صالح العبدي الزواهري الصحفي المناضل الذي قاوم فرنسا بلغتها خلال ثلاثينيات القرن الماضي. بقلم : ادريس بوطور على بعد فرسخ واحد شمال أسفي عبر الطريق الثلاثية المتجهة إلى ضريح لالا فاطنة تقع قرية الزواهر. أديم الأرض بهذه القرية صخري صلد مكون من صفوان ومرو تتخلله بقع ترابية منديلية، إلا أن رجالها استطاعوا بقوة إرادتهم وصلابة عزيمتهم تطويع الصخر الصلد، وتفجير الماء الفرات من بين شقوقه وخلق زراعات معيشية لبعض أنواع من الخضر وأعشاب المطبخ كالمقدونس و الكرافس والشمندر الأحمر و الجزر واللفت، وهي أصناف مطلوبة يوميا بالمطبخ الشعبي لكونها طازجة وغير ملوثة. من هذه القرية خرج والد صالح العبدي هاربا وناجيا بجلده من بطش واستبداد القائد عيسى بن عمر الذي كان يقود حملة للقضاء على تمرد وعصيان قبائل ولاد زيد في مستهل العقد الأول من القرن العشرين، حيث استقر به المقام الآمن بمدينة الصويرة ليتزوج بها من إحدى بنات عائلة صويرية عريقة، وسيكون الابن صالح هو باكورة زبدة هذا الزواج. ابتسم الحظ للصبي بحكم الوضعية الميسورة لأسرة والدته حيث تلقى تعليما مزدوجا بين المدرسة القرآنية، ومدرسة البعثة الأوربية بالصويرة، وعندما أصبح يافعا وجد نفسه متمكنا من اللغتين العربية و الفرنسية، هذا المعطى سيكون له أكبر الأثر في تكوين شخصية صالح العبدي الصحفية و السياسية المستقبلية بعد رجوعه إلى أسفي واستكمال دراسته بالمدرسة الفرنسية الإسلامية. كان تلميذا متفوقا، أظهر نبوغا متميزا في امتلاك أسس وقواعد اللغة الفرنسية بالإضافة إلى سلاسة لغته العربية المستمدة من حفظ القرآن الكريم. وقد ظهر ذلك مبكرا في بداية عنفوان شبابه من خلال انطلاقته بنشر مقالات باللغة الفرنسية في عدة منابر أوربية، حيث شكلت هذه الانطلاقة بداية مسار حافل من النضال الفكري ضد الاستعمال وبلغته. عاش حياته القصيرة بين اختطاف واعتقال وأحكام بالسجن، وفي الوقت الذي يتاح له فيه استنشاق نسيم الحرية يلجأ إلى قلمه للكتابة باللغة الفرنسية عن هموم الشعب المغربي، وقد كانت أهم منابره الصحفية جريدة "الصرخة المغربية" le cri marocain ، والتي كانت لسان المثقفين الفرنسيين الأحرار وعلى رأسهم فرنسوا برجي رئيس تحرير مجلة "شمال جنوب" التي كانت تصدر من باريس وتهتم بالتعريف الحضاري والجغرافي و السياحي للمناطق والمدن المغربية، وبحكم العلاقة المتينة التي كانت تربط بين الصحفي الفرنسي فرنسوا برجي والصحفي صالح العبدي فقد زوده هذا الاخير بمعلومات تاريخية هامة تلقاها من صديقه مؤرخ أسفي الفقيه الكانوني حول أصول مدينة أسفي الحضارية عبر التاريخ وعلاقتها بالدول المتعاقبة على حكم المغرب ، وشخصياتها وعائلاتها المشهورة وطقوسها و عاداتها، وقام بترجمتها إلى اللغة الفرنسية ترجمة مركزة ساهمت في دعم قيمة عدد يوليوز 1932 من مجلة -شمال جنوب- Nord Sud » « الصادرة من باريس تحت إشراف الأستاذ فرانسوا بيرجي والذي كان مخصصا بكامله للتعريف بمدينة أسفي وموروثها الثقافي حيث كان عددا مميزا ومرجعا فذا حول هذه المدينة الحضارية العريقة. ومن بين محاور مقالات الصحفي الشاب صالح العبدي بالإضافة إلى ما اختلف منها وتنوع حول قضايا اجتماعية و اقتصادية تهم الشعب المغربي نسجل بالخصوص قضية الثورة الريفية وشخصية بن عبد الكريم الخطابي الذي كانت تربطه بصالح العبدي وشائج صداقة متينة. ثم قضية تجنيد المغاربة من طرف فرنسا لجعلهم دروعا بشرية في جحيم الحربين الأولى والثانية. إلا أن أهم هذه المحاور الصحفية والتي استأثرت باهتمام الباحثين والدارسين والمؤرخين الوطنيين والأجانب كان هو تنديده بالظهير البربري وتحليله وتبيان مساوئه وإثبات الخطأ التاريخي الذي تورطت فيه فرنسا سنة 1930 بالحجج الدامغة والذي سيعود وبالا عليها وسيزيد من توثيق لحمة الشعب المغربي وترابط مكوناته عكس توقعات ومخططات المستعمر. كانت مقالات صالح العبدي بالفرنسية والعربية في عدة منابر صحفية أوربية ومغربية ومشرقية قد أبانت