك الموقف ؟ ، هل هناك حاجة إلى اعتذار واجب ؟؟ ، أم أنه مازال يعتقد أنه كان على صواب ، وأن لديه مبرراته ..؟ قد يكون لي الحق ، ولغيري كذلك ، أن نتكهن ، لكن الجواب ، اليقين ، يبقى ملك للأستاذ محمد حسنين هيكل ، دون سواه ، لكنني أريد أن أؤكد ، وبأكبر قدر من الصراحة التي عودنا الأستاذ هيكل أن نسمعها منه ، إنني أتفهم إلى حد كبير الخلافات التي عصفت بعلاقات الأستاذ هيكل برجال جمال عبد الناصر ، أو ما عرف بمراكز القوى ، وأتفهم أنهم حاولوا أن ينالوا منه ، وبالتالي من حقه أن يبادلهم المحاولة ، ولعل تلك كانت السمة العامة التي ميزت أية مجموعة في التاريخ البشري تلتفّ حول زعيم استثنائي ، ثم عندما يغيب فجأة ، تتفجر بينهم جميع الألغام التي كان وجود الزعيم يعّطل مفعولها .. لكننا هنا امام حدث تجاوز الخلاف ، إلى الانقلاب ، والردة ، وما كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل ، بالذات ، عن أنور السادات ، من خريف الغضب ، وحتى آخر ما يقوله الآن ، ينبئ أنه كان على معرفة بما يدور حوله ، له ، ومعه ، السؤال ، هل أن حقيقة نهج أنور السادات لم تتكشف للأستاذ هيكل ، إلا بعد ذلك ، وبالتالي ، فإنه فوجئ كما فوجئنا بالمدى الذي ذهب إليه ، وصولاً إلى كامب ديفيد ، وما بعد كامب ديفيد...؟ لن أنساق وراء الكثير من الأسئلة ، سأترك الموضوع بين يدي الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي يطل علينا أسبوعياً راجياً أن لا يترك أسئلة بدون جواب ، وأتذكر أنني منذ سنوات قليلة صرخت مستنكراً في زنزانتي المنفردة عندما أعلن الأستاذ محمد حسنين هيكل أنه قال ما عنده ، واعتزل .. قلت يومها بيني وبين نفسي ، لأنه لم يكن لدي من أقول له ... لا .. مازال لديك الكثير ، الكثير مما نحتاج أن نسمعه منك ... وكنت واثقاً انك ستعود ، وكنت سعيداً أنك عدت ..! ( 7 ) إن هذا يقودني للحديث عن الرجل ، الذي طالما تحدث إلينا ، عن الأستاذ محمد حسنين هيكل ، ومكانته ، موقعه ، ووقع أحاديثه علينا .. وأثرها فينا ..! لعل القاسم المشترك الذي كان يجمع غالبية ابناء جيلنا من المحيط حتى الخليج إعتباراً من نهايات العقد الأول من الصف الثاني من القرن العشرين ، هو أننا بدون اتفاق ، بدون تنظيم ، كانت لنا نواميس محددة تجمعنا ، كان من أهمها أننا في مساء الخميس الأول من كل شهر نتحّلق جماعات حول المذياع للاستماع إلى حفل أم كلثوم ، وفي مساء الجمعة من كل أسبوع نتحلق حول المذياع للاستماع إلى حديث محمد حسنين هيكل "بصراحة" من صوت العرب ، ذلك ان الأهرام كان نادراً ما يسمح لها بالوصول إلينا ، وكذلك ، كان يتكرر المشهد عندما كان يحين موعد يلقي فيه جمال عبد الناصر خطاباً ، أو في الذكرى السنوية للثورة حيث ننتظر حفل أضواء المدينة ، لنستمع جديد الأغاني الوطنية ، أم كلثوم ، وعبد الوهاب ، وعبد الحليم ، ونجاة ، وفريد ، وفايزة كامل ، وفايزة أحمد ، وشادية ، وصباح ، وعبد المطلب ، ونجاح سلام ، وفهد بلان ، والدوكالي ، وإلى آخرهم ... هكذا كانت أحاديث محمد حسنين هيكل بالنسبة لنا ، صوت الثورة ، صوت جمال عبد الناصر ، بل ربما في يوم ما حمّلنا تلك الأحاديث فوق ما تحتمل ، فاعتبرنا أن الأستاذ هيكل يقول ما لا يستطيع جمال عبد الناصر أن يقوله باعتباره حاكماً لدولة .. وبات جزءاً حيوياً ، ليس مما حدث ، ويحدث ، وحسب ، وإنما ناطقاً رسمياً باسم أحلامنا على امتداد الأمة ، والأرض العربية ، وكان التهجم عليه ، بالنسبة إلينا ، هو تهجم على الثورة ، والحلم معاً ، والدفاع عنه هو دفاع عنهما .. إلى أن غاب جمال عبد الناصر ، وانقضت الأشهر الثمانية الأولى على الغياب، عندها تفجرت أحداث 15 "مايو" ايار 1971 يومها فجع الشارع العربي القومي تحديداً بما حصل ، وافترقت المواقف .. ترى أين الحق ..؟ أنور السادات يمتلك الماكينة الإعلامية الهائلة التي بنتها الثورة ، ومحمد حسنين هيكل، الناطق باسمنا ، يتبنى موقف أنور السادات بالمطلق في تلك الأيام .. حتى بعد انقضاء أحداث "مايو" وإيداع ما سمي يومها "مراكز القوى" السجون ، بقي الأستاذ هيكل على موقفه ، وفي موقعه إلى جانب السادات خلال انتفاضة الطلاب ، ومظاهرات الجامعات في "فبراير"شباط 1972 ، حيث أضيف إلى معتقلي "مايو" السابقين من " مراكز القوى في النظام " معتقلين آخرين من الطلاب ، ومن خارج أجهزة النظام ، د . عصمت سيف الدولة ، ورفاقه ، باتهام غريب على الأذن العربية هو : "التآمر على إسقاط الأنظمة العربية والعمل لإقامة دولة الوحدة العربية " فللمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث ينصّب نظام إقليمي نفسه وكيلاً عن كافة الأنظمة العربية ، ومدعياً عاماً يسجن الناس باسمها ، كان الأستاذ محمد حسنين هيكل يومها في لندن ، حيث التقاه على عجل المرحوم الأستاذ محمد الجندي ، وأخبره بأنه قرر قطع رحلته ، والعودة إلى القاهرة على الفور لأن السادات اعتقل عصمت سيف الدولة ، ففوجئ رحمه الله بجواب الأستاذ هيكل : " ما يعتقلوا... وإيه يعني " ، على أية حال تمت تسوية الأمر بين الرجلين حيث جمعهما السادات في سجن واحد في "سبتمبر" عام 1981 ، لكنني أشير إلى تلك الواقعة ، فقط ، في معرض بيان الموقف الحاسم للأستاذ محمد حسنين هيكل إلى جانب أنور السادات في حينه .. أقصد من ذلك كله ، القول أن صوت أنور السادات ، ومن معه ، وفي المقدمة صوت الأستاذ محمد حسنين هيكل ، كان عالياً ، بينما الصوت الآخر بات مخنوقاً خلف الزنازين .. وبالتالي لم يكن هناك توازن فيما يصل إلينا .. وبالتالي أحدث ذلك خللاً ، وتخلخلاً في الصفوف ، والمواقف ..! ( 8 ) لقد أتيح لي بعد ذلك أن ألتقي الأستاذ محمد حسنين هيكل في منزله بالقاهرة ، في شتاء عام 1975 ، كنت يومها منشغل بالحوارات الجادة ، والهامة التي كانت تدور في نوادي الفكر الناصري في الجامعات ، حول أسلوب ، وهوية "الحزب الناصري" الذي يجب أن يتم تأسيسه ، وكنت أكرر ، وأعيد على مسامع الأخوة ، والمناضلين الذين التقيتهم في تلك الأيام الحاسمة تجربة ، أو تجارب العمل الناصري