قديما، قيل: «من شب على شيء شاب عليه». ولأن هذا «الشيء» -عربيا- كان هو استمراء القمع والجبروت وتقديس الحكام وإنزالهم منزلة الملائكة، فإن حكامنا «الأفذاذ» شابوا على هذا الشيء، فقمعوا ويقمعون وأرهبوا ويُرهبون، فها هو القذافي، الذي «شب» على تعاطي «أفيون» الشعارات الناصرية، يشيب اليوم على هلوسة تميزه، معلنا لشعبه أنه «تراث لكل البشرية»، وهاهو بوتفليقة، الذي شب على «هيروين» البومدينية، التي سرقت ثورة شعب المليون ونصف المليون شهيد، يساهم اليوم في سرقة ثروة هذا الشعب المجاهد، ويضعها في جيوب من سرقوا ثورته... ولأن هذا الشيء يعد شاذا ووضيعا، حسب كل معايير البشر، فقد قرر الشباب بأنفسهم على أي شيء ينبغي أن يشبّوا ليشيبوا عليه... قرروا أن يشبوا على قيم الديموقراطية والتداول المؤسسي على السلطة واحترام دولة الحق والقانون، حتى إذا بلغ الواحد منهم أرذل العمر، عرفناه حكيما متواضعا ومعترفا بفضل الشباب عليه، يعرف أن للسن منطقه وأن الانتماء إلى الماضي، مهما كان مجيدا، ليس مبررا لرهن الحاضر، لا مجنونا يوظف المرتزقة لقتل شعبه أو مخرفا ينزع عن النساء حجابهن في الشارع، كما كان يفعل بورقيبة في الأيام الأخيرة لحكمه...
لقد ألِفنا في العالم العربي، من المياه إلى المياه، أن نسمع ونتابع خطابات وتحليلات تقرن، دوما، الشباب بالمشاكل، وكأن هذه المشاكل مشروطة بشرط علة مع فئة الشباب، من «قبيل الشباب والإدمان على المخدرات»، «الشباب والهجرة السرية»، «الشباب والسيدا»، «الشباب والاستلاب الثقافي»... وكأن الشيوخ يخلون من هذه الظواهر ولا يتحملون، على الأقل، نصيبا في ما آل إليه وضع هؤلاء الشباب، بدءا من الأب في الأسرة، مرورا بالمدرّس في الفصل الدراسي، وصولا إلى السياسي في أجهزة الدولة. لكن الشباب اليوم يكتبون سيرتهم بأيديهم ويتكلمون عن أنفسهم بأنفسهم، وليس كما كان سابقا، حيث كان الشيوخ يحتكرون الحديث عن ضرورة إعطاء الشباب فرصة، في حين أن احترامهم هذا المنطق يقتضي الصمت أولا وإخلاء المكان للشباب أنفسهم، نفس الأمر في ما يتعلق بالمرأة، فالذين يتكلمون عن حريتها هم ذكور لم يستطيعوا التخلي عن ثقافة «الفحولة»، التي وضع أسسها أجدادنا النابغة الذبياني وامرئ القيس والمتنبي... المؤلم هو أنه في الوقت الذي كانت الأنظمة العربية المطاح بها والسائرة في طريق الإبادة تُجوع وتُفقر شعوبها، كانت المليارات من الدولارات «تتراكم» في أبناك الخارج، فثروات الشعوب العربية تستفيد منها شعوب أخرى، ولنا في النموذج المصري البيّنةُ والحجة، عندما صيّر النظام الاستبدادي لمبارك وطائفة المفسدين من أبنائه وأصحابهم، (صيّروا) الشاب المصري ذليلا بدون كرامة، ومن زار مصر ما قبل سقوط مبارك، سيقف على هذه الحقيقة، فنظرا إلى سياسة التفقير التي خضع لها الشعب المصري، فإنه يكفي للزائر أن يعطي نادلا أو نادلة جنيها واحدا، بما