غني عن البيان أن الأسرة الصالحة هي النواة الأولى التي يتربى فيها الأبناء – ذكورا وإناثا- على معاني الإيمان، والعبادة والأخلاق الفاضلة، والعادات الحسنة، فهي البيئة الاجتماعية المصغرة التي تشحذ فيها الإرادات وتقوى فيها الهمم، لتطلب المعالي، إن الأسرة القوية عماد الأمة القوية، وصلاح الأبناء رهين بالتنشئة الأسرية التي تهيئهم لتشرب معاني البر والخير والتقوى، وتعودهم على العادات والأعراف الحميدة، وتحبب إليهم العلم النافع منذ الصغر، حتى إذا انطلقوا إلى المسجد والمدرسة والجامعة، كان لهم من الزاد الإيماني والأخلاقي ما يكسبهم المناعة من عواصف الحياة. والأسرة التطوانية الصالحة نموذج رفيع، ودليل قاطع على هذا الأمر؛ المرأة التطوانية الأصيلة عابدة وعالمة، تخرجت من مدرسة أسرية عرفت على مر العصور بصلاح الوالدين وتحابهما وحرصهما على تعليم أبنائهما روح الدين، وأخلاقه الرفيعة وربطهم بكتاب الله وقراءته وحفظه أدبا وسلوكا. كما عرفت بتشبثها بالشريعة السمحة، وتربية الأبناء على الطاعة والتقوى. وتتحدث حسناء داود عن تفاصيل حياة المرأة التطوانية قائلة: «لقد كانت المرأة التطوانية تبدأ حياتها وهي طفلة صغيرة، تتربى في بيت والديها على جانب كبير من الحياء والوقار، ملزمة باحترام الكبير والصغير،… وقد تكون من المحظوظات اللائي يتم إرسالهن إلى دار الفقيهة التي تحفظها القرآن الكريم». وتواصل الأستاذة حديثها في الموضوع بكل روية وهدوء، لتكشف لنا عن مدى تهمم الأسر التطوانية بتحفيظ بناتهم القرآن الكريم؛ تقول: «ومن الجدير بالذكر أن الفئة المثقفة من الرجال العلماء، والفقهاء، والمدرسين… بتطوان كثيرا ما كانوا يعتنون بتعلم بناتهم فتكون منهن الفقيهات، والحافظات لكتاب الله». ومما لا شك فيه، أن معظم نساء تطوان من الجيل السابق التحقن ب «المسيد»، وبقيت صورة الفقيه عالقة في أذهانهن إلى اليوم. ومازلت أتذكر تلك الصورة الرائعة التي ترسخت في مخيلتي منذ أربعين سنة ونيف؛ حيث كنا نجلس على الحصير ونكتب في الألواح بمداد يسمى «السماخ»، بعدما كان الفقيه قد علمنا آيات من القرآن الكريم نرددها جماعة ونحفظها ونكتبها على اللوح، ثم نمحوها على الفور، ونعيد كتابتها من جديد لنتعلم طريقة الحفظ، وكنا نجد حلاوة كبيرة في ذلك، ومتعة عارمة تختلط فيها صعوبة الحفظ والخوف من عقاب الفقيه بالفرح بما تم حفظه من حصة اليوم. تعلمت المرأة التطوانية القرآن في دار الفقيهة، -كما ذكرنا سالفا – وتعلمته أيضا في حضن أسرتها عندما كانت تسمع والدها يرتل القرآن، ويصلي جهرا بالقرآن، وتعلمت العبادة منذ صغرها، من خلال صورة أمها وهي تلقنها أساسيات الدين. فالمرأة التطوانية ومن خلال ما تشاهده يوميا من سلوكات ومعاملات والديها، تنبهت في وقت مبكر إلى ضرورة الالتزام بتعاليم الدين الحنيف. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الآباء كانوا حريصين على اتباع السلوك النبوي الذي صار عليه الصحابة والسلف الصالح. وحق للأسر التطوانية الواعية أن تفتخر؛ لأنها أبانت عن نضج كبير في طريقة تربية بناتها وتحفيزهن على حفظ كتاب الله وتعلم مبادئ الدين، في وقت كانت الأولوية والأفضلية للرجل، هذه التربية وهذا الوعي صنع نساء متميزات بفقههن وعلمهن وحفظهن لكتاب الله. نذكر منهن السيدة المفضلة الريسونية؛ «فأما سيدتنا، فولدت في حدود عام 1213ه. وكانت من الصالحات القانتات، مجابة الدعاء، عاكفة على العبادة والذكر» ووجب التنبيه إلى أن سيدي عبد السلام بن ريسون له بنات أخريات غير المفضلة، كلهن صالحات، حسب ما ذهب إليه الرهوني. وتنضاف أسماء أخرى في سجل مدينة تطوان، ومنهن السيدة فريجة، وهي صالحة، والسيدة طامو وهي امرأة مجذوبة يشهد لها بالكرامات ومنهن السيدة آمنة غيلانة الفقيهة العالمة الصالحة. وفي معرض الحديث عن العابدات، ذکر عزوز حكيم مجموعة من النساء، وأعادت ذكر هن حسناء داود، وتم تصنيفهن في جدول على أساس الفقيهات. ونستبعد أن تكون المرأة فقيهة دون أن تكون عابدة. لأن مفهوم العبادة يسع الفقيهة والعالمة والصالحة والزاهدة والقانتة…، هو مفهوم شامل جامع لمعاني التقوى والصلاح والورع والاستقامة التي ترتقي بالمرأة إلى مقام الولاية، والصفة التي أطلقت على المرأة في جل الكتب التاريخية، هي صفة الفقيهة وقد تأتي مقرونة في بعض الأحيان بالصالحة، كما هو الشأن مع السيدة للا فريجة التي وصفها الرهوني بذلك، وفي أحيان أخرى تجتمع ثلاث صفات في واحدة الفقيهة والعالمة والصالحة في شخص السيدة للا غيلانة. ولربما يضاف نعت آخر، وهو القانتة الذي وصفت به المفضلة الريسونية وجاء مقرونا بالصالحة، بهذا الاعتبار يجب أن ينظر الى مفهوم العبادة نظرة فيها كثير من الشمولية والجمع. لقد أضافت حسناء داود أسماء أخرى لنساء جمعن بين الفقه وحفظ كتاب الله «ومنهن الفقيهات الحافظات لكتاب الله واللائي كان لهن دار لتعليم وتحفيظ القرآن، نذكر أيضا الفقيهة الشرقاوية معروفة في حومة المطامر، والفقيهة زيوانة، وللا خدوجة، بنت سيدي الحسين الريسوني، والفقيهة بوشتية». عنوان الكتاب: المرأة التطوانية وإسهامها في البناء الحضاري والمعرفي الكاتب: كتاب جماعي الناشر: مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات (مفاد) بريس تطوان يتبع..