الأزمات السياسية، أغلبها ارتبط بانتقال السلط من سلطان إلى آخر. من زمن الأدارسة إلى عهد العلويين، ظل الانتقال السلس للسلطة يؤرق الحاشية، لاسيما حين يكون ولي العهد في بطن أمه أو طفلا يرتع في حديقة القصر، غير مبال بما يدور حوله من نقاش حول الخلافة. «المساء» ترصد في هذا الملف حكايات مثيرة لسلاطين وملوك وأمراء حكموا المغرب وهم دون سن الملك، فجلسوا على عروش صغيرة فنابت عنهم حاشيتهم في إصدار القرارات، إلى أن اشتد عودهم. ظلت خلافة عدد من السلاطين والملوك وهم صغار عادة عربية منذ الأمويين ثم العباسيين والفاطميين، لتصل إلى ملوك الأندلس. لذلك يحتفظ لنا التاريخ ببعض هذه النماذج التي قادت أطفالا رضعا إلى سدة الحكم. على عهد دولة بني العباس، سيخلف المقتدر أخاه المكتفي سنة 295ه وعمره ثلاث عشرة سنة، وكان المقتدي قد خلف جده القاسم بأمر الله سنة 467ه وعمره ست عشرة سنة. كما أن المستظهر خلف أباه المقتدي سنة 487ه وعمره سبع عشرة سنة. وفي الدولة السلجوقية، خلف ملكشاه الثاني أباه بركياروق وعمره أربع سنوات. وخلف محمود بن محمد بن ملكشاه الأول أباه وعمره أربعة عشر عاما. وفي الدولة الفاطمية، خلف الظاهر بن الحاكم بأمر الله أباه سنة 411ه وعمره ستة عشر عاما. وكان أبوه الحاكم قد خلف أباه العزيز سنة 365ه وعمره أحد عشر عاما. أما المستنصر، فقد خلف أباه الظاهر سنة 427ه وعمره سبع سنين. وكان الآمر بأحكام الله قد خلف أباه المستعلي سنة 495ه وهو رضيع، حيث لم يتجاوز سن الخامسة. أما الظافر قد خلف أباه الحافظ سنة 544ه وعمره سبعة عشر عاما. فيما خلف الفائز أباه الظافر سنة 549ه وعمره خمس سنين. وخلف العاضد جده الحافظ سنة 555ه وعمره أحد عشر عاما. وفي الدولة الأيوبية، خلف المنصور محمد، حفيد الناصر صلاح الدين الأيوبي أباه العزيز عثمان سنة 595ه وعمره عشر سنين. وخلف الأشرف موسى، حفيد الملك الكامل الأول، ابن عمه توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 648ه وعمره ستة أعوام. وخلف الملك العزيز محمد أباه الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي سنة 612ه وعمره ثلاث سنوات. وخلف الناصر صلاح الدين الثاني يوسف بن العزيز محمد، أباه سنة 634ه وعمره سبع سنين. وفي دولة المماليك، خلف الملك سلامش أباه الملك الظاهر بيبرس سنة 678ه وعمره سبع سنين. وخلف الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون أباه سنة 693ه وعمره تسع سنين. وفي ولايته الثانية أربعة عشر عاما. وخلف الملك الأشرف كجك أباه الناصر محمد بن قلاوون وعمره سبع سنين. وخلف الملك إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون أخاه شعبان وعمره سبعة عشر عاما. وفي الدولة الأموية بالأندلس، خلف هشام الثاني المؤيد الحكم المستنص أباه سنة 366ه وعمره عشر سنين، وفي دولة المرابطين، خلف إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين ابن أخيه إبراهيم بن تاشفين سنة 541ه وعمره عشر سنين، وفي دولة الموحدين، خلف المستنصر أبو يعقوب بن محمد الناصر أباه سنة 611ه وعمره ستة عشر عاما، إضافة إلى حالات أخرى نتعرف على تفاصيلها في هذا الملف. ومن الطرائف التي تسجلها كتب التاريخ عن هؤلاء الأطفال الذين يتولون الحكم