كتب د. محمد لمباشري، لم تبدأ الدراسات المعمقة لديداكتيك الفلسفة إلا عندما بدا التفكير في إمكانيات و ضرورة إعادة بناء الفلسفة كمادة دراسية قابلة للتدريس بالأسلاك التعليمية المقررة؛ و بذلك وجدت ديداكتيك الفلسفة نفسها في مواجهة مباشرة مع مجموعة من المشاكل و المطاريح النظرية والتطبيقية، لا من اجل أن تتموضع ضمن سياق مادة تخصصية مبرمجة في المناهج الدراسية بالثانوي التأهيلي أو بالسلك الجامعي، و إنما بهدف اقتراح دفتر للتحملات في صيغة منهاج و برنامج دراسي للعمل و التطبيق قابل للتكيف مع الاختيارات السياسية والتربوية التكوينية التي تسطرها سلطة القرار التربوي داخل المجتمع، انطلاقا من الكفاية والاهداف التعلمية المسطرة لها. و تتجسد هذه المشاكل في مجموعة من القضايا المرتبطة سواء بالأهداف المرجوة من وراء تدريس الفلسفة، أو فيما يتعلق بنوعية المواضيع التي يجب أن يحتويها برنامجها الدراسي،[ سواء في صيغة نصوص للتحليل و المناقشة، أو مطاريح فكرية فلسفية قابلة للمعالجة، إلى جانب اقتراح طرائق تعليمها و تعلمها، و أشكال التقويم المعتمد بداخلها...]. أكيد أن هذه المشاكل و الهموم نالت نصيبها من الدراسة و التحليل من طرف الباحثين والمهتمين بخصوصية الفلسفة كمتن معرفي أصلي، لكن الإشكال الذي يمكن أن نطرحه في هذا الإطار هو: • ماذا يجب علينا أن نعلِّم في الفلسفة؟ بمعنى، هل يجب علينا أن نعلم شبابا تتراوح أعمارهم ما بين 16 سنة و 19 سنة كيف يتفلسفون؟، أم نعلمهم معارف حول تاريخ الفلسفة من أجل الدفع بهم إلى محاورة متنه الفكرية و المذهبية و تياراته المتعددة، ولم لا استحضارهذه المتن في تجاربهم اليومية، و محاولة ربطها بواقعهم السوسيوثقافي الذي ينتمون اليه؟ فإذا انطلقنا من مقولة أرسطو التالية: إن الفلسفة تشترط تجارب الحياة؛ • فهل هذه الفئة المستهدفة في الدرس الفلسفي قابلة لتصريف تجاربها داخل الدرس الفلسفي المقرر بخصوصيته النظرية و الخلافية؟، • و هل النصوص المقررة و المضامين المقترحة تتيح لها امكانية طرح التساؤل ومحاورة مختلف المسلمات الفلسفية المقررة؟ • و هل لديها من التجارب الكافية لتعلم الفلسفة و تاريخ نشأتها دونما اخضاعها لنقلة ديداكتيكية تأخذ بعين الاعتبار تاريخها التعلمي و التراكمات المعرفية الموجودة لديها بشكل مسبق؟؛ في هذه القضية حاولكانت التمييز بين مجالين اساسين في الفكر الفلسفي عموما: المجال الأول: تاريخ الفلسفة، بما هو مجموعة من الانتاجات الفكرية التي انتجها فلاسفة على مر العصور و الاحقاب؛ المجال الثاني: فعل التفلسف، كفعل تعلمي مخطط له ضمن سياق المنهاج و البرامج المتضمنة في التوجيهات التربوية للسلك الثانوي التأهيلي، و في دفتر التحملات للمسلك الجامعي؛ و كلا المجالين حاضرين في ابستيمولوجية مدرس الفلسفة، حسب ما يشترطه تكوينه الاساسي في هذا المضمار؛ لكن أي من المجالين يمكننا إعطاؤه الأولوية في الدرس الفلسفي داخل مدارسنا وجامعاتنا؟ عندما نعود للتجربة الألمانية التي تشكل الام الروحية للفكر الفلسفي، نراها ركزت في ديداكتيك الفلسفة على كيفية التفلسف، و تعلم التفلسف كمنطلق للفكر الفلسفي الذي سيأتي في ما بعد، و ذلك عن طريق الانتقال من التساؤلات الابستيمولوجية الكبرى،إلى المشاكل المطروحة سواء في النصوص الفلسفية ذاتها، أو في الواقع الاجتماعي المعيش، وبما أن الأمر يخص بالدرجة الأول مسألة الأولوية أو الأسبقية في تدريس الفلسفة بين تعلم تاريخ الفلسفة و تعلم التفلسف، فمن السذاجة الفصل بينهما، كما انه من الصعب الاعتقاد بإلزامية تهميش المقاربة التاريخية للفكر الفلسفي في الدرس الفلسفي بشكل خاص، لما لها من أدوار استراتيجية في توضيح و استيضاح خصوصية الانتاجات الفلسفية المتراكمة تاريخيا، و ابعادها الحجاجية والخلافية التي ميزتها عبر قرون من الزمن.
لنواصل الحديث في هذه النقطة: نعلم بأن وظيفة التربية و التكوين لا ترمي إلى الاكتفاء بنقل المعارف التاريخية في الفلسفة اعتمادا على طرق تقليدية بنكية قائمة على الحشو و الاستظهار كما هو منصوص عليه في وضعيات التقويم، وإنما بجعل المتعلمين على بينة تامة من تاريخ الفلسفةو السعي بهم نحو استيعاب مضامينها، وتمثلها كسلوك في حياتهم اليومية، و هو ما يجب على المدرسين انطلاقا من وظيفتهم الديداكتيكية، تأصيلها و ترسيخها في البنيات الذهنية المنطقية للمتعلمين والمتعلمات، تحقيقا لما هو مراهن عليها في الدرس الفلسفي كاختيار استراتيجي في التوجيهات الرسمية، و ذلك من خلال توعيتهم بخلفياتها و الدفع بهم الى استبصار قيمها النبيلة وأبعادها المنهجية في تفكيك الواقع و محاولة تثويره نحو الافضل. نخلص بأن المقاربة التاريخية للدرس الفلسفي لا يمكننا أن نعطيها الأولوية إلا اعتمادا على المقاربة البنيويةوالنسقية لهذا الدرس،كأفكار و حجج، و كقناعات فكرية و مذاهب فلسفية؛ بمعنى أن المقاربة الفلسفية المنطلقة من الإشكالات المعيشة، و من المشاكل الفلسفية المطروحة في المذاهب والنظريات الفلسفية المتراكمة عبر التاريخ، ستشكل قوة أكثر إذا استحضرت الحياة اليومية للمتعلمين و معارفهم المكتسبة سابقا؛ انطلاقا بطبيعة الحال من البعد الوظيفي للدرس الفلسفي في فهم الواقع و المساهمة في تغييره، و هذا هو المرتكز الاساسي لإكساب المتعلمين والمتعلمات كفايات الحياة التي نراهن عليها في الدرس الفلسفي. هناك سؤال ذا طابع اشكالي يجدر بنا في هذه الورقة طرحه: هل الفلسفة في حاجة لديداكتيكا للتدريس؟ فالإجابة عن هذا التساؤل تحيلنا لمجموعة من المواقف المتباينة لدى المنظرين لهذا الموضوع: 1. الموقف الأول ذو نزعة متطرفة إلى حد ما، بحيث لا يقر اصحابه بضرورة وجود ديداكتيك للفلسفة، مادامت هذه الأخيرة حاضنة للحقيقة الديداكتيكية كما هو متجلي في سمت مجموعة من الفلاسفة الذي نهجوا الفعل التعلمي للفلسفة. مبرراتهم في ذلك كون الفلسفة كنسق فكري و كمتن معرفي لها علاقة مباشرة بالحياة اليومية للإنسان، و بالتالي لا تحتاج لمنهجيات تدريس مقوننة لمضامينها و محتوياتها، مادام السؤال يشكل وضعية انطلاق لولوج عملية التفلسف دونما حاجة لتخطيط مسبق له. لان عملية التنميط للدرس الفلسفي في صيغة هندسة ديداكتيكية جاهزة، من شانه ان يفقده جدليته القائمة على مستوى استخراج الاطروحة و نقيض الاطروحة وصولا الى التركيب، الذي يتحول هو الآخر الى اطروحة جديد 2. الموقف الثاني:يقر اصحابه بضرورة وجود ديداكتيكا للدرس الفلسفي اعتمادا