في سورية باعتباره بدأ إثر الانفصال 28 أيلول "سبتمبر" 1961 بينما بدأ في مصر بعد غياب جمال عبد الناصر 1970 ، وكنت حريصاً أن لا تتكرر الأخطاء ، والخطايا ، وكنت ، ومازلت متحمساً للعمل القومي العربي التنظيمي الموحد ، وكنت ، ومازلت أرى أن تنظيماً قومياً عربياً يتم تأسيسه على قاعدة صلبة في مصر ، مركز هذه الأمة ، سيوفر بداية جادة نحن بأمس الحاجة إليها ، وكان الأخوة ، والأصدقاء ، الذين ألتقيهم منشغلين بالواقع في مصر ، ومشكلاته المتشعبة ، ويجنحون إلى تأسيس "حزب ناصري مصري" ، وكانت لهم أسبابهم ...، وكانت لي أسبابي أيضاً ، على أية حال هذا حديث لانهاية له ....... المهم ، أنني وبرفقة بعض من أولئك الأخوة ، والأصدقاء زرنا الأستاذ محمد حسنين هيكل في منزله ، كان بضيافته الدكتور عبد الملك عودة عميد كلية الإعلام يومها .. بعد الترحيب ، والتعارف توجه الأستاذ هيكل بالسؤال إليّ : ما هي أخبار المشرق ..؟ كانت إتفاقيات فصل القوات في سيناء ، والجولان قد تم وضعها موضع التنفيذ ، وكانت "المقاومة الفلسطينية" قد رحّلت من الأردن إلى لبنان ، وكانت جبهة لبنان متوترة ، و" فتح لاند " تتوسع في جنوب لبنان ، وتتمدد إلى بيروت ، وإلى ما هو أبعد ... كنت اعرف أنني لن أضيف إلى معلومات الأستاذ محمد حسنين هيكل أي جديد ، فهو بالتأكيد يمتلك من المعلومات أكثر بكثير مما لدي ، لكنني قدرت أنه كان يريد أن يعرف الطريقة التي أقرأ بها الأحداث ، ربما ليتعرف على الشخص الذي يلتقيه للمرة الأولى .. قدمت وجهة نظري بطريقة مختصرة قدر الإمكان ، وقد علق على ذلك بأنه يشاركني تخوفي من اتجاه الأحداث ، ثم وفجأة أحسست ، وكأنه يخفي انفعالاً هائلاً ، قال : هل استمعت إلى ما قاله أنور السادات ؟ ، كان أنور السادات يومها في دولة الولاياتالمتحدةالأمريكية ، وكان قد صرّح لإحدى الصحف الأمريكية : " أن محمد حسنين هيكل عميل للمخابرات المركزية الأمريكية " قلت : للأسف نعم ، قال : سأرد عليه قريباً ، وفي الوقت المناسب ، ليس باللغة العربية فقط ، وإنما باللغات العالمية كلها لأبين من هو عميل المخابرات المركزية الأمريكية .. ؟ ، وكانت لدي رغبة بالخروج من هذا الموضوع ليس لأنه يسبب انفعالاً للأستاذ محمد حسنين هيكل ، وحسب ، ولكن لأن تصريح السادات يبدو هذلياً ، ولا يستحق الوقوف عنده ، يكفي أنه يصدر عن أنور السادات الغارق في مشاريع المخابرات المركزية الأمريكية إلى ما فوق أذنيه وبالتالي يفتقد أية مصداقية بهذا الشأن .. وينطبق على ذلك قول الشاعر : " إذا أتتك مذمتي من ناقص ..." وبالتالي لا أريد أن أضّيع هذا الوقت الثمين .... ( 9 ) على أية حال كنت قد وضعت هدفاً ، وحيداً ، لذلك اللقاء ، وهو أن أنقل للأستاذ هيكل هواجسي حول ضرورة بناء التنظيم القومي ، للخروج من المحنة ، وكنت أعوّل كثيراً على رأيه ، خاصة ، وأن لرأيه تأثيراً كبيراً على الشباب ، وعلى الأخوة الذين رتبّوا موعد هذه الزيارة ، ورافقوني .. وكذلك خاصة داخل نوادي الفكر الناصري ، وقد