وهم صغار، بل ورضعا في بعض الحالات، ما حدث للخليفة الفائز الفاطمي الذي حمله الوزير العباس ابن الفرج الصنهاجي ودخل به إلى مكان الاحتفال به خليفة، فارتاع الطفل وهو في سن الخامسة من العمر، ثم بكى قبل أن يتبول على الوزير وهو يحمله، لذلك لم تجد الحاشية من تعليق غير الحديث على أن الخليفة أفاض من كرمه على وزيره، ولم يكن هذا الكرم غير البول. في أوربا تزامنت الاضطرابات مع ضعف السلطة الملكية وضعف خبرة الملوك، فلم يسمح الملك فرانسوا الأول والملك هنري الثاني بأي تحد لسلطتهم، لكن بعد موت الملك هنري الثاني في 10 يوليوز 1559، لم يستطع خلفاؤه كفرانسوا الثاني، ثم تشارلز التاسع فرض سلطتهما حيث كانا صغيري السن، لم يستطيعا منع الفرنسيين من الانقسام بين الجهتين المحاربتين. ترددت الملكة الأم كاترين دي ميديشي بين التسامح الديني والقمع، مما أدى إلى زيادة التوتر وظهر الطابع الإقطاعي بوضوح. إن انقسام المجتمع الأوربي إلى فئات اجتماعية كرجال الدين والنبلاء والبرجوازية وعامة الشعب في فترة الحروب الدينية هو أبرز مضاعفات هشاشة وضعف في السلطة. في هذه الفترة، تحدى رجال القانون والأدباء السلطة الحاكمة لكون الملوك صغار السن، مما دفع مختلف الجهات السياسية إلى محاولة فرض سلطتهم للسيطرة على السلطة الحاكمة. لم يكن أحد ينتظر تصفية أول سلاطين الدولة الإدريسية على يد أنيسه سليمان الشماخ على نحو ماكر، لأن المولى إدريس لم تكن له مطامع سلطوية بقدر ما كان همه الوحيد «بعث الخلافة الإسلامية التي توحد المشرق والمغرب حول خليفة واحد من بيت النبوة». لقد قال في أول خطبه للأمازيغ، سكان المغرب الأولون، إنه يترك لهم الحرية التامة في قبوله أو رفضه. لكن القدر لم يمهل الرجل بعد أن رتب سليمان الشماخ تفاصيل المؤامرة وأجهز عليه فجر سنة 177 هجرية فأرداه صريعا بمفعول سم زعاف، وكان عمر الفقيد 47 سنة. وحسب الروايات ذاتها، فإن دقائق قليلة كانت تكفي لمصرع مؤسس دولة الأدارسة الذي كشف لزوجته عن اسم الفاعل قبل أن يتحول إلى كائن «مسموم»، حينها تمت مطاردة الشماخ الذي غادر المكان، وقيل إنه قد قتل في المنطقة التي تسمى الآن وجدة من طرف رجال «اقتفوا أثره ووجدوه في مكان غير بعيد من وجدة الحالية وقتلوه» ومنها جاء اسم وجدة. وهناك بعض المؤرخين من يقول بأن يد الفاعل قد بترت، ومنهم من أكد أن هارون الرشيد قد كافأ الشماخ بتعيينه على بريد مصر، وهو المنصب الذي تلقاه منفذ عملية الاغتيال بقلق لأنه كان يعتقد بأن التصفية تتطلب منصبا أكبر. لكن هذا الحادث زاد من حقد الأدارسة على النظام العباسي، وكرس الحركة الانفصالية بعد أن بايعت القبائل ابنه إدريس الثاني سلطانا على المغرب وهو في بطن أمه كنزة، للتصدي لكل محاولة عباسية لوأد الإمارة الناشئة. يقول عمر فوزي صاحب كتاب «العقد الثمين في ذكر آل تيكزارين ورفع نسبهم إلى المصطفى الأمين»، عن بيعة الأمازيغ لمولى إدريس الثاني وأمه كنزة الأَوربية الأمازيغية، حين قال لهم رفيق الإمام إدريس الأكبر راشد: «لم يترك إدريس إلا حِملا من زوجته كنزة بنت عبد الحميد الأوُربي، وهي الآن في شهرها السابع، وسنصبر حتى تضع حملها، فإن وضعت ولدا بايعناه». ولدت أرملة السلطان ولدا، وأخرجه راشد إلى رؤساء البربر