المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب الفاسي يخسر أمام البركانيين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء        بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    "وزيعة نقابية" في امتحانات الصحة تجر وزير الصحة للمساءلة    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حقوق الإنسان .. الفجوات بين النصوص والواقع
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 31 - 10 - 2011

تشكل الحرب إطارا آخر للسلوكات التي تخترق حقوق الإنسان، وهذا رغم أن الناس قد يعتقدون كل من جهته من بين الأطراف المتصارعة، بأنهم يحاربون من أجل الدفاع عن حق يطلبونه، أو من أجل ظلم أو حيف يريدون رفعه عن الناس أفرادا وشعوبا. ففي أشكال العنف الذي تتضمنه الحروب بطبيعتها كشكل من الصراع، أنواع من الاختراق المستمر لحقوق الإنسان. لم تتوقف الإنسانية، مع ذلك، عن الحروب المدمرة لحياة ملايين الناس. وأكثر من ذلك، فإن كثيرا ممن ذهبت حياتهم سدى في هذه الحروب لم يكن لهم مشاركة فيها ولا كان لهم دور في التخطيط لها. ونزيد على هذا ملاحظتنا أن الحروب المدمرة، التي دارت في القرن العشرين وفي بداية القرن الواحد والعشرين، لم تقم من أجل استرداد حق ضائع، بل من أجل مصالح تخص بعض البلدان التي حاربت من أجل مصالحها على بعد آلاف الكيلومترات من ترابها الوطني.
- 1 -
انطلقنا في كل مرة تناولنا فيها موضوع حقوق الإنسان من تقدير خاص لصدور ميثاق حول تلك الحقوق، باعتباره لحظة لها قيمة كيفية في تاريخ الإنسانية على هذا الصعيد. لكن هذا التقدير لن يمنعنا من أن نلاحظ أن حقوق الإنسان منطبقة على الواقع الفردي والمجتمعي، ثم في العلاقات بين الدول تركت المجال لكثير من الثغرات التي لا غنى عن التفكير فيها وأخذها بعين الاعتبار. ففي التطبيق الذي يمس الحياة العملية للإنسان تنسل بكيفية لاشعورية، وفي صورة إرث من العصور السالفة لم تنجح الإنسانية في التخلص منه، تصرفات فردية وجماعية ودولية مناهضة للعمل بحقوق الإنسان، فتسمح بابتعاد النصوص عن الواقع الذي وجدت لتشرع له. تعاني الإنسانية اليوم من الحرج التالي: هناك نصوص تشرع لحقوق الإنسان الأساسية التي يكون المساس بها اختراقا لإنسانيته، ولكن الواقع الذي عرفه العالم منذ ذلك يشهد عدة خروقات لها على مستوى الأوطان المختلفة من حيث تقدمها، وكذلك على المستوى الدولي.
- 2 -
لنبدأ بأول الحقوق التي أقرها الإعلان العالمي عنها، وهو الحق في الحياة وواجب الحفاظ عليها من طرف الغير. وهو الحق الأساسي الذي تنبثق عنه حقوق أخرى. فالحياة هي الشرط الذي لا غنى عنه لوجود الكائن بوصفه فردا من نوع، وشخصا له مكونات نفسية ومجتمعية وله مكانة ودور في الحياة المجتمعية التي يشترك فيها مع غيره، ثم مواطنا يكون المطلوب منه المشاركة في الحياة السياسية.
ما نلاحظه في الواقع لا يتطابق تمام المطابقة مع القيمة التي تجعل الحفاظ على حياة الإنسان غاية قصوى لكل سلوك فردي أو جماعي. فحياة الغير لا تكون محترمة كحق أساسي، بل إن الاستهتار بها هو المظهر البارز في كثير من السلوكات التي نصادفها يوميا، وفي كثير من السياسات التي تبني عليها كثير من المجتمعات والثقافات علاقتها بالغير.
نلاحظ عدم احترام حق الغير في الحياة من خلال ارتفاع نسبة الجريمة في المجتمعات المختلفة، علما بأن هذا الارتفاع اصبح ملاحظا بصفة أقوى في المجتمعات الأكثر تقدما. ونرى أن هناك أسبابا تدفع الإنسان إلى القضاء على حياة الآخر منها ما هو نفسي وما هو مجتمعي.