يعادل درهمين ونصف مغربية، ليصبح «باشا» و«أفندم»، بل وقد ينحني لتقبيل يديه، أو ما يفعله العرب العاربة من غرب آسيا المريض، في الغردقة وشرم الشيخ من توظيف لهذا «الذل»، الذي فرضه النظام المصري على شعبه، فلا يمكن تصوره، وذلك بمقابل مادي زهيد، إذ إن «لقمة العيش»، بلغة أهل الكنانة، جعلت المصري «يقول للعبد يا سيدي»، بلغتهم دائما... الشباب وأفيون الثقافة السوقية عملت الأنظمة المطاح بها في تونس ومصر وليبيا، جاهدة، على جعل اهتمامات الشباب بعيدة عن قضايا السياسة والمجتمع وتركيز اهتمامهم في أفيونات الرياضة ومهرجانات الأغاني الراقصة، بكل أنواعها، في مصر وتونس، والمهرجانات الخطابية الحماسية في ليبيا، مع الإبقاء في الحالة الليبية تحديدا، على الشباب الليبي جاهلا، ذا تفكير قبَلي، إذ بدل أن يعلم القذافي شعبه، فإنه استقدم جميع أنواع اليد العاملة من مصر وتونس والمغرب والنيجر والعقول المفكرة من الصين والهند وأوربا الشرقية، والنتيجة هي أن الشعب الليبي سيخرج من أربعين سنة كما دخل إليها: قبليا، متواكلا، ريعيا لا يولي أي اهتمام للعمل والإنتاج، اللذين هما مفتاحا الحضارة والتقدم. وفي مصر، عملت الآلة الإعلامية على تخريب شخصية الشاب المصري، حيث أضحى همّ المصري هو معرفة مسلسلات رمضان، وأثناء رمضان، يبدأ بالانشغال بأفلام العيد، وبعد مرور العيد، يبدأ بالانشغال بالكليبات وبجديد نجوم الغناء لديه، حيث تبدأ المهرجانات، بمختلف أنواعها، بدءا من الرقص، الذي تقام له مسابقات وتصرَف عليه ميزانيات ضخمة، وصولا إلى رعاية طقوس الدروشة الصوفية، ففي مصر -مبارك كل شيء مباح، إلا «السياسة، فهي سجن الديكتاتور»، بلغة درويش... أما الرياضة فقد تحولت في مصر وتونس إلى «أفيون» حقيقي، حيث تم تحويل التنافس الرياضي، كتنافس متحضر بطبيعته، إلى مناسبة للصراعات الجهوية والمجالية والعرقية، أبرزه الصراع الرياضي وليس التنافس الرياضي بين «الزمالك» و«الأهلي». ولكي يكون الرئيس «منصفا وحكيما»، صرح بكونه «زمهلوي»، أي أنه يساندهما معا، إنه «الحكيم»... وعندما فازت مصر بكأس إفريقيا، التي نُظِّمت في مصر سنة 6002، والتي فازت بها هي نفسها، رأينا كيف رفع الرئيس السابق مبارك الكأس شخصيا، بدل أن يرفعه عميد الفريق، ل»ينبهه» أحدهم إلى أن عليه أن يعطيها لعميد الفريق... ما يهمنا في هذه «الفلتة والسهو» هو أن الديكتاتور، الذي ألِف أن يسرق الثروات المادية لشعبه، يسهل عليه أيضا أن يسرق ثرواته الرمزية، بما في ذلك سرقة انتصارات هذا الشعب، فالذي فاز بكأس إفريقيا ليست هي مصر الشباب، بل مصر -مبارك. المغرب.. الشباب مجرد كتابة دولة بميزانية هزيلة لا يشكل المغرب في هذه القضية «استثناء»، فكل الخطابات التي تتناول موضوع الشباب تتناولها من منطلقات إما انتخابية أو لمقاصد تتجاوز المساحة المتاحة للشباب لضرب أطراف معينة في الحزب أو النقابة