نصٌّ رِحْليّ فريدٌ وحافلٌ ذاك الذي قدّم له وحقّقه ونشره أخونا البحّاثة المعتني الدكتور يونس السباح. ومنشأ فرادة هذا النّص الرّحلي يعود إلى كونه نصّا رحليّا جنائزيا؛ يغاير ما عهدناه من أصناف النصوص الرحلية الأخرى كالحجازية والعلمية والسِّفارية وغيرها. فنص الرّحلة يوثق بأسلوب سردي وتقريري لمراحل نقل جثمان سلطان المغرب الأسبق مولاي عبد العزيز بن الحسن العلوي [ت. 1362ه-1943م] منذ أن تحرّك القطار بجثمانه من مدينة طنجة بعد غروب شمس يوم الخميس 6 جمادى الثانية من عام: 1362ه/ 10 يونيه من سنة: 1943ه، إلى أن وصل يوم السبت إلى مقرّ مدفن أسلافه بفاس بضريح مولاي عبد الله، حيث أقبر جثمان الفقيد بين والدته وأخيه السلطان مولاي يوسف. وصاحب النّص الرّحلي هو العلاّمة الفقيه، والأديب الشاعر والوزير بالحكومة الخليفية محمّد بن عبد القادر ابن موسى، [ت. 1385ه-1965م] الذي يقول في مطلع رحلته: "صورة مختصرة لرحلة الوفد الموجّه من قبل صاحب السّمو الملكي الخليفة السلطاني المعظّم مولانا الحسن بن المهدي-حفظه الله-في مهمّة نقل جثمان فقيد المغرب مولانا عبد العزيز، السلطان الأسبق من طنجة إلى عاصمة فاس حيث أودع بمرقده الأخير إلى جنب أسلافه المقدّسين، تلبية لأمر ابن أخيه جلالة ملك المغرب مولانا السلطان سيّدي محمّد أيّده الله". وما يجعل الرحلة فريدة في بابها -أيضا-ما يلي: أولا: أنها توثيق لرحلة جنائزية غير عادية، فهي تخصّ جنازة أحد سلاطين الدولة العلوية الشريفة الذي شغل الناس حيا وميّتا، يتعلق الأمر بالسلطان مولاي عبد العزيز بن الحسن بن محمّد بن عبد الرّحمان بن هشام العلوي، والذي حكم المغرب من سنة 1311ه- 1894م إلى أن تنازل عن العرش جرّاء أحداث سياسية كبرى سنة: 1326ه1908م، واستقرّ بعدها بمدينة طنجة متفرغاً لعبادة ربّه، وهو الحال الذي وصفه الوزير ابن موسى بقوله أثناء إلقائه خطبة التأبين عقب مدفنه: « انتقل بخاصّته إلى طنجة، غير عالق بشعرة ممّا أصاب المغرب بعده من المحن، بعد أن تحمّل من الأهوال والمشاقّ، ما تشيب لهوله الأطفال، وتنوء بحمله الرّواسي، ومن أعظم ما يذكر له فيشكر: أنّه منذ تنازل عن العرش، هذه مدّة من ثلث قرن، وهو ملازم قصره بهذا البلد الأمين، منقطع لعبادة ربّه، معرض عن الاشتغال بالسياسة ووساوسها، والرئاسة ودسائسها، مستمسك بمبدئه القويم، ولو شاء لتحوّل في كثير من المناسبات المواتية، غير أنّه كان أعقل وأحكم، فبرهن على رزانة عجيبة، وعقل رصين". ثانيا: توثيق الرّحلة تم من طرف أحد أبرز العلماء والأدباء والوزراء بالمغرب حينها، ألا وهو الوزير والشاعر محمّد ابن موسى، والذي كانت تربطه بالسلطان مولاي عبد العزيز علاقة متينة، ورثاه بقصيدة عصماء، يقول في مطلعها: يا موحش الأسماع والأبصار** ومروّع الأقطار والأمصار يا تاركَ ( الجبل الكبير) مردّداً** هل ينقضي أمدٌ لغيبة جاري ياراعي الذّكر الحكيم وواعي ال**أثر الكريم بهمّة ووقار حمّ الفراق فكلّ لبّ طائر** ترعاه جانحةٌ بجذوة نار ما مات من أحيا المكارم بعدما** كانت على خطر من الأخطار فإن قضيتَ فإنّ فضلك شاهدٌ** ولئن سكنتَ فطيبُ ذكرك سَارِ أعلى مَقامك من أقامك مَعْقلاً** للمَكْرُمات وزَندُها بك وارِ ثالثا: أنّ وفد الرّحلة ضمّ أعلاماً وأعيانا من الشمال، على رأسهم باشا مدينة طنجة حينها وقاضيها: العربي التمسماني، ووزير العدلية بالحكومة الخليفية العلاّمة الفقيه محمّد بن التهامي أفيلال، وقد أكرم السلطان مولاي محمّد بن يوسف هذا الوفد الخليفي وقلّدهم أوسمة، وعبّر عن ابتهاجه بهم بقوله: " إظهاراً لما نجده من الابتهاج بوفد ابن عمّنا العزيز مولاي الحسن، رأينا أن نزيّن كلّ واحد من أعضائه بوسام من أوسمتنا العلوية، وسيكون ذلك بيدنا إشعاراً باحتفائهم، واعتنائنا بشأن موفدهم". رابعا: تضمنت الرحلة تقارير أخرى هامّة، وأهمها التقرير الذي كتبه الوزير ابن موسى عن الاجتماع الذي عقده المجلس الأعلى لنظام التعليم برئاسة السلطان محمّد الخامس، حيث حضر الوفد الخليفي هذا الاجتماع أعضاء شرف، وضم أعضاء بارزين، منهم: الصدر الأعظم الحاج محمّد المقري، والفقيه العلاّمة محمّد ابن العربي العلوي، والفقيه العلاّمة محمّد الحجوي، والعلامة الفقيه عبد الله الفضيلي، والعلامة الفقيه المؤرخ عبد الرحمن ابن زيدان والعلامة الوزير محمّد الفاسي. خامساً: من فرائد التقارير التي تضمنتها الرّحلة ما كتبه الوزير ابن موسى عن حضور الوفد الخليفي للنشاط الملكي والذي دشنّ من خلاله السلطان محمّد الخامس المدرسة القرآنية بزقاق الحجر بالعاصمة الإدريسية بفاس، يقول الوزير ابن موسى: " دعي الوفد للحضور بمشور الدّكاكين على رأس الثامنة صباحاً عن الأمر الشريف أعزّه الله، فبادر بالتلبية ممتثلاً، وبعد أن تريث بالصدارة في جملة الوزراء قليلا، خرج صاحب الجلالة قاصداً تدشين المدرسة القرآنية التي أسّست عن أمره العالي حديثاً بزقاق الحجر من العاصمة الإدريسية". سادسا: ومن فرائد تقاريرها أيضا: زيارة الوفد الخليفي لجامعة القرويين، ومن ثمّ إلى زيارة مكتبة الشيخ العلامة عبد الحي الكتاني، يقول الوزير ابن موسى: " ثمّ غادر الوفد للإدارة ملبيا دعوة الشيخ العلاّمة المحدّث المسند الشريف سيّدي عبد الحيّ الكتاني، وبعد الفراغ من تناول الغذاء بداره العامرة، قدّمه لمشاهدة مكتبته الشهيرة فاطّلع فيها على ضخامتها من نوادر الكتب وغرائب المخطوطات، وطرف النفائس ما يكلّ عن وصفه الإطناب، فأهدانا بعض الكتب من مؤلفاته القيّمة بعد أن حمّلنا أطيب التّحيات لمولانا صاحب السّمو، ودّعناه معجبين شاكرين". ختاماً ؛ الرّحلة من الفرادة والإفادة بمكان، والمجال لا يتسع لأكثر ممّا ذكر وكان، وقد زاد من حسنها وفرادتها عناية أخينا الدكتور يونس بها، تعليقا وضبطا وتراجم وملاحق، فشكر الله جهده ومجهوده وهنيئا للمكتبة المغربية بهذا الإصدار، والحمد لله في البدء والختام. مختارات من كتب التراث د. محمد شابو [رحلةٌ لنقل جثمان السّلطان مولاي عبد العزيز العلوي من طنجة إلى فاس]