يحدثك البعض عن المشكلات العالمية، فيضع مشكلة التهديد النووي على رأس المشكلات التي ترعب العالم وتخيفه.. ويضرب لك مثلا بأن الوقت المتاح بين معرفة الصاروخ المتجه إلى هدفه، وبين اتخاذ قرار بمواجهته في أي اتجاه، قد تقلص اليوم، ليصبح ثوان معدودة فقط، بين المعسكرين المتواجهين... تلك بعض أسباب الخوف على العالم، ولكن هناك أسباب أخرى أكثر خطورة وتدميرا، وهي لا تحتاج لضغط أزرار ولا تحسب بالثواني، فهي قائمة تدمر ملايين الأرواح من البشر في أكثر من قارة، وخصوصا في أجزاء كبيرة من إفريقيا وآسيا.. إنها قضية الجوع. ومنذ أن كتب "جوزيه دوكاسترو" كتابه المعروف "الكتاب الأسود للجوع" في أوائل الستينات من القرن الماضي، مرورا بتقرير لجنة ولي برانت الدولية وانتهاء بتقارير المنظمات المختلفة التابعة للأمم المتحدة وقضية الجوع ونقص التغذية التي تقصف أرواح الألوف المؤلفة في الأنفس البشرية كل عام، هي قضية تتداولها المحافل المتخصصة والتقارير الموثقة، وتظل حبيسة الأدراج أو مضمونة في كتابات الأكاديميين، أو ينظر إليها على أنها قضية إنسانية فحسب.. ويقول الزعيم العمالي السابق هارولد ولسون – وكان ذلك في بداية الستينات من القرن الماضي أيضا- "إن المشكلة الملحة لغالبية البشر ليست مشكلة الحرب ولا مشكلة تكاليف المعيشة ولا مشكلة الضرائب... إنها مشكلة الجوع.. ذلك أن الجوع هو نتيجة وسبب في نفس الوقت للفقر والبؤس لملايين البشر من أبناء الأرض". إن البؤس والجوع الذي يخيم على قسم كبير من سكان الكرة الأرضية هو في نظر العقلاء أشد خطرا على مستقبل الإنسانية، حتى من هول الحرب النووية. وإذا كانت الحرب النووية غير متوقعة.. فالفقر والبؤس هو الواقع المعاش يوميا، ولكن من المسؤول عن الجوع في العالم ؟ هناك نظريتان مطروحتان لتفسير أسباب الجوع وتحديد العوامل المسببة له : تقول النظرية الأولى إن الجفاف واحتباس الأمطار في بعض المناطق، وتآكل التربة وزيادة تكاثر السكان – خاصة في العالم الثالث – وتدفقهم من المناطق البدوية إلى الحضرية، وما شابه ذلك من العوامل الطبيعية يؤدي إلى تدهور الزراعة. وفوق هذه الأسباب الطبيعية – يذهب القائلون بهذه النظرية إلى وضع أسباب مصنوعة من قبل الإنسان نفسه – مرة أخرى – خاصة في العالم الثالث ليزيدو بأن السياسات غير الحكيمة – الزراعية والاقتصادية بوجه عام، والتي تتبعها أقطار العالم الثالث – تؤدي إلى تزايد في انهيار الزراعة، كما تؤثر في ذلك الخلافات الإقليمية الحادة، والتي قد توصل إلى الحرب، مما يدفع مزارعي المناطق الحدودية إلى الهجرة، وحرمان البادية من الخدمات الأساسية، واحتكار الثروة لدى فئة صغيرة من الناس، ويؤدي ذلك بالتالي إلى أن يصبح البدوي فقيرا معدما وتتناقص إنتاجيته إلى الحضيض، مما يجعل هذا البدوي يعتقد أن خلاصه في المدينة.. فيزيد المشكلة تعقيدا. هكذا ترجع النظرية الأولى أسباب المجاعة إلى الانحطاط الزراعي المرتبط بالمؤثرات الطبيعية وبالاجتهادات الخاطئة للإنسان. أما النظرية الثانية في أسباب هذه المجاعة وتدني مستوى التغذية لبعض بلدان العالم الثالث، فهي تضع اللوم على سيئات النظام الاقتصادي العالمي، فهو يفرض على الدول النامية والفقيرة حدودا لا يمكن تخطيها، فإن هي حاولت أن تنمي نفسها زراعيا تجد أنها في حاجة إلى مستلزمات الإنتاج الزراعي، كالأسمدة والمبيدات ووسائل النقل والتخزين، والتقاوي (البذور) المحصنة، وفوق ذلك المعرفة العلمية.. وجميعها مصنوعات أو خدمات تملكها البلدان المتقدمة، ويعترض الحصول عليها الافتقار إلى نقد نادر ليس متوفرا إلا بمساعدة الدول المتقدمة نفسها، وكأن الدائرة مقفلة لا خروج منها. في الوقت نفسه تفرض الدول المتقدمة الأسعار التي تناسبها للمنتجات الخام، المتوفرة في البلدان النامية، وتغلق سوقها من جهة أخرى – إلا فيما ندر – لأي شكل من أشكال المصنوعات أو المنتجات الزراعية التي يمكن أن تدر نقدا أجنبيا. وباختصار– تضع هذه النظرية اللوم كل اللوم في مظاهر الفاقة والجوع في العالم، على سياسات الدول المتقدمة المحتكرة للنظام الاقتصادي الدولي.. فأي النظريتين على خطأ.. وأيهما على صواب ؟ نكون مجانبين للحقيقة والواقع إذا تبنينا إحدى النظريتين على علاتها، فهناك حق في بعض ما تقوله النظرية الأولى، وحق في بعض ما تقوله النظرية الثانية، إلا أن واقع الفاقة والجوع في العالم الثالث واقع حي معاش. فمظاهر الجوع والفاقة في بعض مناطق إفريقية وآسيا وأمريكا اللاتينية تصدمنا بها إعلانات مؤسسات الإغاثة الدولية، ومؤسسات العون الخيرية الإقليمية في كل يوم وساعة. إذا كان الانفجار السكاني وعوامل الطبيعة من الأسباب الرئيسية لمظاهر الفاقة والجوع في عالمنا.. فإن هذه الأسباب ليست كل شيء. حيث إن الانفجار السكاني يمكن من خلال وسائل متعددة أن يضبط، ومن خلال استخدام التقنية المتقدمة يمكن أيضا موازنة ما تحجبه الطبيعة لفترة زمنية محددة، إلا أن أسبابا أخرى يشترك فيها الإنسان بإرادته تسبب الفاقة والجوع.. وهي أسهل تحكما في يد الإنسان إن توفرت الإرادة. والكلام في هذا الشأن قد يطول ويطول.. ونكتفي بهذا القدر. وفي شهرنا هذا – شهر رمضان المبارك – والذي يحثنا فيه ديننا الإسلامي وحضارتنا العظيمة على الصوم من أجل التعبد ومشاركة غيرنا عناء الحرمان لفترة من النهار.. نضع السؤال الآتي لكل مهتم: هل توجد لدينا سياسة أو سياسات عربية زراعية تهدف إلى الحد من تبعيتنا الغذائية وتكفينا شر الحاجة ؟ أم أننا نخضع لأهداف السياسة الزراعية للآخرين...؟ إن ذلك لعمري لهو الجهاد العظيم... والله الموفق 10/07/2013 (فاتح رمضان 1434) محمد الشودري