وقالوا هذا ادريس بعينه فأطلقوا عليه اسم إدريس الثاني. لكن قضية الخلافة وانتقال السلطة كانت موضوع جدل بين المؤرخين والمثقفين، إلى حد التشكيك في نسب إدريس الثاني، والذي يعتبره أحمد الدغرني «كنزوي». بسبب الاعتقاد في رواية تقول إن «إدريس الثاني لم يولد إلا بعد وفاة إدريس الأول ب11 شهرا من أمه كنزة الأمازيغية زوجة إدريس الأكبر». ويعتبر بالتالي «إدريس الثاني ثمرة علاقة جنسية محرَمة جمعت كنزة الأوربية بالمولى راشد الأمازيغي». لكن العديد من المؤرخين تصدوا لهذه الرواية واعتبروها «أغلوطة نشرها العباسيون» على حد تعبير عبد الهادي التازي. إلا أن المثير في القضية هو أن قبر إدريس الثاني لم يكتشف إلا بعد وفاته، حيث ظل مجهولا لأزيد من ستة قرون. بالرغم من الجدل «الجيني» إلا أن فترة حكم المولى إدريس الثاني عرفت فتوحات كبيرة، وبعد وفاته خلفه ابنه محمد الذي قسم مناطق الدولة على إخوته بالرغم من صغر سنهم، فكان لهذا التقسيم «العائلي» تأثير سلبي على وحدة البلاد، وقامت صراعات داخلية بين الإخوة منذ 932 ميلادية، كانت فرصة لحكام الأندلس الأمويين الذين استغلوا هذه الانقسامات، مما أدى إلى انهيار المملكة وسهل سقوطها بعد 34 سنة فقط عن رحيل السلطان. هكذا ظل الموالون للمستعمر الفرنسي يقدمون السلطان محمد بن يوسف، الذي سيحمل اسم الملك محمد الخامس، أما الصحافة الفرنسية فقد سمته، لصغر سنه وعدم مواكبته للأحداث السياسية على عهد والده، ب»حمادة»، بدلا من محمد للتصغير، بعد أن اعتقدت أنه سيكون مطيعا لكل قراراتها. لقد راهنت سلطات الحماية على اختيار محمد بن يوسف سلطانا من بين إخوته، على الرغم من أنه كان أصغرهم، وكان أقلهم تعليما واهتماما بالشأن السياسي للبلاد، بعد أن عاش في كنف والدته بقصر مكناس بعيدا على والده، مقارنة مع أخيه مولاي إدريس، الذي كان واليا على منطقة مراكش على عهد والده مولاي يوسف. وكانت وفاة السلطان مولاي يوسف المفاجئة يوم الخمس 17 نونبر سنة 1927 بمثابة نعمة على المستعمر الفرنسي، حيث رأى أن معارضة السلطان للمشاريع الاستعمارية بالمغرب قد تنتهي، بعد أن خففت من الضغط على الإقامة العامة، لذلك تنبه «تيودور ستيك»، المقيم العام آنذاك والذي عوض ليوطي، إلى ضرورة التدخل بشكل مباشر في مسألة اختيار من يتولى الملك بالمغرب بعد وفاة مولاي يوسف، خاصة أن السلطان لم يعين، قيد حياته، وليا للعهد، كما هي عادة جل أسلافه. وهكذا، استغل المقيم العام فراغ منصب ولاية العهد، وأشار إلى الموالين لسلطة الحماية، من حاشية السلطان، وبعض رجال الإقامة من الفرنسيين، إلى العمل على اختيار الأمير سيدي محمد بن يوسف ليتولى ملك المغرب، لبعده عن أي نشاط سياسي في حياة والده. كان المقيم ستيك متشبعاً هو وفريقه بروح المستعمر، الذي لا يقنع إلا بالحكم المباشر، وإبعاد السلطان عن كل مشاركة في ممارسة السلطة، حتى ولو كانت هذه المشاركة رمزية. إلا أن القرار الذي أحرق ما تبقى من خيوط في العلائق بين مولاي يوسف والمقيم العام تيودور ستيك، هو سماح هذا الأخير لآلاف من المعمرين الذين تقاطروا على المغرب بعد استقالة ليوطي، بالاستيلاء على الأراضي الفلاحية الخصبة بأهم السهول المغربية. فضجت القبائل التي سلبت منها أراضيها بالشكوى