"الكتابة تبدو سهلة غير أنها في الواقع أشق الأعمال في العالم". قرأت هذا القول في كتاب "فن الرواية "لمؤلفه كولن ولسن، نقلا عن الروائي الأمريكي أرنست همنغواي.. وكنت بحاجة إلى مثل هذه الكلمات لتفسير حالة الانقطاع عن الكتابة التي تصيب صاحبها عادة بالقلق. هل ثمة إبداع متواصل، أعني كتابة إبداعية لا ينقطع حبلها.. ولا يتعب صاحبها إذا طال به الدرب ؟ يستطرد كولن ولسن في وصف حالة مشابهة تصيب الذين يكتبون كتابة جيدة غير أنه ليس لديهم ما يقولونه، ويبحث لهم عن "حيلة".. لأن الإبداع ليس سرا مقدسا بل أساس حل المشكلات، ويضيف: حين يضع الكاتب أمامه مشكلة، من الضروري أن تكون تلك المشكلة أمرا يهمه ويحاول أن يسطرها على الورق وقد لا يهدف عادة إلى إيجاد حل لها على الرغم من أن ذلك هو نصف الشوط نحو إيجاد الحل.. غير أنه يتحتم من أجل التعبير عنها تعبيرا واضحا، أن يجد الكاتب الحلول لعدد من المشكلات الفنية البحتة.. من أين يبدأ وماذا عليه أن يدرج وماذا عليه أن يستثني وهلم جرا.. إن معظم مناهج الكتابة الإبداعية تكرس جزءا كبيرا من الوقت لهذه المشكلات الفنية. يتضح أن مشكلة الكتابة تتحدد بمعضلتين أساسيتين: أن يجد الكاتب ما يقوله حقا، وأن يجيد التعبير عنه بلغة عالية.. والكتابة الإبداعية تحديدا، هي هذا المزج المرهف بين الجوهر والشكل، بين الفكرة وعناصر التعبير عنها.. في عملية ليست سهلة بل تبدو بالفعل من أشق الأعمال ومن أجملها.. وفن الكتابة فن الحياة.. ولهذا يستفيد الكاتب من بهجة غير منظورة تساعده على ملاحقة أنوار الأمل لتأتيه الأجوبة طيعة بعد مشقة أين منها دفع الصخرة إلى أعلى الجبل، وتلك قوة الكتابة تستفاد من قوة الحياة نفسها حيث نجد دائما الوسيلة التي تمكننا من أن نحيا، نجد دائما الوسيلة التي تمكننا من أن نصف هذه الحياة وأن نكشف أسرارها وعند ذلك تتحول "الحيلة" التي طالما افتقدناها إلى بهجة طالما سعينا إليها وصنعناها. آفاق حياتنا الثقافية واسعة وغنية، وهي عند روادها لا ترهق الباحث لأنها تقدم له المتعة وتهمه حتى الأعماق.. وهذا الغنى الثقافي متحصل في الفن على أجناسه وفي العلوم على أبوابها، ولا تعدم هذه الحياة من عناصر المغامرة والتشويق لأن أسرارها لم تنكشف بعد لذلك تثير شجاعة الساعي في دروبها كما تثير خوفه في آن واحد.. ولكي يستطيع الباحث في حقل الثقافة عندنا أن يكمل مشواره دون مشقات، عليه أن يتزود بنعمة العقل والقلب، المعرفة والعشق، وكلما نما زاده كلما حسنت مسيرته. فلا تكفي نعمة العقل دون القلب في فهم تراث الثقافة العربية الإسلامية وأسرارها ولذلك اختلف منهج العلماء المسلمين عن غيرهم من العلماء اختلافا يعود إلى طبيعة الثقافة وخصوصيتها. وتميز المنهج الإسلامي في تحصيل المعرفة وفي البحث عنها، في العلوم كما في الفنون، بعدة خصائص تمثل مدرسة مستقلة في علم المناهج استفادت من المدارس السابقة عليها وخاصة في المدرسة اليونانية، ثم أخضعتها لنظرتها النقدية وأعادت تركيب عناصرها من جديد ثم أضافت إليها عناصر جديدة مثلت خصوصية المنهج الإسلامي في العلوم والفنون. وكان المصدر الأساسي الذي نهل منه هذا المنهج هو القرآن الكريم. وكلما اقترب منهج باحث ما من القدرة على معرفة الحق واكتشاف الحقيقة، كان أقرب إلى المنهج القرآني وهكذا يمكن أن نزيد على زوادة الباحث المؤمن والمجاهد إلى جانب نعمتي العقل والقلب نعمة التقوى.. وهذه النعمة الأخيرة هي التي تصوب ما سواها.. هل ترانا نقصد بالمصابيح هذه النعم الثلاث التي تضيء درب الباحث في مسيرته نحو الآفاق السامية ؟ وهل تكون هي الجواب على المشكلة التي أثارها صاحبنا كولن ولسن حين تحدث عن ضرورة إيجاد حل لعدد من المشكلات الفنية التي تعترض الكاتب، واعترف أن معظم مناهج الكتابة الإبداعية تكرس جزءا كبيرا من الوقت لهذه المسألة ؟ الحقيقة أن "مصابيحنا" تتجاوز مشكلات المنهج المعروفة عند الكتاب الغربيين الذين نقلوا مناهج اليونان ولم يحسنوا استخدامها لتقترب أكثر من النعم الثلاث التي ذكرتها وتمثل هذا المزج الذوقي بينها والذي يستمد قوته من تراث علمائنا المسلمين ومن طرائقهم خاصة العرفاء منهم والذين استطاعوا بذوقهم ومعرفتهم العالية أن يكتشفوا الحقائق وأن يعشقوها. إن طريقتها تكتسب من دلالة النور ورمزيته ومن مفهوم الإشراق الذي هو سطوع شمس العقل والقلب على الأشياء، لتصبح أكثر قربا منا، تنكشف لعقولنا وقلوبنا جلية واضحة لا لبس فيها، ولذلك تصبح المعرفة بهذه الأشياء معرفة شاملة تحيط بها من كافة الجوانب، ومعرفة الأشياء بهذه الصورة لابد أن تؤدي بنا إلى العشق. والله الموفق 24/04/2011 محمد الشودري