"يجب على حكومتنا إعطاء الأولوية لدبلوماسية اقتصادية مقدامة، قادرة على تعبئة الطاقات، بغية تطوير الشراكات وجلب الاستثمارات، وتعزيز جاذبية البلاد، وكسب مواقع جديدة، وتنمية المبادلات الخارجية، كما ندعوها للتنسيق والتشاور، في القطاعين العام والخاص، للتعريف بالمؤهلات الاقتصادية التي تزخر بها بلادنا". من الرسالة الملكية الموجهة إلى ندوة سفراء جلالة الملك محمد السادس يوم 30 غشت 2013 بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس في سياق التحولات والإصلاحات الكبرى التي يعرفها المغرب، وفي تفاعل خلاق مع أسئلة وتحديات المرحلة، تثار هذه الأيام مجموعة من الأفكار والتقييمات تخص المجال الاقتصادي والتنموي، سواء في علاقته مع الاختيارات الاستراتيجية للبلاد، أو في ما يهم شروط ضمان تنمية مستدامة ومتوازنة. ومن الآراء والإشكالات التي طرحت وتطرح، في هذا الباب، هناك سؤال حول مدى تجاوب نموذجنا الاقتصادي مع المتغيرات الجارية، إشكالات تعزيز واستقطاب المزيد من الاستثمارات الخارجية، ظروف وأوضاع المقاولة المغربية، تشكيل وتفعيل مجلس المنافسة، ضرورة العناية أكثر فأكثر بالدبلوماسية الاقتصادية، إلى غير ذلك مما ينشر ويتداول في المنابر الإعلامية والمؤسسة البرلمانية والمنتديات السياسية والفكرية. ولاشك أن الخوض في هذه المقاربات، ومناقشتها في العمق وفي كل أبعادها، يعد من الدعامات اللازمة لإغناء النقاش الاقتصادي والسياسي والذي يجب أن يستمد قوته من المنظور الليبرالي الحقيقي الذي هو الدعامة الكاملة لأي تطور اقتصادي واجتماعي ومجتمعي، كما أن المقاربات التي تحاور القضايا الاقتصادية من منظور الارتباط الوثيق بتقاطعاتها، وعلاقاتها الجدلية القائمة مع بقية القضايا والقطاعات، هي عين الصواب، لأن الاقتصاد هو عصب الحياة، ولأن لغة الاقتصاد هي قاعدة ومحور العلاقات الدولية. وفي موضوع الدبلوماسية الاقتصادية، لا شك أن المغرب له تراكمات مهمة في هذا المجال، حيث أنشأ بعض الآليات، الرسمية وغير الرسمية، التي اهتمت بتوسيع جسور التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، واكتشاف أسواق جديدة، كما الشأن، مثلا، القارة الإفريقية وبلدان شرق أوربا وآسيا. على أن التوجه الجديد للمغرب نحو عمقه الإفريقي كان بمثابة طفرة، كمية ونوعية، في تنشيط الدبلوماسية الاقتصادية، وفي بلورة مفاهيم جديدة والوصول إلى نتائج تفتح آفاقا جديدة لعلاقات التعاون والتبادل بين المغرب وجل البلدان الإفريقية، وذلك في نطاق التعاون (جنوب جنوب)، وعلى أساس مبدأ (رابح- رابح). وكانت ريادة الدبلوماسية الملكية الحلقة المركزية في النجاحات والانتصارات التي حققها ويحققها هذا التوجه الذي قال عنه جلالة الملك بمناسبة الذكرى 64 لثورة الملك والشعب: "إن توجه المغرب نحو إفريقيا لم يكن قرارا عفويا، ولم تفرضه حسابات ظرفية عابرة… إنه ثمرة تفكير عميق وواقعي تحكمه رؤية استراتيجية اندماجية بعيدة المدى، وتركز سياستنا القارية على معرفة دقيقة بالواقع الإفريقي، أكدتها أكثر من خمسين زيارة قمنا بها لأزيد من تسعة وعشرين دولة، وعلى المصالح المشتركة، من خلال شراكات تضامنية (رابح – ربح)، وخير مثال على هذا التوجه الملموس، المشاريع التنموية الكبرى التي أطلقناها، كأنبوب الغاز الأطلسي نيجيريا المغرب، وبناء مركبات لإنتاج الأسمدة بكل من إثيوبيا ونيجيريا، وكذا إنجاز برامج التنمية البشرية لتحسين ظروف عيش المواطن الإفريقي، كالمرافق الصحية ومؤسسات التكوين المهني وقرى الصيادين". كما أثمر هذا التوجه، بالإضافة إلى البلدان المشار لها في الخطاب الملكي، إبرام العشرات من اتفاقيات التعاون والشراكة مع بلدان إفريقية أخرى، ومنها بالخصوص السينغال، الغابون، الكوت ديفوار، النيجر،غينيا، والكونغو، وغيرها من البلدان والاتفاقيات التي همت القطاعات العمومية ومؤسسات وشركات القطاع الخاص والتي تعطي للتضامن الإفريقي مدلوله الملموس. هذا، علما بأن ما تحقق، في هذا المجال، لا ينحصر في الفضاء الإفريقي، وإنما يندرج في الإطار العام للخيار الديمقراطي والتنموي الذي تعبأت البلاد، بقيادة جلالة الملك من أجل تحقيق حصيلة إيجابية ونقاط قوة في الحقل الاقتصادي. ويمكن القول بأن المغرب تمكن، في السنوات الأخيرة، من مواجهة صعاب الظرفية، بل