تشكل الحرب إطارا آخر للسلوكات التي تخترق حقوق الإنسان، وهذا رغم أن الناس قد يعتقدون كل من جهته من بين الأطراف المتصارعة، بأنهم يحاربون من أجل الدفاع عن حق يطلبونه، أو من أجل ظلم أو حيف يريدون رفعه عن الناس أفرادا وشعوبا. ففي أشكال العنف الذي تتضمنه الحروب بطبيعتها كشكل من الصراع، أنواع من الاختراق المستمر لحقوق الإنسان. لم تتوقف الإنسانية، مع ذلك، عن الحروب المدمرة لحياة ملايين الناس. وأكثر من ذلك، فإن كثيرا ممن ذهبت حياتهم سدى في هذه الحروب لم يكن لهم مشاركة فيها ولا كان لهم دور في التخطيط لها. ونزيد على هذا ملاحظتنا أن الحروب المدمرة، التي دارت في القرن العشرين وفي بداية القرن الواحد والعشرين، لم تقم من أجل استرداد حق ضائع، بل من أجل مصالح تخص بعض البلدان التي حاربت من أجل مصالحها على بعد آلاف الكيلومترات من ترابها الوطني.
تشمل ملاحظتنا لاختراق مواثيق حقوق الإنسان خلال الحروب، تلك الحروب التي تدور داخل نفس البلاد بين أطراف متنازعة فيها، والتي لا يكون فيها احترام لحق الإنسان في الحياة. فقد ظهر القتل في مثل هذه الحروب بأشكال فظيعة نسي الملاحظ في أنها جرت في زمن توافقت فيه الإنسانية على جملة من المواثيق التي تحفظ حقوق الإنسان.
نذكر أيضا الظاهرة الإرهابية التي مست عواقبها العالم بأكمله. فلا اعتراف في الإرهاب بحق الإنسان في الحياة، وخاصة في الحالاتالتي لا تتوجه فيها الأفعال إلى عدو واضح، بل إلى القضاء على حياة أناس لا علاقة لهم بالصراعات المفترضة فيها ولا بشروط قيامها.
نخلص من كل ما قلناه إلى القول إن النصوص التي يتضمنها الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان لم تنه بشكل حاسم الموضوع الذي تتعلق به. فمنذ تلك النصوص إلى الآن صدر عن الإنسانية ما يدل من جهة على الرغبة العميقة في الحفاظ على حقوق الإنسان، وأهمها حقه في الحياة ليستجيب ذلك للرغبة العميقة في البقاء، ولكن صدرت عن الإنسانية أيضا أفعال مناهضة لحقوق الإنسان تدل على نوع من التدمير الذاتي وهدم أسس الحياة الإنسانية استمرارها. ولا مخرج من ذلك إلا باتباع سياسات تصون حق الإنسان في الحياة داخل المجتمع الواحد أو في العلاقات بين المجتمعات.
- لا غنى داخل كل مجتمع عن دراسة شروط انتشار الجريمة للتمكن من توفير حماية المجتمع منها، لما فيها من خطر على حق الإنسان في العيش في أمان.
- لابد أيضا من العمل على تطوير سياسة السلام في العلاقات الدولية، لما في ذلك من حماية للإنسانية من خطر الحروب التي تقضي على حياة الملايين من الناس.
ليس ضمان حق الإنسان في الحياة هو المطلب الوحيد الذي تظهر فيه الفجوة بين النصوص والواقع في تطبيق المبادئ الداعية إلى الحفاظ على حقوق الإنسان. فهناك حقوق أخرى أساسية نلاحظ بصددها نفس الفجوة، ويستحق بعضها أن نوليه اهتمامنا لمعرفة الوضع الراهن لحقوق الإنسان في العالم.
- 3 -
قلنا في السابق إن حق الإنسان في الحياة هو الذي تتمحور حوله الحقوق الأخرى، لأن انعدامه يجعل تلك الحقوق الأخرى لاغية، حيث لا وجود للذات التي ستحملها. ولذلك، فإننا تتمة لحديثنا عن حق الإنسان في الحياة سنبدأ من الآن حديثنا عن الحقوق الإنسانية الأساسية الأخرى.