عن علو كعبه وتوهجه الفكري و السياسي و التزامه النضالي الشجاع في مواجهة الاستبداد الفرنسي. هذه المواصفات الكاريزمائية ساهمت في سطوع نجمه وإشعاعه الصحفي لدى النخبة الوطنية المثقفة في مختلف المدن المغربية المتنورة، حيث أصبح وجهة لمراسلات متعددة من مختلف القوى الوطنية والمفكرين الفرنسيين الأحرار خلال عقدين من الزمن بين 1920 و1940. ترك صالح العبدي الزواهري ثروة تاريخية وصحفية هامة تنوعت بين مقالات ورسائل باللغتين العربية و الفرنسية لا يتسع المجال للحديث عنها إلا أنني سأسوق من خلال هذه السطور نموذجا للبرهنة على حقيقة المواصفات الأنفة الذكر، و يتعلق الأمر برسالة توصل بها صالح العبدي مؤرخة برابع يونيو 1930 من جمعية قدماء تلاميذ فاس في موضوع الظهير البربري. هذه الرسالة عكست مكانة الصحفي المناضل صالح العبدي على الصعيد الوطني وصدى ما يكتب بالفرنسية و العربية لدى الأوساط المغربية المتنورة، وقد وصفه محرر الرسالة في مقدمتها بالأديب و نابغة عصره ثم شخص خطورة الظهير البربري على تماسك بناء المجتمع المغربي، كما طلب من صالح العبدي تحفيز الشباب بمدينة أسفي إلى دعم العلماء و الفقهاء في تظاهراتهم المنددة بالظهير البربري، وأنهى الرسالة بقوله : " وما كتبنا لكم إلا ونحن مطمئني البال بأنكم من أنصار النهضة الثقافية المغربية وحملة الأقلام فيها ولكم في ذلك مواقع كثيرة، ونحن في انتظار تحقيق ما طلب منكم مع مزيد من الطاعة والاحترام". وقد كان جواب الصحفي المناضل صالح العبدي الزواهري دليلا قاطعا على كونه نموذجا يقتدى في الحلم (بكسر الحاء) السياسي و الرزانة النضالية دون تهور أو تسرع وخيم العواقب، حيث أكد في جوابه أنه سبق رسالة جمعية فاس بإصدار مقال مطول بالفرنسية بجريدة "الصرخة المغربية" موجه إلى سلطات الاحتلال بين فيه الخطأ الفادح الذي تورطت فيه فرنسا بتشجيع رسمي للتمييز بين مكونات الدم المغربي البربري العربي المسلم، كما أن عناصر هذا المقال كانت محط اهتمام وإثارة أقلام صحفية ومثقفين فرنسيين معارضين لسياسة فرنسا التمييزية في المغرب حيث دافعوا عن مصداقية مكوناتها انطلاقا من منابرهم الصحفية. وقد أكد كذلك في جوابه على هذه الرسالة أن إقحام الشباب المغربي في التظاهر والتنديد بالظهير البربري أمر وخيم العواقب حيث ستحصد فرنسا هذه المظاهر أخضرها ويابسها ، فلا فرق لديها بين المناضل واللص والمتشرد -حسب تعبيره- وختم جوابه بقوله" نطلب من جنابكم مسامحتي لعدم إمكانية تلبية طلبكم وعرضكم والمتعلق بتنظيم مظاهرات شبابية داعمة لموقف العلماء و الفقهاء من الظهير البربري، وإني أعاهدكم على أنني سأناضل لصالح هذه القضية بوجه ومسار آخر أكثر فاعلية وأقل خسارة..." ورغم عدم استساغة الحركة الوطنية بأسفي في البداية هذا الموقف الذي عبر عنه الصحفي المناضل صالح العبدي الزواهري، إلا أن تفهم مجموعة من الفقهاء العقلاء المناضلين منهم الكانوني و المستاري و بناصر والسرغيني، ساهم في التأثير على باقي العلماء الذين أطروا مظاهرات لقراءة اللطيف دون إشراك الشباب حتى لا تتاح الفرصة أمام السلطات الاستعمارية للتدخل العنيف و القمع الدموي، في الوقت الذي فتح فيه صالح العبدي جبهة للنضال، الصحفي عبر إسماع صوت المغرب لدى الطبقة المثقفة الفرنسية داخل المغرب وخارجه، كما فتحت جبهة أخرى في نهاية الأربعينيات موازية للنضال الفكري تمثلت في الكفاح المسلح والتي تم تأطيرها من طرف الحركة الوطنية ولم يتوقف نشاطها حتى حصل المغرب على استقلاله ، هذا الحدث الهام المتمثل في معانقة المغرب للحرية و الانعتاق من نير الاستعمار لم يتح للمناضل الصحفي صالح العبدي الزواهري حضوره و التمتع بنعيمه حيث وافاه الأجل المحتوم سنة 1951 عن عمر لم يتجاوز 50 سنة بعد حياة مفعمة بالنضال الصحفي و الفكري و السياسي، المتصف بالتضحية و نكران الذات من أجل الطموح إلى تحقيق انبلاج ليل الاستعمار البهيم ومعانقة شمس العيش الكريم بين أحضان الوطن الرحيم.