لطالما انتظرنا هذه الصحوة العربية ، ولطالما شدنا التفكير في كيفية مواجهة الاستبداد ، ، وحاولنا التخلص من الظلم والقهر ، ومنا من انزوى وارتاح بعيدا عن هموم التفكير وآخر من جاهد نفسه لتوفير لقمة العيش لا يبالي بمن حوله ، وقضينا فترة طويلة يجذبنا الجدل العميق مرة إلى الأمل وأخرى إلى اليأس ، فاتجه الناس طوائف يتكيفون مع الوضع ويتناغمون ، فمنهم من يساوم مواطنته ، ومنهم منتقم على الوضع ، وتخلى الكثيرون عن العمل الجمعوي أو الحزبي ، وانقسم المجتمع إلى فئات لها اتجاهات عرقية تعصبية وأهداف كلها طموحات فاستسلموا للأمر الواقع إيمانا منهم أن الاستسلام خير من الهزيمة . عموما تشتت الجميع بين أكبر مستفيد مجانا إلى أدنى محروم من خيرات بلاده ، فهناك الذين تحملوا الصبر على الحرمان ، ومن الذين تحملوا المشاق والمتاعب لما كبلت أفواههم وأيديهم ، ومنهم من فضل السجن بدل التخلي عن الكرامة والحرية ، وآخرون تملقوا فاستفادوا ووجدوا متعتهم في ذلك ، وهناك من استغل الوضع وباع كرامته وعاش بين البذخ والذل يستهزئ أحيانا من هذا وذاك ويرشد إلى اتباع مجرى النهر حيث الأمان ، وهكذا اقتضت الأوضاع وجود تفاوت بين الناس على مستوى المصالح الفردية أو الحزبية أو الجمعيات ، وانطبق علينا أوصاف ونعوت المفكرين الغربيين لنا بفكرتهم القائلة بأن الشعوب العربية لها قوانين تختلف عن الشعوب الأخرى التي لا تقبل الذل والاستكانة . وإذا كانت الفجوة عميقة بين هذا وذاك والحاكم والمحكوم ، فإن الصلة تواصلت وتمكنت الشعوب بطموحها الحفاظ على تماسكها وارتباطها بالحاكم تجنبا للتهور وإرهاقا للدماء ، في الوقت الذي نهج الحاكم أسلوب دهاء معاوية في الحفاظ على الشعرة سليمة ، غير أن الشعرة شاخت كما شاخ الكل وتآكلت من الوسط ولم ينتبه إليها لا الحاكم ولا من يقف من ورائه في الغرب ، ولا المحكوم المغلوب على أمره ، هذا الوضع عاشته الأمة العربية منذ عقود تتخللها في بعض الجهات ثورات منها ما استحق هذا الاسم ، ومنهم الذين تتطاولوا عليه بالقتل والسجن ليصلوا إلى الحكم فلا يعدو أن يكون انقلابا وسمي بثورة ... حتى اندفع الشباب تحت تأثير الفقر والحرمان في انتفاضة قطعت الشعرة والصلة معا ، وانكشف المستور ، وانكسر جدار الخوف والاستكانة، بعدما ظل طابع الاحتراس والحذر بين الحاكم والمحكوم مدة طويلة والمواجهة صامتة موقوتة ، فالأنظمة نجحت على كل حال في جعل المواطنة واجبة بدون مقابل ، ذلك أن المواطن يملك حق الموالاة للحاكم كما في القرون الوسطى ولا يستطيع التعبير بحرية عما يروج في خاطره ، بل عن أدنى حقوقه ، وفي أماكن أخرى له حق التعبير ولكن داخل قوانين إطار اللعبة المتداولة ، ويعيش بين أمل تحسن الوضع وقلق تبذير موارد دولته فيما لا يفيد ولا يعنيه . ولأن الثورة هي الوسيلة الموجودة للتعبير عن الحقوق والمطالب في غياب الحريات