أول حق بعد ضمان الحياة هو حق التغذية المتمثل في ضرورة الحصول على القدر الكافي( الحد الأدنى أو ما يفوقه) من الغذاء الضامن لاستمرار حياة الفرد ولحمايته من المجاعة والأمراض التي يمكن أن تنجم عن ذلك. وهذا الحق هو الذي يكون على جميع الحكومات أن توفره لمواطنيها، وبه نقيس مدى التزامها بالعمل بمقتضى حقوق الإنسان.
نعتبر الحق في القدر الكافي للغذاء من الحقوق الأساسية للإنسان. فقد نطلب للإنسان حريات متعددة تتعلق بشخصيته القانونية والمجتمعية والسياسية، ولكن الإنسان الذي لا نوفر له الحد الأدنى من التغذية لن يعيش إلا حريات وهمية توجد في النصوص دون أن يكون بإمكانه الوصول إلى درجة التمتع بها. فما المعنى الذي ندعو به الإنسان في مجتمع ما لممارسة حقه في الانتخاب من أجل اختيار حكامه أو ممثليه في المجالس النيابية والاستشارية إذا كنا لا نخطط من أجله لسياسة توفر له شرط الاستمرار في الوجود دون التعرض لأخطار جسمية ونفسية وعقلية يسببها النقص في التغذية؟
قبل أن يكون الحق في التغذية حقا مجتمعيا، فإنه يكون قبل ذلك حفاظا على الإنسان في مستوى أول هو وجوده البيولوجي ككائن حي. فالإنسان، قبل أية خاصية أخرى، جسم حي من خصائصه التغذية والنمو، ومن حقه من حيث هو كذلك أن يكون من بين أولويات وجوده أن يهيئ له المجتمع الشروط الدنيا للعيش الملائم، وهو ما تلعب فيه التغذية الكافية دورا هاما يضمن به الإنسان استمرار حياته.
الحق في التغذية الملائمة شامل للنوع الإنساني ينبغي أن يتمتع به كل فرد منه دون تمييز في ذلك بين الناس، كما هو الشأن في ذلك بالنسبة لحقوق الإنسان بصفة عامة. وهو شامل أيضا على مستوى التضامن المطلوب من الإنسانية لكي يكون ذلك الحق متوفرا لجميع الناس بدون استثناء. فكما أنه يكون على الحكومات في كل بلد أن تضع من السياسات الزراعية والصناعية ما يؤدي إلى توفير التغذية لمواطنيها، فإن على المنظمات الدولية المهتمة بهذا الأمر، ومنها أساسا منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة، أن تخطط لسياسة تنسيقية بين أعضائها من أجل توفير الغذاء في الجهات المختلفة من العالم، وذلك نتيجة للضرر الذي قد يلحق جزءا من الإنسانية لأسباب طبيعية أو مجتمعية مختلفة. فإن حضور ذلك العمل المشترك هو ما يعطي معنى إيجابيا للمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان.
الحق في توفير التغذية شامل يتعلق بالإنسان في كل أوضاعه: فهو حق للطفل سليما وعليلا، وللأطفال الفاقدين لأسرهم لسبب من الأسباب، وللأطفال المتخلى عنهم أو من هم في حالات قريبة من هذه الحالة، والتغذية كذلك حق بالنسبة للإنسان الراشد غير القادر على توفير ذلك بنفسه لظرف من الظروف المانعة، وحق للمريض سواء كان مرضه عضويا أو نفسيا أو عقليا، وحق للسجين مهما كانت بواعث اعتقاله وسجنه، ومهما كانت الأحكام الصادرة في حقه. التغذية بتعبير آخر حق للإنسان في جميع أوضاعه الحياتية، ومادام على قيد الحياة. ولا يحق تبعا لذلك تعريض الإنسان للجوع، أو وضعه في إطار نقص في الغذاء إلى الحد المضر بجسمه وتعريضه للأمراض والوفاة.