على شكلين منهجيين: • الشكل الأول له مستوى نظري بيداغوجي، و هو لا يطرح مشاكل بالنظر لأصحاب هذا الموقف؛ فكل تعليم مستهدف داخل مؤسسات عمومية في حاجة إلى أن يكون مصاحبا و موجها بأفكار و اختيارات ثقافية و لم لا ايديولوجية، كما أن كل ممارسة قائمة في مجال التكوين الخاص بالشباب، بما هي إجراءات عمومية يجب أن نكون مبرهنة و مراقبة من حيث الأهداف و الطرائق و الموضوعات المنطلق منها، وآليات التقويم المستهدفة في المنظومات التربوية التكوينية عوض اعتماد برنامج مفتوح يفترض ان يزيغ عن ما هو مرسوم في التوجيهات التربوية للدرس الفلسفي. • الشكل الثاني يتعلق بخصوصية فلسفية مقارنة مع باقي المواد الأخرى التي تتطلب إجابة عن إشكالية المعرفة و أبعادها الابستيمولوجية،و أيضا عن تموقع ديداكتيك الفلسفة بالنسبة للفلسفة العامة؛ بمعنى هل البرهنة المتعلقة بالشكل الديداكتيكي يجب عليها أن تتبلور خارج نطاق الفلسفة و تكون بالتالي مضافة لها؟، أم يجب كشف السمات الخاصة بالفلسفة كمضامين و اهداف و كفايات، بمعنى البنية الديداكتيكية الملائمة لكل الفلسفات المقررة في المنهاج الدراسي او الجامعي؟ في هذا الإطار سنحاول ان نبرز مختلف التيارات المتعلقة بهذا الاشكال: فحسب وجهة نظر مارتينسأن نتفلسف يعني أن نتحاور حول قضايا ابستيمية تنتمي لمذاهب و تيارات فلسفية مختلفة في المكان و الزمان، غير أن مواضيع الحوار الفلسفي بالنسبة لتعلم التفلسف من طرف الفئات المستهدفة، هي بالدرجة الأولى إشكاليات تتطلب بحثا فلسفيا و ديداكتيكيا؛ و يجب أن يتميز هذا البحث الدديداكتيكي بالجهد الذي نبذله في إعطاء حقيقة لمعارفنا و أفعالنا داخل مؤسساتنا التربوية التكوينية. لنتابع: إن الموضوع الرئيسي للفلسفة و لتعلم التفلسف، هو الجلاء و التفسير، و البرهنة على معارفنا النظرية و التطبيقيةالمستقاة من الدرس الفلسفي في صيغة ممارسات يومية ممتدة في الواقع السوسيوثقافي الذي ننتمي اليه. فوضعية الانطلاق بالنسبة لديداكتيكا التحاور البرجماتي والوظيفي في الدرس الفلسفي.شبيهة بالمشروع الفلسفي التعلمي لسقراط، و لأفلاطون وللفلسفة المعاصرة التي تقر بقيمة أسلوب الحوار كاختيار بيداغوجي و ديداكتيكي. و لكن ما نستهدفه في اسلوب الحوار المراهن عليه، هو دفع بالمتعلم الى تملكه كخاصية منهجية و جدلية لا تدخل ضمن علاقة عمودية ضيقة الافق من الناحية الابداعية، و انما في سياق الطرح و الطرح المضاد، بحثا عن الحجج القابلة للتصريف في ممارساته اليومية. إن تعليم الفلسفة يعني إشراك المتعلم في الحوار الفلسفي، و ذلك بالانتقال به إلى وضعية مشكلة معيشة من طرفه، بإكسابه كيفية استعمال الطرائق و الوسائل و الأداءات التي تمنحها بطبيعة الحال الفلسفةكحقل معرفي أصلي،، و أن ندفع بالمتعلم إلى معرفة الإجابات المقبولة نسبيا عن الأسئلة الجوهرية التي سبق له طرحها سواء في وضعية الانطلاق اووضعية الانجاز. إن مثل هذا المقاربة في مستواها الديداكتيكي تعكس القيمة الأصلية للفلسفة، أي قيمة الإشكالات الفلسفية و كيفية معالجتها، مع احترام ذاتية المتعلم في حمل المشاكل المعاصرة التي سيواجهها مستقبلا، و تشجيعه على التفكير الذاتي في مقتضياتها النظرية و التطبيقية.