والحقوق المشروعة ، ولأن مطالب الشعوب لا تتحقق إلا بوسائل الضغط ، وفي ظل استمرار تواطئ النخب مع الأنظمة الفاسدة الصماء والتي لا تتخلى عن كرسي الحكم ولا تزول إلا بالقوة ، والتي لا توجد فيها فرصة للتعبير السلمي عن مطالبها السياسية والاقتصادية ، لذلك جاءت هذه الانتفاضة الشعبية معبرة عن ضرورة التحول نحو الديمقراطية والوعي العربي ، فأعطاها الكثيرون تسمية بحسب التوقيت والجهة التي اندلعت فيها كثورة الياسمين، والفل ، والثورة الليبية ، وحركة العشرين فبراير، وانتفاضة درعا السورية أو ثورة الحرية، وقد تخللتها تعبيرات أخرى كجمعة الغضب أو جمعة الزحف، مع العلم أن الثورة تحتاج إلى قيادة سليمة وتمثيلية ذات كفاءة عالية . إن هذه الثورة هي صحوة عربية قبل أن تكون ثورة شعبية ، وهي ليست ثورة دينية ولا إسلامية ولا قومية ، إنها صرخة شعب أحيت الروح المعنوية للإنسان العربي ، وشعر بتكافئه مع المواطن الغربي ، فعندما يصرخ الشعب فلأن كرامته انتهكت وحقوقه هضمت وحريته صفدت ، وأصبح لا يميز بين ما هو سياسي ولا ديني ، بل يحركه الظلم والاستبداد ، ولهذا لا نجد في تونس ولا في مصر ولا في ليبيا ولا في اليمن ولا في المغرب من الإسلاميين الذين بدأوا الثورة أو المتحزبين ولا المفكرين ، وهذا يبين أن المواطن العربي المسلم لا تحركه العقيدة فقط ، فالعقيدة أحد مكوناته الشخصية وليست الحاسمة كما ساد الاعتقاد عند الغرب ، أكثر من ذلك فهي تقدم للعالم نموذجا للنضال الشعبي ضد الطغاة . وهكذا يسقط ما كان يسمى بالاستثناء العربي ، ويتخذ الشباب القرار من الساحات العمومية لانطلاق الثورة . بلا شك أن هذه الثورة هي من تدبير الشعوب العربية ، وهي تحكي قصة شعب مع ذاته ومع أنظمته ، إنها ثورة الفيسبوكيين ضد البطالة والاستبداد والاستغلال ، ثورة شباب كما تبدو وهي ثورة احتجاج على الوضع الكارثي بدءا من الحاكم المستبد إلى المواطن المتعامل معه ، غير أن هذه الثورة في حاجة إلى من يحميها لضمان النجاح والحفاظ على المكاسب ، لذلك وجب أولا الاعتراف بأن هذه الثورة لا تزال بمبادئ غير ثابتة وإجماع هش قد تتقاذفه التيارات الجارفة ، بسبب انعدام القيادة التي تتكلف بحماية ثوابت الأمة وإن كانت شبابية ، فانعدام التخطيط والتدبير المحكم والتشاور ، والتمثيل الأمثل للقاعدة ، والاختراقات الممنهجة للثورة ، كل هذا يسهل على المتعاملين مع الأنظمة التموقع الجيد وسط المتظاهرين بعد التظاهر برفع الشعارات ، وبتبني الإصلاحات ، فيرجعون إلى قواعدهم سالمين ، والبعض الآخر من الذين لا منفعة لهم في التغيير يعملون على إفشال الثورة للحفاظ على مكتسباتهم فيدعون أن الغرب يشجع الشعوب العربية على الثورة كما قيل عن الثورة في مصر وتونس، صحيح أن حسابات الغرب استوعبت الوضع وتبين لهم أن الحكام العرب أصبحوا غربيين أكثر من الغربيين أنفسهم لأنهم