نلاحظ في عالم اليوم، رغم وجود المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وضمنها بنود تتعلق بالحق في التغذية، هو الانتشار المتزايد للمجاعة في جهات من العالم، وخاصة في إفريقيا وآسيا وبعض بلدان أمريكا الجنوبية. ويعود سبب المجاعات المنتشرة إلى أسباب متعددة منها الطبيعة التي تتمثل في شروط الجفاف وقلة الموارد الغذائية، ومنها السياسات الدولية المتبعة في مجال التغذية، لكن منها أيضا قيام حروب دولية أو أهلية. وحالة بلد مثل النيجر أو الصومال دالة على ذلك، علما بأن المجاعة منتشرة في جهات أخرى من العالم.
المجاعة خطر يهدد الإنسانية من عدة وجوه. فهي ضرر تنجم عنه أمراض يستعصي علاجها من أقساها الشلل الدائم وبعض الأمراض النفسية، والضعف العام الذي يسمح لعدد من العاهات بالتطور في الجسم الذي يتعرض للمجاعة. ومن مفارقات العالم المعاصر أن توجد به مجاعة يذهب ضحيتها ملايين الأطفال والراشدين في نفس الوقت الذي تظهر فيه بصورة طبيعية، وبفضل التقدم العلمي المنطبق في مجال الزراعة إمكانية توفير التغذية الكافية للجميع. هذه مفارقة ينبغي رفعها عن العالم المعاصر لكي نقول حقا إن الإنسانية تعيش فيه تاريخا جديدا تكون فيه الكرامة الإنسانية مصانة، ويكون فيه الإنسان حقا هو القيمة السامية دون تمييز أفراد النوع الإنساني بأي شكل من الأشكال.
- 4 -
ننعت الحقوق التي تحدثنا عنها بالحيوية، نظرا لكونها تتعلق بحياة الإنسان وما يرتبط بالحفاظ على وجده من حيث هو جسم حي، ولكن أيضا من حيث هو كائن له مكونات نفسية ومجتمعية. ونواصل كلامنا عن هذه الحقوق بحق الإنسان في الصحة وتوفير شروط الحفاظ عليها وصيانتها.
لابد في الحديث عن الحق في الصحة والعلاج من البداية بما هو طبيعي من حيث إن حياة الإنسان تتقاسمها السلامة والاختلال، أي الصحة حين تؤدي كل أعضاء جسمه الحي وظائفها وفق الشروط الخاصة بها، ثم الاختلال في حالة اضطراب تلك الوظائف. فليس معنى تمتع الإنسان بالسواء في حد ذاته حقا، إذ هو معطى طبيعي. وليس اختلال حلة السواء لذات الإنسان ضياعا لحق، إذ ذلك بدوره معطى طبيعي. فما هو حق للإنسان على مجتمعه هو الحفاظ على سلامة البدن والحياة النفسية والعقلية، وهو كذلك توفير الشروط والوسائل والكفاءات البشرية الكفيلة بممارسة الفحص والمتابعة والمراقبة أثناء المرض. هذا هو الحق الذي ورد في المواثيق الدولية المتعلقة بالموضوع، وهو واجب في حق كل عضو في المجتمع، وواجب للسلطة المكلفة بتدبير شؤونه.
نلاحظ في مجتمعات مختلفة وعلى الصعيد الدولي ضعفا مختلفا في قدره للقيام بالوظائف التي تقتضيها صحة الإنسان. يظهر ذلك في المجتمعات المتخلفة من حيث بنياتها، حيث تضعف الإمكانيات المادية ويضعف معها وجود الكفاءات البشرية اللازمة، كما تضعف الوسائل التي تسمع بمتابعة دقيقة وناجعة للمرضى من أجل علاجهم وإعادة وظائفهم الحيوية إلى حالة التوازن والسواء. ومن الواضح أن هذه الحالة تؤدي إلى استفحال الأمراض وانتشارها، وخاصة إذا تعلق الأمر بأمراض معدية سريعة الانتقال أو تعلق بأوبئة تقضي في زمن قصير على حياة الآلاف من الناس. وقد ظهرت أمراض كثيرة في حاجة إلى مواجهتها بسياسة في مجال الصحة، يتحمل وزرها المجتمع، وبداخله السلطة التي تدبر شؤونه. لكن البلدان المتخلفة، التي تضعف فيها الإمكانيات المادية والتقنية والكفاءات البشرية، تبدو غير مؤهلة السياسة الملائمة لمواجهة الوضع الصحي لمواطنيها، فيضيع بذلك حق الإنسان في العلاج إذا أصاب جسمه خلل في وظائف أعضائه الحيوية.