أو الجمعية، ففي الانتخابات، تحتل مسألة تشغيل الشباب أولوية في كل الخطابات الحزبية، بل لاحظنا في 7002 كيف تنافس المتنافسون في الأرقام التي ينوون تشغيلها، في حالة حصولهم على الأغلبية، ومنها -كما نتذكر- الرقم «الخيالي» الذي صرح به نبيل بنعبد الله، عندما وعد بتشغيل مليون شاب، بينما هو نفسه ما يزال يبحث عن شغل. أما في المؤتمرات الحزبية، فالوضعية كارثية بكل المقاييس، إذ يتعامل شيوخ الحزب مع قطاع الشباب على أنهم أقلية عليهم أن يحظوا ب«الكوطا»، ولتبدأ عملية التموقعات بين الشيوخ بتوظيف الشباب، ولنا أن نتذكر الكيفيات الرهيبة التي وظفت بها ما عُرِف ب»أحزاب الكتلة» قطاعاتها الشبيبية، حيث كان الشيوخ عندما يعزمون على التخلص من شخص أو تيار، «يوظفون» الشباب في الطعن في كرامته ونزاهته، إلى درجة المس بالشرف وتخوين الزوجة أو الزوج، وغير ذلك من «الأساليب» التي أعطانا الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية «دروسا» إعجازية فيها... واليوم، ما تزال القصة نفسها، إذا علمنا أن المسؤول عن الشبيبة الاتحادية هو ابن محمد اليازغي، عمر اليازغي، على طريقة ما يعرف في التراث الشفهي العربي «مسمار جحا»، فخروج اليازغي من القيادة الفعلية للاتحاد، بعد «انقلاب» ما تبقى من قواعد الحزب عليه، جعله يلجأ إلى توظيف ابنه ك«مسمار جحا»، للضغط به كورقة في ملفات كثيرة يأبى «الشيخ» اليازغي إلا أن يقحم ابنه في متاهاتها... تعكس الدولة والأحزاب السياسية، معا، تصورا غير منطقي، ففي الدولة، نجد أن قطاع الشباب خصِّصت له مجرد كتابة دولة فقيرة مقرونة دوما بالرياضة، وكأن أقصى كمال الشباب المغربي هو أن «يلعبوا»، فهم -في عرف الكهول- مجرد «دْراري»، أما الأحزاب والنقابات والجمعيات فتتعامل مع القطاع الشبابي وفق منطق «الأقلية»، إلى جانب النساء، وهذه مفارقة كبيرة، إذ كيف تستقيم مشروعية البنيان التنظيمي لحزب ما مهما كانت مرجعيته، وهو يتعامل مع ثلثي سكان المغرب، المشكَّل من الشباب، على أنه أقلية، ثم وهو يتعامل مع أكثر من نصف المغاربة، والمشكَّل من النساء أيضا، بمنطق «الأقلية»؟ إن عدم قدرة الأحزاب المغربية على تجديد نخبها و«الانقلاب» على منطق «الزعامات» التاريخية والأبدية يعتبر أهم العوائق التي تقف اليوم في وجه العمل السياسي والنقابي في هذا البلد، وبالتالي تشكيل الشرط الموضوعي لثقافة اليأس والعدمية في صفوف الشباب، المكتوين بفشل السياسات الإصلاحية في جميع المجالات، فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن النقابة والحزب إلى الجمعية المدنية، الفيروس واحد: إنه الزعامة والتشبث بأهداب المسؤولية، فالكهول «الديمقراطيون جدا» يرفضون التنحي بكل الوسائل، حتى إنْ منعتهم القوانين الداخلية الموضوعة، سهوا، من ذلك، فإن تغييرها يعد الأسهل، إذ يكفي تهديد هذا الطرف وإرشاء ذاك بمناصب الدواوين