ومن جعل اقتصاده يحقق حصيلة إيجابية بشكل عام. ومن العوامل الأساسية المساعدة في ذلك، هناك ما يتميز به المغرب من نعمة الاستقرار والأمن، ومن مناخ ضمان الحريات في إطار دولة القانون والمؤسسات، والثقة التي يتمتع بها اقتصاده من لدن المستثمرين المغاربة والأجانب، ومن الأمثلة الدالة على ما تحقق من إيجابيات يمكن الإشارة إلى كون المغرب احتل المرتبة الأولى بين الدول الأكثر جاذبية للاستثمار في إفريقيا (57،2 مليار دولار كاستثمار أجنبي مباشر 2017)، وازدياد عدد السياح الوافدين على المملكة بنسبة 10 بالمائة، وفتح أوراش جديدة لصناعة السيارات … إلخ . وبعد هذا وقبله، يجدر التأكيد على أن موضوع الدبلوماسية الاقتصادية كان، ومنذ سنوات، من المهام التي دعا جلالة الملك للاضطلاع بها، على أكمل وجه، من أجل الترويج للنموذج المغربي ومن أجل ربح رهانات التعاون المشترك. ففي الرسالة الملكية الموجهة إلى ندوة سفراء جلالته (30 غشت 2013 ) يقول جلالة الملك:"يجب على حكومتنا إعطاء الأولوية لدبلوماسية اقتصادية مقدامة، قادرة على تعبئة الطاقات، بغية تطوير الشراكات وجلب الاستثمارات، وتعزيز جاذبية البلاد، وكسب مواقع جديدة، وتنمية المبادلات الخارجية، كما ندعوها للتنسيق والتشاور، في القطاعين العام والخاص، للتعريف بالمؤهلات الاقتصادية التي تزخر بها بلادنا". على ضوء هذا التوجيه السامي، واصل المغرب مساره وعمله، في مجال البناء الاقتصادي والتنموي، بنفس الثقة والتفاؤل، بل والإصرار، على مواصلة مشوار إنجاز المشاريع والأوراش المفتوحة في مختلف القطاعات والمناطق الجغرافية، ومن حين لآخر تقوم الحكومة ببعث إشارات تفيد بأن قطار الإصلاح يسير على سكته، ومن الإشارات الأخيرة، بهذا الخصوص، نذكر: * إنجاز الخطة الجديدة لإصلاح المراكز الجهوية للاستثمار التي عرضت مؤخرا على أنظار جلالة الملك، والتي بمقتضاها تتحول هذه المراكز إلى مؤسسات عمومية. * الترتيبات والقرارات التي تم وضعها لدعم وتشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة والرفع من قدراتها التنافسية. * المصادقة على 48 مشروع اتفاقية وملاحق اتفاقيات استثمار، من شأنها توفير 6190 منصب شغل مباشر و13 ألفا و952 منصب شغل غير مباشر. * ارتفاع مختلف مؤشرات الأنشطة المينائية، وتسجيل حركة النقل الجوي ارتفاعا بنسبة 69،17 بالمائة، بمختلف مطارات المملكة، خلال شهر مارس الماضي. ومع سرد هذه النماذج من عمل ونتائج تدبير الشأن العام، رب قائل يقول وما شأننا، إذن، بالحاجة إلى دبلوماسية اقتصادية فاعلة؟. أما الجواب المباشر فيكون بالقول : إننا دائما في حاجة إلى تطوير الأداء والرفع من مستواه ووتيرته، وبما هو في مستوى أصالة وطموح هذا الوطن، من النتائج والإنجازات التي ترضي هذا الشعب وتلبي حاجياته وتطلعاته على كل المستويات وفي كل الميادين. ولذلك فروح المسؤولية، والصراحة والمصارحة، تستوجب، من الجميع، الانتباه إلى ما قد يكون هناك من تقصير أو تعثر أو بطء، ولا ننسى أن موضوع النموذج التنموي مايزال ينتظر، وأن تدابير تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية ينبغي أن تتعزز وأن يكون لها الأثر الملموس على الأوضاع الاجتماعية ومستوى حياة المواطنين. ولعل موضوع الحكامة بدوره مايزال يفرض نفسه، ليس فقط في باب ترشيد الموارد والنفقات، ولكن أيضا في ما يخص معالجة السياسات القطاعية، وما يبرز من اختلالات على مستوى التدبير والمردودية، ولعل أبرز الأمثلة في هذا الشأن ما حملته التقارير عن مجموعة من المقاولات والمؤسسات العمومية، التي قالت بأن عائدتها (لفائدة الدولة) تراجعت بحوالي 1000 مليار سنتيم سنة 2016، ويثار الآن مضمون تقارير المجلس الأعلى للحسابات، وهي التقارير التي تفيد بأن المؤسسات العمومية تعاني من عدة أعطاب، ومن تداخل الأدوار والاختصاصات، ومن تراكم المديونية، وبطء وتيرة النمو… هكذا، فبقدر ما تعد الدبلوماسية الاقتصادية من القنوات والآليات الحاسمة في الواجهة الاقتصادية، وعلى مستوى التعاون والتبادل الدوليين، وكدعامة للاقتصاد الوطني والتعريف بمؤهلات البلاد… بقدر ما يجب أن تكون متلازمة مع الحرص الدائم على شروط بناء اقتصاد قوي ومتطور، وعلى دعم المقاولة الوطنية، وتدبير عقلاني لكل عناصر الإنتاج والخدمات وتسريع النمو.