أعلن نتنياهو انهم "في معركة كبيرة على القدس"، وأعلن وزيره للأمن الداخلي اللجوء إلى قوانين الطوارئ ضد المقدسيين العرب، ودعا رئيس الائتلاف الحكومي أحزاب المعارضة للانضمام إلى حكومة وحدة لحالات الطوارئ، بما يرقى إلى إعلان حرب على القدس وعربها بقلم نقولا ناصر* في إدانته لعملية دير ياسين يوم الثلاثاء الماضي، التي أودت بحياة أربعة من كبار الحاخامات اليهود الصهاينة مزدوجي الجنسية، كان لافتا للنظر أن يناشد الرئيس الأميركي باراك أوباما "المواطنين العاديين" في القدس من أجل "التعاون لخفض التوترات" في المدينة، ولا بد ان أجهزة مخابراته وكتبة بياناته ومستشاروه في السياسة الخارجية كانوا يعرفون تماما بأن انتفاضة القدس الحالية ضد الاحتلال الإسرائيلي شعبية وعفوية ولا تأتمر بأوامر القيادة الفلسطينية الشريكة لبلاده في ما يسمى "عملية السلام". ولا بد أن الدوائر المختصة في إدارته تعرف بأن السلطة الفلسطينية لا سلطة لها في القدس لا على الأرض ولا على السكان، واطلعت على تقارير نظيراتها في دولة الاحتلال الإسرائيلي بأن منفذي العملية ليس لهم "سوابق أمنية"، وبأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس "لا يرسل إرهابيين ولا يشجع مباشرة أعمال الإرهاب" كما قال رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو بعد العملية، وبأن ما يحدث في القدس الآن هو "رد فعل مستقل وفردي وغير متوقع من الشباب الذين يدافعون عن حقوقهم ومعتقداتهم" ومقدساتهم وأملاكهم كما قال مؤسس ورئيس الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية "باسيا" مهدي عبد الهادي، ومن هنا كانت مخاطبة أوباما ل"المواطنين العاديين" في القدس. سقط في عملية دير ياسين أربعة من كبار الحاخامات اليهود الصهاينة الذين يخططون وينظرون ويحرضون على تهويد القدس لتبعث هذه العملية بمجموعة رسائل سياسية أهمها أن المدينة المقدسة التي تعلنها دولة الاحتلال من جانب واحد عاصمة أبدية موحدة وغير مقسمة لها لن تكون كذلك أبدا، وثانيها أن القيادات "السياسية" والدينية الفلسطينية "الواقعية" في واد وعرب بيت المقدس في واد آخر. وكون ثلاثة من الحاخامات القتلى أميركيين - ولهذا السبب بادر مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي "اف بي آي" إلى التحقيق في العملية كما ذكرت شبكة "سي ان ان" يوم الأربعاء الماضي - وواحد بريطانيا يذكر بأن المشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية في فلسطين ما كان ليتحقق ويستمر لولا الدعم الأميركي والبريطاني المستمر لهذا المشروع. في الرابع عشر من الشهر الجاري كتب شمويل روزنر في "جويش جورنال" أنه "من السابق لأوانه المسارعة إلى الاستنتاج" بأن ما يحدث في القدس منذ أشهر هو انتفاضة فلسطينية ثالثة، لكن رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو يتصرف وكأن الانتفاضة الثالثة قد انطلقت فعلا من القدس. فبعد العملية أعلن نتنياهو انهم "في معركة كبيرة على القدس"، وأعلن وزيره للأمن الداخلي اسحق اهرونوفيتش اللجوء إلى قوانين الطوارئ ضد المقدسيين العرب، ودعا رئيس الائتلاف الحكومي زئيف ألكين أحزاب المعارضة غير العربية للانضمام إلى حكومة وحدة لحالات الطوارئ، بما يرقى إلى إعلان حرب على العرب في القدس. وهذه حرب يعلنونها تحديدا على شرقي القدس