والعُمودية، ليتحقق للزعيم «المفدّى» ما يريد، ليبقى أمل النخب السياسية الشابة، الطموحة، والمتعلقة بروح مبادئ الدمقرطة، معلَّقا على ملك الموت، وهو -بتعبير الأستاذ محمد سبيلا- الكائن الديمقراطي الوحيد في هذا الوطن، والذي يُعوَّل عليه كثيرا لكي يريحنا من هذه الكائنات «التراثية»، التي لا تريح ولا تستريح، هذا إن لم يتحولوا إلى «أصنام سياسية»، في زمن أفول الأصنام البشرية... هكذا، تطرح النخب الحزبية والنقابية في المغرب مفارقات عجائبية، فالملك شاب والشعب شابٌ، إلا زعماء الأحزاب، فمنهم الشيخ والكهل ومنهم من طال بهم العمر إلى أرذله، فطال بذلك هذيانهم وتخريفهم، والأهم هو رغباتهم المستمرة في إطالة الزعامة والسطوة على مشهدنا السياسي الحزبي، حتى إن بعضهم، أحرضان مثلا، لطالما اعتبرتُه شخصيا شخصية وهمية، مثل جحا، لكثرة ما تداولنا عنه من طرائف، ونحن صغار... هذه هي المفارقات الكبرى التي تثيرها ثورة الشباب، لأنها جاءت لتصحح وضعا غير طبيعي، فالشباب العربي، اليوم، يكتب «تاريخا» جديدا للأمة العربية، تاريخا لا مكان فيه للشعار والانتظار... فقد كان الفيلسوف اليوناني أرسطو واضحا في نفي المواطنة عن الشيوخ، عندما كان يسمهم «الذين سبق لهم أن كانوا مواطنين»... وفي المغرب، يصبح هذا القول أكثر إلحاحا، فالملك شاب وثلثا الشعب المغربي هم من الشباب ولا نحتاج إلا قرارا سياسيا يعيد الاعتبار لهذه الفئات العريضة والحيوية، ضمن صيرورة الإنتاج والإبداع في كل مجالات الحياة. جيل الماضي يعتذر علانية لجيل اليوم عبر مجموعة من المثقفين و الشعراء عن إعجابهم الكبير بالشباب، بل ومنهم من اعتذر عن مختلف الأوصاف التي لطالما ألصقت به، من قبيل الجيل الاستهلاكي، الجيل السطحي، الجيل المستلب، فإذ به يثبت أنه من أروع الأجيال في التاريخ العربي، فالشباب غيروا ويغيرون الآن الواقع والتاريخ وحتى الهوية العربية، ولذلك يجب التفكير بهم لمعرفة ماهية الحاضر وطبيعة المستقبل، أما الجيل السابق فلن يكون أمامه من الآن فصاعدًا سوى «الشعور بالذنب» وحتى الشعور بالنقص من هذا الجيل الجديد الهائل والرائع، والذي همّش كل الخطب، بما في ذل خطب الفقهاء الوهابيين الذين يحرمون الخروج عن الحاكم، فما بدأه الشبان البوعزيزي في تونس، وائل غنيم في مصر وفتحي تربل في ليبيا لم تنجزه أجيال متعاقبة اعتقد أغلب مثقفيها أنهم أمسكوا بتلابيب الفعل الثوري... وبقيت أفكارهم في بطون كتبهم، وآن الأوان لأن تغادر هذه الكتب الرفوف لتستقر، بصفة نهائية، في غياهب النسيان. ومن أجمل ما تم التعبير عنه، ما جاء على لسان الشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي، وهي عبارة عن قصيدة جديدة أطلق عليها اسم «الميدان، حيث تتضامن كلمات القصيدة الطويلة، التي كتبها الأبنودي بالعامية المصرية وبأسلوبه المعتاد، مع الشباب الذين تظاهروا في ميدان