للوضعية الصحية للإنسان أهمية خاصة داخل كل مجتمع بالنسبة لمواطنيه، ولكن عالم اليوم المتواصل أكثر من أي وقت مضى يهتم بالوضع الصحي العالمي الذي تأسست من أجله منظمة عالمية لمتابعة الوضع الصحي بصورة شاملة في كل البلدان. وتأسيس هذه المنظمة أمر إيجابي بالنظر إلى الإمكانيات الواسعة للحركة والتواصل بين الناس في عالمنا المعاصر، تفتح الباب أمام انتقال الأمراض المعدية والأوبئة من بلد إلى آخر، ومن قارة إلى أخرى، فزادت خطورة تلك الأمراض على الإنسان في كل مكان من العالم، وصار من المطلوب العمل وفق سياسة تنسقها المنظمة العالمية للصحة. وفوق هذا، فإن روح المواثيق الدولية لحقوق الإنسان أنها تعني الإنسانية كافة دون تمييز بين الانتماء إلى أوطان مختلفة أو إلى جهات مختلفة من العالم. الإنسان من حيث قيمته في الكون واحد بالنسبة لتك القوانين، والإنسانية التي تعمل بمقتضاها متضامنة مبدئيا، ومن المطلوب أن تكون كذلك واقعيا.
لا يمكن التنكر لما تقوم به المنظمة العالمية للصحة في رصد الوضع الصحي في العالم، وفي البحث عن الوسائل المادية والتقنية والبشرية لمواجهة الحالات العسيرة التي تعرفها بغض البلدان، خاصة وأن هناك عوامل تجتمع لتزيد من فداحة الوضع الصحي في بعض البلدان. فالكوارث الطبيعية قد تكون إطارا يساعد بعض الأمراض والأوبئة على الانتشار، ثم الحروب الأهلية، التي تؤدي إلى وضع صحي غير مقبول، كما أن هناك نقصا في الوعي بطرق انتشار بعض الأمراض بين السكان، ونضيف إلى ذلك أن قلة الإمكانيات المادية والبشرية في الدول الضعيفة تجعلها غير قادرة على مواجهة الوضع بإمكانياتها الذاتية.
رغم المجهود الذي تبذله المنظمة العالمية للصحة، فإن الحالة الصحية في العالم في حاجة، مع ذلك، إلى مزيد من التنسيق من أجل تجاوز حالات حرجة توجد في القارتين الإفريقية والآسيوية. تقتضي كونية حقوق الإنسان،وتلك هي الدلالة الحقيقية لمواثيقها في هذا الموضوع، نوعا من التعاون الدولي يكون فيه على الدول المتقدمة والغنية، مساعدة الدول الفقرة والضعيفة في مواجهة الحالة الحرجة للوضع الصحي بها. نعتبر كل نقص في هذا المجال نقصا في الوقت ذاته في العمل من أجل ترسيخ حقوق الإنسان على الصعيد العالمي يجعل الطريق طويلا دائما أمام تحقيق المطلوب في النصوص. فالنصوص الموجودة لحقوق الإنسان لاتصف حالة قائمة ومكتملة، بل تشير إلى الطريق الذي ينبغي اتباعه للوصول إلى ذلك المثال.
- 5 -
عندما عزمنا على التفكير في الفجوات التي تفصل في ميدان حقوق الإنسان بين النصوص والوقائع، قررنا في نفس الوقت أن نخص بالدراسة تلك الحقوق التي وصفناها بالحيوية لأنها الحقوق الأساسية التي بدونها لا تكون الحقوق الأخرى ممكنة، ولأن الفجوات تظهر فيها بصورة أوضح وأقوى. لكن هذا لا يعني أن الواقع بصدد الحقوق الأخرىالتي نصفها بالمجتمعية والاقتصادية والسياسية يكون مطابقا تمام المطابقة للنصوص المتعلقة به. ونتناول هذه الحقوق في دراسات أخرى متعلقة بمجال حقوق الإنسان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.