المحتل عام 1967 بعد أن طفح الكيل بعرب المدينة وهم ينامون ويصحون على صوت الجرافات التي تهدم بيوتهم لتبنى فوق أنقاضها مستعمرات استيطانية جديدة لم تبق لهم إلا أقل من (13%) من أرض المدينة وبدأت تغلق الطوق حول الحرم القدسي الشريف بالتغول الاستيطاني المتسارع في بلدة سلوان، الجوار العربي المباشر الوحيد المتبقي للحرم ومسجده الأقصى المهدد بالانهيار نتيجة الأنفاق والمرافق السياحية التي حفروها تحته ومخططاتهم للتقسيم المكاني والزماني فوقه. وهم يسوّقون هذه الحرب على شرقي المدينة كحرب من أجل ضمان "توحيدها" بالتهويد، ولأن نتنياهو ورئيس بلدية الاحتلال نير باركات كانا طوال السنوات الماضية "يبيعاننا أكاذيب عن عاصمة إسرائيل الموحدة والمزدهرة" كما كتب نوام شازيف في موقع "النداء المحلي" العبري يوم الثلاثاء الماضي. لكن "بعد مرور 47 عاما على قرار توحيد القدس فإنها غير موحدة، وللأسف فإنها لن تكون موحدة أيضا بعد 47 عاما آخر" كما كتبت أريئيلا رينغل هوفمان في "يديعوت أحرونوت" يوم الخميس الماضي، مقترحة "تقسيم القدس عاجلا وليس آجلا". فالمدينة المقدسة لم تبد في أي وقت منقسمة ومقسمة أكثر مما هي عليه اليوم، خصوصا بعد عملية دير ياسين التي بعثت رسالة جلية ساطعة كشمس الظهيرة في عز الصيف بأن العرب المرابطين في بيت المقدس لن يسمحوا أبدا بتهويد المدينة لتوحيدها تحت سيادة الاحتلال. وعلى الأرجح لن يكون مصير تهديد نتنياهو ب"القبضة الحديدية" و"الرد بقسوة" على انتفاضة المقدسيين العرب أفضل من تهديدات نظيره الأسبق اسحق رابين، صاحب سياسة "تكسير العظام"، ضد الانتفاضة الفلسطينية الأولى أواخر ثمانينيات القرن العشرين المنصرم. إن نار المقاومة المقدسية التي أشعلها حرق "بوعزيزي القدس" الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير بأيدي المستوطنين العنصريين الذين تلقوا تعاليمهم الدينية والسياسية من أولئك الحاخامات في كنيس "هار نوف" وأمثاله تبدو اليوم قد استعر أوارها بحيث يكاد يستحيل على كل تلك القيادات أن تنجح في إطفائها حرصا على استمرار "عملية سلام" كان الرفض الشعبي لها السبب الرئيسي في اشتعالها. يقول خبير الخرائط المقدسي خليل التفكجي، الذي لم تنجح عشرون عاما من المفاوضات العبثية في إعادته إلى مكان عمله في "بيت الشرق" المغلق في القدس، إن كنيس "هار نوف" مبني في حي يهودي يحمل ذات الاسم أقيم على أرض تابعة لقرية دير ياسين غربي المدينة، التي ترتبط المذبحة الفلسطينية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية فيها في التاسع من نيسان / أبريل عام 1948 ب"النكبة" العربية والإسلامية في فلسطين. لقد كانت عملية دير ياسين ثارا متأخرا لذبح ما يزيد على (110) من عربها في عام النكبة، وانتقاما لم يتأخر كثيرا لحرق الطفل أبو خضير حتى الموت بعد تعذيبه على أيدي المستوطن حاييم بن ديفيد الذي يداوم أبوه يوسيف على الصلاة في هذه الكنيس والذي تقول وسائل إعلام دولة الاحتلال إن عملية دير ياسين كانت تستهدف النيل منه. ونظرا لوقوعها في "القدس الغربية" كانت العملية كذلك تذكيرا للقيادات المفاوضة الفلسطينية بأن اعترافها المسبق من جانب واحد بغربي المدينة عاصمة لدولة الاحتلال من دون اعتراف مقابل بمطالبتها بشرقيها عاصمة للدولة الفلسطينية المأمولة إنما هو اعتراف يرفضه ضمير