والتظلم أمام قصر السلطان مولاي يوسف، الذي لم يخف اعتراضه على سياسة ستيك. إلا أن المقيم تجاهل اعتراض السلطان فطالب مولاي يوسف حكومة باريس باستبداله بغيره. وتدهورت العلاقة بين المقيم والسلطان إلى درجة أن هذا الأخير أمر بطرد المقيم من قصره، وأصدر أوامره بعدم السماح له بأي مقابلة ملكية. لاحظ عدد من الباحثين الذين أرخوا لحدث بيعة الأمير سيدي محمد بن يوسف، بعد وفاة السلطان مولاي يوسف سنة 1927، بأن حاشية السلطان، ورجال الإقامة العامة، كانوا منذ صيف السنة نفسها يستشعرون اقتراب أجل السلطان الذي كان يعاني من وطأة مرض البروستات، حيث قرر الانتقال من الرباط إلى فاس. فبدأ رجال المخزن يتهافتون حول من سيتم اختياره لكرسي السلطنة بعد وفاة مولاي يوسف. وهكذا ما كاد السلطان مولاي يوسف يسلم الروح إلى باريها يوم الخميس 17 نونبر سنة 1927 م، حتى ظهرت بوادر الانقسام بين رجال المخزن، حيث كان الحاجب التهامي عبابو، وبجانبه مدير التشريفات السلطانية، قدور بن غبريط، يميلان إلى مبايعة الأمير مولاي إدريس بن يوسف، باعتباره أكبر أبناء السلطان المتوفى وخليفته بمراكش، وكان هذا الأمير يحمل الكثير من أوصاف أبيه. أما الفريق الثاني، فيقوده الصدر الأعظم محمد المقري ويعضده الفقيه محمد المعمري، وبعض الفرنسيين النافذين في الإقامة. وقد كان هذا الفريق يلعب ورقة سلطة الحماية. فإذا كان محمد المقري يخشى على انفلات منصب الصدر الأعظم من يده في حالة تولي مولاي إدريس بن يوسف، فإن الفقيه المعمري يعرف جيدا ما تريده سلطة الإقامة. فقد سبق له أن عمل مترجما بالإقامة في السنوات الأولى من عهد الحماية، وتربطه علاقات خاصة بالأمير سيدي محمد بن يوسف. وتدل كل القرائن على أن فريق الصدر الأعظم قد استجاب لرغبة المقيم العام تيودور ستيك، الذي جاء أصلا للمغرب لتجاوز سياسة اليوطي، والتهييئ لسياسة الإدارة المباشرة وتنمية الاستيطان. ولهذا وجد تيودور ستيك نفسه منسجما مع اختيار المقري والمعمري، ووافق على الترشيح المبدئي للأمير سيدي محمد، حيث يظهر من خلال طبعه الهادئ وانعزاله عن الناس وميله الفطري إلى الزهد والعفاف. وعلى الرغم من أن الصدر الأعظم والفقيه المعمري وبعض رجال الإقامة كانوا يستعجلون المقيم العام في الموافقة على ترشيح الأمير سيدي محمد، فإن تيودور ستيك كان يعتقد أنه من الصعب عليه استبعاد الابن الأكبر للسلطان الأمير مولاي إدريس بن يوسف عن السلطنة. وبعدما أكد له كل من المستشار القانوني للإقامة ميشو بلير، والمعتمد العام أورْبان بلان «بأنه ليس هناك قاعدة ثابتة في وراثة العرش، باستثناء أن يكون السلطان الجديد من الأسرة العلوية وأن يحظى هذا الاختيار بموافقة الفقهاء والعلماء المجتمعين بفاس»، جاءت هذه الفتوى القانونية لتزيح هما ثقيلا على نفسية تيودور ستيك، حيث كان يتخوف، بعد تجربته المرة مع مولاي يوسف، أن يتولى سلطنة المغرب شخص قوي يعترض على مشاريعه الاستيطانية بالبلاد. فوافق دون تردد منه على ترشيح الأمير سيدي محمد بن يوسف، خاصة أن المعتمد العام أوربان بلان قد أكد له أن الإقامة العامة لن تواجه من هذا الأمير أي عصيان. وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه الفقيه المعمري، الذي يرى أن الأمير