فاجأني الأستاذ هيكل ، وكأنه يعلم هواجسي ، فما أن بدأت التمهيد للدخول في هذا الموضوع ، حتى وقف الأستاذ هيكل ، واستأذن الحاضرين بأنه يود الحديث معي على إنفراد ، وبالفعل اصطحبني إلى صالة داخلية في منزله ، وما أن استقر بنا المقام حتى اقترب مني ، وقال بلهجة حاسمة : حبيب يجب أن تباشروا على الفور بناء التنظيم ، وعلى الفور ، كررها ثانية ، على الفور ، أجبته في محاولة لالتقاط الأنفاس : يا أستاذ هيكل ، ألست أنت صاحب نظرية أن الأعلام في العصر الحديث يغني عن التنظيم الحزبي ، لأن الأعلام يحقق الاتصال المباشر بين الزعيم ، والجماهير ، وخاصة في حالة علاقة جمال عبد الناصر بالجماهير ..؟ قال : لا ، أنا قلت ، أن قيام الإعلام بدور تحقيق الاتصال المباشر بين جمال عبد الناصر ، والجماهير يعيق ، وقد أعاق فعلاً بناء التنظيم السياسي القومي ، أما الآن فإن هناك ضرورة تاريخية لبناء التنظيم السياسي ، ولا بديل عنه .. وكان ذلك مدخلاً مناسباً كي أشرح للأستاذ هيكل هواجسي ، بأن الشباب الناصري في مصر ، ومن خلال لقاءاتي المتكررة في نوادي الفكر الناصري منشغل ، وقد يكون محقاً في ذلك بالأوضاع في مصر ، وأن الرأي السائد لدى الغالبية منهم ، هو ضرورة بناء تنظيم ناصري يهتم بهموم الناس في مصر ، المعاشية ، والحياتية أولاً ، ومن ثم الانطلاق إلى العمل القومي ، وتشعب الحديث ... ، إلى أن أكد لي في النهاية موقفه ، الذي كنت واثقاً منه ، وأنه لابد أن يصدر عن قامة عالية في تاريخنا العربي المعاصر كالأستاذ هيكل ، قال لي بحسم ، أنه مع بناء التنظيم على الصعيد القومي ، وأنه لن يتردد في بذل الجهد لذلك ، وهكذا غادرت ، وأنا أكثر احتراماً وتقديراً للرجل ، لكن ما أن اختليت مع نفسي حتى أحسست بحاجة إلى ساعات وربما أيام أقضيها معه ، لكن للأسف الشديد ، وبسبب ظروف قاهرة ، كان ذلك اللقاء هو اللقاء اليتيم ، حتى الآن ... ( 10 ) الآن ، وقد دخلنا أواخر خريف العمر ، أمد الله بعمرك يا أستاذ هيكل ، هل ستتيح لنا الأيام لقاء آخر .. أرجو ذلك ، لكن في زمن أرجو أن يكون مختلفاً عما نحن فيه ، في زمن تكون هذه الأمة قد تلمست طريقها للخروج من محنة طالت أكثر مما ينبغي ، وحتى يتحقق ذلك سنبقى على الموعد مع الأستاذ هيكل مساء كل خميس نستمع إليه ، ولعله يحس بأصواتنا ، وهواجسنا ، ولن ننسى يوماً ، أن له في أعناقنا ديناً لن نوفيه إياه ، وهو أنه ربما الوحيد الذي يمتلك من الوثائق ، والمعلومات ما يفيد الجيل العربي الجديد في تلمس طريق الخلاص .. والأهم من ذلك أنه يمتلك البوصلة ، ويضع ذلك كله في سياقه ... وما أحوج هذا الجيل العربي الجديد لاستيعاب التجارب المرة ، واستخلاص الدروس ، حتى لا يضل الطريق مرة أخرى ، وحتى يحصّن مواقعه من المتسللين ، والأدعياء .. وحتى يعرف في أية ساحة يقدمّ الشهداء للتحرير ، وليس للتخريب ، ويرى الصورة بشموليتها للوطن وللأمة ...وكل عام ، وأمة جمال عبد الناصر العربية تنادي : "يا بلادي لا تنامي ، وادفعي الصف الأمامي"