وطني ووجدان شعبي ما زالا يعدان كل القدسوفلسطين محتلة. غير أن القيادات "السياسية" والدينية الفلسطينية "الواقعية" لا تبدو معنية بكل ذلك وتبدو بوصلتها بعيدة تماما عن نبض شعبها. فالرئيس عباس يدين العملية ويجدد دعوته إلى "التهدئة" ويعد كنيس هار نوف مكانا للعبادة لا يجوز الاعتداء عليه بالرغم من علمه اليقين بأن الحركة الصهيونية "العلمانية" ما زالت تتخذ من الديانة اليهودية أداة تحريضية في خدمة مشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، وما زالت تتخذ من الكنس اليهودية مقرات للتعبئة والتحريض في خدمة هذا المشروع، وعلمه اليقين أيضا بأن كل الإرهابيين اليهود قد تخرجوا منها، وبأن كل أعمالهم الإرهابية يتم التنظير لها فيها، وبأن كل مخططات تهويد الحرم القدسي ترسم فيها. وكان عباس قد وصف الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) بانها كانت واحدة "من أسوأ الأخطاء" الفلسطينية وتعهد بمنع تكرارها، لكنه تعهد يصعب تنفيذه لأن "الانتفاضة لا تبدأ بقرار وتنتهي بقرار" كما سبق أن قال عثمان أبو غربية عضو اللجنة المركزية لحركة فتح التي يرأسها عباس. واستنكر العملية كذلك في "بيان مشترك" رؤساء الكتل العربية في كنيست دولة الاحتلال: رئيس القائمة العربية الموحدة للتغيير إبراهيم صرصور، ورئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة محمد بركة، ورئيس كتلة التجمع الوطني الديمقراطي جمال زحالقة. ولم تتأخر قيادات دينية، "واقعية" أيضا، في تجاوز الإدانة والاستنكار إلى الدعوة إلى التهدئة بالمشاركة شخصيا في تقديم العزاء في الحاخامات القتلى في مكان العملية. واجتمع في هذه المناسبة الشيخ محمد كيوان الذي انتخب للمرة الثانية في آب / أغسطس الماضي رئيسا لنقابة الأئمة والمؤذنين في دولة الاحتلال ومعه الشيخ سمير عاصي إمام جامع الجزار بعكا، وبطريرك القدس للكاثوليك فؤاد الطوال العربي الأردني، وبطريرك القدس للأورثوذكس ثيوفيليس الثالث اليوناني، وأول أسقف عربي للكنيسة الانجليكانية سهيل دواني العربي الفلسطيني، من دون أن يتنازل واحد من كبار حاخامات دولة الاحتلال ليكون في استقبالهم، على ذمة الصحيفة العبرية باللغة الانكليزية "ذى تايمز أوف اسرائيل"، ومن دون أي سابقة لهم للتعزية معا في شهداء إرهاب دولة الاحتلال وإرهاب مستوطنيها من عرب فلسطين وقادة تحررهم الوطني. منذ احتلال شرقي المدينة قبل سبعة وأربعين عاما تعمل سلطات الاحتلال لتحقيق هدف مزدوج لزيادة عدد المستوطنين اليهود في المدينة وخفض عدد مواطنيها العرب الذين تعاملهم كمقيمين فيها يمكن طردهم منها في أي وقت كونهم ليسوا "مواطنين" في دولة الاحتلال ولا في فلسطين ولا يحملون جوازات سفر لا فلسطينية ولا إسرائيلية، ربما بانتظار بيعهم إلى دولة ما كما باعت الكويت مؤخرا "البدون" جنسية فيها إلى جزر القمر. إن القيادات الفلسطينية "الواقعية" التي تتعامل مع احتلال القدس كأمر واقع لا يمكن مقاومته لن تحل لا مشكلة القدس ولا مشكلة أهلها بعقد آمالها على الأممالمتحدة، فمثل هذا الرهان لا يقل في عدم واقعيته عن الاقتراح القديم للفيلسوف الفرنسي اليساري روجيه دوبريه الذي سبق له أن طالب الجمعية العامة للأمم المتحدة بالتصويت على نقل مقر المنظمة الأممية إلى القدس، "مهد حضارات العالم" كما وصفها. * كاتب عربي من فلسطي