التحرير وفي غيره من ميادين المدن المصرية، يقول الأبنودي: «أيادي مصرية سمرا ليها في التمييزْ ممدودة وسْط الزئير بِتْكسَّر البراويزْ سطوع لصوت الجموع شوفْ مصر تحت الشمسْ آن الآوانْ ترحلي يا دولة العواجيزْ عواجيزْ شداد مسعورين أكلوا بلدنا أكلْ ويشبهوا بعضهم نهم وخسة وشكلْ طلع الشباب البديع قلبوا خريفها ربيع»... ويتابع الأبنودي: «خدوده عرفوا جمال النوم على الأسفلتْ والموت عارفهم أوي وهُمّا عارفينو لا الظلم هيّن يا ناسْ ولا الشباب قاصرْ مهما حاصرتو الميدان عمرو ما يتحاصرْ فكرتني يا الميدان بزمانْ وسحر زمانْ فكرتني بأغلى أيام في زمن ناصرْ»... أما الكاتب والمحلل السياسي المصري الشهير محمد حسنين هيكل فاعتبر أن الثورة التي أطلقها أولئك الشبان الشجعان كانت «زلزالا» هزّ أركان النظام القائم في مصر منذ 30 عاما، مضيفا: «للأسف، فإن الرد كان صادما ومعيبا... فقد حاولوا إطفاء الشعلة بالدم، ووجدنا أن أسوأ ما في مصر سعى إلى محاولة قتل أنبل ما فيها... وهو ما شاهدناه في واقعة اقتحام الخيول والجمال والحمير لميدان التحرير رمزا له». وأشار هيكل إلى أن من وراء اقتحام الخيول والجمال والحمير صورة طبق الأصل من الأداة التي استخدموها، قائلا: «لا أتردد في القول إنهم أناس لا يختلفون كثيرا عن الدواب التي استجلبوها وأطلقوها، والأسماء متداولة ومعروفة، الذي لا خلاف حوله أن العملية كان لا بد لها من تمويل، وكان هناك أشخاص جاهزون من أركان التحالف المشهود بين السلطة والمال والأمن، وهؤلاء الأشخاص لا يملكون إلا ما يستطيعون به «استئجار» الحناجر أو شراء الأسلحة وتجنيد «البلطجية» وأفراد العصابات»... هكذا، فثورة الشباب في مصر وتونس وليبيا صعقت الجميع وأذهلتهم وأفقدتهم التوازن وخلطت عليهم الأمور وصاروا، جميعا، لا يحتاجون إلا إلى تأجيل الحسم ومنع انهيار النظام وكسب ما يمكن من وقت إضافي لفهم هذه الثورة وتحليل دوافعها ومعرفة قواها الفاعلة والبحث عن أقصر الطرق وأنجعها لتفكيكها وإفراغها من مضامينها الشبابية، العفوية، البريئة، الصادقة في ثوريتها، بل حتى الأحزاب التقليدية، والتي كانت تطالب ب»الفتات»، كبضعة كراس في البرلمان، لم تكن لتجرؤ على رفع «سقف» مطالبها لتصل إلى حدود ما طالب به الشباب، وعندما بدؤوا يصدقون الأمر، دخلوا على الخط، فجلسوا مع نائب الرئيس سليمان، ليتكلموا باسم الشباب، غير أن هؤلاء الشباب كان لهم رأي آخر، فقد واصلوا الاعتصام والاحتجاج، واليوم يعتبر ائتلاف الشباب مُكوِّنا أساسيا في معادلة السلطة، سواء في تونس أو مصر. ميدان التحرير.. الشباب يحتج ويتزوج ويبدع الأغاني والشعارات لم تمر أسابيع الثورة الشبابية في مصر دون ظهور أشكال راقية من التنظيم الذاتي ومن الإبداع الفني، حيث تم تأسيس لجن تم الاتفاق على صلاحياتها، وحددت لكل لجنة لجينة مصغرة لتدبير حدود صلاحياتها وتوزيع المهام على