سيدي محمد «شاب مرن سهل المراس والتوجيه». وبعد الانتهاء من مراسيم دفن السلطان مولاي يوسف صباح يوم الجمعة 18 نونبر 1927 م بضريح مولاي عبد الله بفاس، أوعز تيودور ستيك إلى الصدر الأعظم محمد المقري بأن يقوم بكل الإجراءات، تبعا للتقاليد المخزنية، لمبايعة الأمير سيدي محمد بن يوسف سلطاناً على المغرب. وجمع المقري بعض رجال المخزن المقربين إليه من أمثال وزير العدل محمد الرندة، ووزير الأوقاف الفقيه أحمد الجاي، وعمر التازي وزير الأملاك المخزنية. وحضر هذا الاجتماع الفقيه محمد المعمري، الذي يظهر أنه كان يمثل عين سلطة الحماية في هذا الفريق، بالإضافة إلى رغبته في أن يرى الأمير سيدي محمد بن يوسف متربعا على كرسي السلطنة بالمغرب. وبعد مشاورات قصيرة بين المجتمعين بالقصر الملكي بفاس، أعلن الصدر الأعظم، محمد المقري، أن المصلحة العليا للبلاد جعلت رجال المخزن المجتمعين يوم الجمعة 23 جمادى الأولى عام 1346 ه/ 18 نونبر 1927 م يبايعون الأمير سيدي محمد بن يوسف سلطانا على المغرب، خلفا لأبيه السلطان مولاي يوسف رحمه الله. وحتى تتخذ هذه البيعة طابعها الرسمي، وصيغتها الشرعية في إطار التقاليد المخزنية المرعية، استدعى الصدر الأعظم، محمد المقري، إلى القصر الملكي هيئة العلماء وقاضيي فاس إبانه، الفقيه محمد بن رشيد العراقي، والعلامة عبد الرحمان بن القرشي، وأعيان مدينة فاس، وكبار رجال الدولة الذين حضروا مراسيم جنازة مولاي يوسف، فسلموا على الأمير سيدي محمد وبايعوه بالملك وسنه لم يتجاوز الثامنة عشرة. وصباح يوم السبت 19 نونبر، تقدم المقيم العام تيودور ستيك للسلام على السلطان الجديد وتهنئته باسم الجمهورية الفرنسية؛ كما تقدم لتهنئته ممثلو الدول الأجنبية بالمغرب. وفي مساء اليوم نفسه، تقدم الشرفاء والفقهاء والأعيان وكبار الموظفين المغاربة للسلام على السلطان وتهنئته بالملك. ولم تمض إلا ثلاثة أيام على مراسيم دفن مولاي يوسف، حتى أصدر المقيم العام أوامره للسلطان سيدي محمد ورجال حاشيته بالرحيل إلى الرباط، بحجة أن هذه المدينة هي العاصمة الإدارية للدولة في عهد الحماية، خصوصا وقد تزامن تنصيب الأمير سيدي محمد بن يوسف سلطانا على المغرب بمدينة فاس، مع تنامي حركة الشباب المتعلم بالعاصمة العلمية، الذين تكونوا على يد العلماء الوطنيين من أمثال أبو شعيب الدكالي، والفقيه محمد بن العربي العلوي. تشكلت الحكومة الخليفية في شمال المغرب بعد توقيع اتفاقية الحماية، وتقسيم المغرب بين قوتين استعماريتين، وتكونت من وزراء وكتاب عامين، وخاصة منصب الصدر الأعظم، فهي حكومة مصغرة في ما يشبه الحكم الفيدرالي، مع اختلاف جوهري يكمن في وجود السلطة الخليفية تحت مظلة الحماية الاستعمارية. صحيح أن مهام هذا الجهاز السلطاني كانت صورية في كثير من القضايا الهامة، وفق منطوق معاهدة الحماية ل30 مارس 1912، والاتفاقية المبرمة بين إسبانيا وفرنسا في27 نونبر من نفس السنة. ولأن الحكومة السلطانية كانت وليدة نظام حماية جديد، فإن هذه الحكومة الخليفية عاشت في بدايتها فقرا على مستوى الترسانة القانونية، مما جعلها أسيرة قرارات انفرادية أحيانا وارتجالية أحيانا أخرى. كانت الاتفاقية تمنح للمقيم العام هامشا أكبر للسلطة، وتفوض السلطة الروحية