حرموا شعوبهم أكثر من اللازم ، مما سهل قيام الثورة ضدهم وضدنا ، لذلك فهم يستميلون الثوار حتى لا تنفلت الكعكة كاملة ، فلا غرابة إذا قلنا لأول مرة يتحد العالم الإسلامي مع عدوه الغربي لمواجهة القذافي . من هنا وجبت الدعوة إلى تحديد من يقودها ومن يمثل المحتجين قبل الخروج إلى ميدان المظاهرات، كما أن نجاح الثورة يقتضي إدراك الفرد ووعيه بأن ثمة مهلة قد تطول للاستفادة من نتائجها لأن ذلك ليس بالهين ولا في المستطاع على الأقل في الظرف الراهن أي المراحل الأولى للثورة ، ذلك أن مشكلة هذه الثورة معقدة ، ولحل عقدتها يتطلب الصبر من حيث الزمن والإمكانيات لتحقيق المطالب ، باعتبار أن الفترة الانتقالية سوف تطول ربما أكثر من المنتظر ، ففي الوقت الذي يريد الشباب استثمار نضاله وتحقيق أهدافه كالشغل والحرية والمساواة ورفع الأجور ومحاكمة المفسدين ، فإن موارد الدولة محدودة والالتزامات الخارجية متعددة والمعاهدات المبرمة تعيق هامش التحرك ، كما أن الاتفاقيات السابقة يمكن أن تقسم حتى الثوار بسبب موقف فئة من استمرار قبولها والتعامل مع الغرب لسبب من الأسباب . فمن القادر على القيادة وتحقيق معظم أهداف الثورة والحفاظ على مكتسباتها ؟ خاصة أمام هذه الإكراهات ، وفي غياب الشخص الوطني الموثوق فيه ، والإجماع عليه ، ولأن هامش المناورة مفقود لديه ، فهو مطالب بإلغاء كل الاتفاقيات المبرمة سابقا والمضرة بالبلد ، ومن المفروض أن يوفر الشغل والسكن ورفع الأجور للجميع ، وتحرير كافة القيود من حريات فردية وسياسية واجتماعية . وفي غياب الوعي السياسي لدى الشباب المتظاهر وقلة الصبر اللازم يستحيل تطبيق أهداف المتظاهرين دفعة واحدة ، فيستمر الوضع في التخبط واستمرار الثورة على الثورة نفسها . إذن فإن نجاح هذه الثورة يقتضي توفرها على شروط أولها ، وجود قيادة قادرة على التواصل مع الجميع ، يقودها السياسي الوطني المخلص والمفكرالمنظر، ويدافع عنها المواطن الواعي، كالثورة الفرنسية التي قادها كبار المفكرين والسياسيين والأغنياء العاقلين ، بكامل الانسجام والتفاهم وبقاعدة وفية تثق في قيادتها ، وهم الذين يحافظون على مكتسباتها ، إضافة إلى ضرورة وعي المواطن بأن القائد لا يملك عصا سحرية يتكئ عليها ، وأن نجاح الثورة لا يعني الاستفادة الآنية بكل ما تحقق . وإلى ذلك ضرورة وجود أحزاب وطنية بمبادئ ثابتة لا تتغير إلا نحو الأفضل ، وغياب كل مصلحة ذاتية شخصية سواء كانت مادية أو إدارية، ولا تقبل أي دعم من أي جهة كانت سوى الدعم من القاعدة ، حتى لا تخترق ، ومن جهة أخرى فإن الحزب مطالب بتأطير قاعدته سياسيا واجتماعيا وثقافيا حتى تعمل على نشر مبادئ الحزب المتفق عليها، والمشاركة الواجبة في الانتخابات ، ولا يتأتى ذلك إلا إذا شعر المنخرط بإمكانية وصوله إلى القيادة ، أي ممارسة جميع أشكال الديمقراطية داخل الحزب . حسين سونة