المئات من أفرادها، من أمن ومأكل ومشرب وتنظيمٍ لأمور أخرى، كالزواج، إذ شهد ميدان التحرير ثلاث حالات زواج، حيث «عمل الثوار الواجب» تجاه العرسان والعرائس الجدد. فعادة ما يلجأ كل من يريد الزواج إلى عقد قرانه وسط فرحة الأهل لكن بالنسبة إلى الشابين أحمد سعفان وعلا عبد الحميد كان الأهل هم المحتجون الذين قادوا المظاهرات المطالبة بالإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك، حيث تم عقد قرانهما وسط ميدان التحرير في القاهرة، مركز الاحتجاجات. وقالت علا (22 عاما) الحاصلة على شهادة في علوم الكمبيوتر: «كان أمامنا إما أن نترك ميدان التحرير ونعقد قراننا في صالة معزولة أو أن نحتفل بزواجنا هنا بين الناس المحتجين في الميدان، فاخترنا الخيار الثاني». وقال زوجها أحمد (92 عاما) وهو طبيب نفسي: «هؤلاء المحتجون هم عائلتنا الآن، عشنا وضحكنا واحتججنا معا في هذا الميدان خلال الأسبوعين الماضيين. لقد أردنا، علا وأنا، أن يشاركنا الجميع فرحتنا». وقد أحاط بالعريسين الشابين الآلاف من المحتجين وانطلقت الصيحات والزغاريد عندما أعلن شيخ، عبر مكبر للصوت، زواجهما، ووزع الأهل الزهور والمشروبات على الموجودين في المكان، بعد أن أنهى الشيخ مراسيم عقد القران.. أما عن سهرات الأنس والشعر والأغنية، فقد زادت من حميمية علاقة الشباب بميدان التحرير، حيث كان الشباب يحتجون نهارا ويستريحون ليلا، على طريقة الشعوب المتحضرة. للثورة الشبابية وجه إبداعي عجيب جدا، حيث تم وضع عشرات من الشعارات والهتافات لا يمكن تصور طرافتها وبلاغتها، فمن شعار كتبه صاحبه باللغة الفرعونية، لكون مبارك «لم يفهم» اللغة العربية، إلى آخر طالب الرئيس بالرحيل، ليذهب لحلاقة شعر رأسه، وآخر طالبه بالرحيل، ليذهب للاستحمام، وآخرون اعتبروه نوعا جديدا من اللصاق، «لصاق حسني مبارك، مع ضمانة ثلاثين عاما»، إلى غير ذلك من الشعارات والمئات من النكت التي لم تمنع أسابيع القمع الشباب من الإبداع...
هل شباب اليوم جيل سطحي وتافه الاهتمامات؟ كان الكثيرون يتوقعون ألا يستمر الوضع الداخلي المصري على حاله، على الرغم من أن طبيعة الثورة ومداها كانا مفاجأة للجميع، لأن هذه كانت، بحق، أول ثورة شعبية للمصريين ضد «فرعون». لقد غيّرت هذه الثورة هوية المواطن المصري إلى الأبد، ومعه ستتغير، على الأرجح، هوية المواطن العربي، لأن ما وقع والطريقة التي وقع بها أكبر من أن تستوعبه نظرية سياسية أو فلسفية، فما قامت به الولاياتالمتحدةالأمريكية رفقة حلفائها لشهور لإسقاط نظام صدام حسين، مثلا، قام به شباب مصر وتونس وليبيا في ظرف أسابيع. لقد أثبتت تداعيات ما بعد الثورة في تونس ومصر أن الشباب ليس قوة للهدم والنقض، بل قوة للتأسيس والبناء، فمن يقف على مطالب «الجمعة الأخيرة» ويقرؤها بتمعن، سيستنتج أنه من المحال أن يكون هذا هو الشباب الذي قيل عن سلبيته وجهله