للخليفة. يرى محمد داود أن لقب الخليفة كان شرفيا صوريا، فهو «يتمتع في مظاهره وأعماله تحت الحماية الإسبانية وإدارتها بجميع ما كان يتمتع به سلطان المغرب نفسه تحت الحماية الفرنسية وإدارتها عبر مراسيم تسمى ظهائر». أما ماريا روسا دي مادارياغا، فتذهب إلى أبعد من ذلك حين كتبت واصفة الحالة السياسية في تلك الحقبة التاريخية، «عندما اندلعت المقاومة العسكرية في المغرب، وضعت السلطات الإسبانية الخليفة أمام الأمر الواقع ولم يسعه إلا تنفيذ كل أوامرها. ولم تكن المناسبات التي كان فيها الخليفة يعبر عن دعمه اللا مشروط لفرانكو بالقليلة. فكان الخليفة يتحرك داخل مجال الحماية أو في إسبانيا، لا حول له ولا قوة». توفي الخليفة المهدي سنة 1923 في مدينة سبتة، ولأن المعاهدة تنص على إسناد مهام الخليفة السلطاني مؤقتا لباشا تطوان، فقد تم تعيين الباشا محمد الحاج خليفة بالنيابة من تاريخ وفاة مولاي المهدي إلى حين تنصيب ابنه مولاي الحسن في 8 نونبر 1925. ولد الأمير مولاي الحسن بلمهدي العلوي سنة 1911 في فاس وانتقل، رفقة والده، إلى تطوان وهو ما يزال رضيعا، وفي تطوان نشأ وتعلم في مدارسها العربية والإسبانية. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، أعلن مولاي الحسن خليفة للسلطان في المنطقة الخليفية الإسبانية، وكان خليفة، ليس فقط في منطقة الشمال، بل أيضا لكل الأقاليم الواقعة تحت الإدارة الإسبانية كسيدي إفني وأيت باعمران وطرفاية والأقاليم الصحراوية. لمدة 31 سنة. إلى حين حصول المغرب على استقلاله، سنة 1956. بينما شقيقاه مولاي محمد ومولاي أحمد، فقد التحقا بالجيش الإسباني، وكانا من كبار ضباطه في عهد الحماية ثم في عهد الاستقلال. وعرف عن الخليفة السلطاني دعمه للحركة الوطنية بالمنطقة، كما ساند حزب الإصلاح وزعيمه عبد الخالق الطريس. وفي سنة 1947، خلال الزيارة التاريخية التي قام بها الملك الراحل محمد الخامس لطنجة، حل الحسن بن المهدي بأصيلة واستقبله مجددا له عبارات الولاء والإخلاص، معربا عن تشبثه بشخصه وبالعرش العلوي. وبقي من يومئذ على اتصال مستمر مع العاهل بواسطة مراسلات سرية. بل إنه عبر علانية عن رفضه نفي محمد الخامس والأسرة الملكية إلى كورسيكا ومنها إلى مدغشقر، «مؤكدا تشبثه بالسلطان الشرعي للمملكة ووفاءه للعرش العلوي». وكبرت نوايا السلطان التحررية حين تصدى لمخطط الحماية الإسبانية يوم 21 يناير 1954، والذي كان يرمي إلى إعطاء شرعية لاستقلال المنطقة الشمالية عن الوطن الأم، منددا بنفي ملك البلاد والأسرة الملكية وبمحاولة المستعمر تقسيم المغرب، وهو ما جعل من تطوان قاعدة خلفية للمقاومة. وغداة انتهاء الاحتلال الأجنبي لشمال المغرب، تقدم الأمير مولاي الحسن بن المهدي إلى الملك محمد الخامس معتبرا، «بكل نكران ذات وروح وطنية صادقة، أن مهمته انتهت وأنه يعتبر نفسه مواطنا عاديا في خدمة جلالته ورهن إشارته». عين الأمير سفيرا للمغرب بلندن من 1957 إلى 1965، ثم سفيرا بروما من 1965 إلى1967. وبعد ذلك، عين مديرا عاما للبنك الوطني للتنمية الاقتصادية قبل أن يعينه الحسن الثاني واليا لبنك المغرب، وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى حين وفاته في فاتح نونبر 1984. أحمد امشكح/ حسن البصري