الكثير، فالمطالبة برحيل حكومة أحمد شفيق وكل الوزراء الموجودين منذ عهد النظام البائد وتكوين حكومة ائتلاف وطني من الكفاءات المختلفة وتغيير كافة المحافظين في كل المحافظات وتعيين قيادات شعبية من المشهود لهم بالكفاءة، ثم إلغاء حالة الطوارئ والإفراج الفوري عن كل المعتقلين، وخصوصا ممن حوكموا محاكمات عسكرية في عهد النظام البائد والإفراج عن كل معتقلي 52 يناير، خصوصا أن من بينهم من حوكموا عسكريا، وإلغاء جهاز مباحث أمن الدولة والتحقيق مع كافة ضباطه حول قضايا التعذيب والسجون السرية في مقرات أمن الدولة، وأخيرا إلغاء المجالس المحلية والدعوة إلى انتخابات جديدة... كل هذه المطالب لا تصدر إلا عن جهة عالمة بخبايا السلطة المصرية، رغم كون الشباب قد أُبعِدوا عنها، فهي مطالب لا مكان فيها للفئوية والمذهبية والطائفية، كما كان يوهمنا مبارك، الذي اعتبر نفسه -دوما- «حاميَّ» الوحدة الوطنية... فنحن أمام جيل شباب مثقف، بكل ما تحمل الكلمة من معاني الفهم الموضوعي للواقع، وليس الفهم العاطفي، ثم معاني المسؤولية، حيث لا يطلب إلا المتاح، فلم نسمع مثلا من الشباب توزيع الأموال مجانا على عموم الشعب المصري، لأن من شأن مطلب غير واقعي كهذا أن يجعلهم «صغارا» في نظر العالم. فالشباب الجدد يغيّرون الآن الواقع والتاريخ وحتى الهوية العربية، ولذلك يجب التفكير فيهم لمعرفة ماهية الحاضر وطبيعة المستقبل، أما الجيل السابق فلن يكون أمامه، من الآن فصاعدًا، سوى «الشعور بالذنب» وحتى الشعور بالنقص من هذا الجيل الجديد الهائل والرائع، والذي همّش كل الخطب، بما في ذلك خطب رجال الدين، وحول الدعوات إلى عروبة جديدة إلى دعوة لا مناص منها، فليس عبثا هذا التتالي في التوقيت، إنه الواقع المشؤوم المشترك والمستقبل المنير المشترك أيضا، وهي عروبة لا تنقسم على ذاتها وتتحول إلى مجرد شعارات أفيونية، بل عروبة تجد لها موقعا في الكونية، من خلال ترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والعدالة الاجتماعية. أما الشباب التونسي فقد أثبتوا في «جمعة الغضب» الأخيرة قدرة على الإصرار والتنظيم بمطالب أدت، في ظرف ثلاثة أيام، إلى إسقاط أول حكومة، بعد هروب بن علي، حيث المطالبة بمتابعة مواصلة صعود ثقافة المواطنة وثورة الشباب لاستعادة حريات وحقوق المجتمع المدني، التي كان الجيل العربي السابق قد «أعارها» للنُّخَب الحاكمة، بذريعة تحقيق التحرر ووحدة الأمة، ثم المطالبة بانحسار التحالف الثلاثي الراهن بين أجهزة المخابرات والجيش وإخضاعهما لسلطة ورقابة الشعب، وهو الأفق نفسه الذي يناقَش في فرنسا اليوم، فنلاحظ كيف طوى الشباب الزمن طيا عجيبا، فبعد أن كان الحكام المستبدون يدفعون الغرب إلى توهم تفوقه العرقي على الإنسان العربي، فإن ما لم تستطع فرنسا إنجازه في قرن بعد الثورة الفرنسية، ينجزه الشباب التونسي و المصري اليوم في أسابيع.