تعرفنا في الحلقة الماضية على عالم فاضل من أهل مكناس، هو أحمد بن القاضي صاحب "جذوة الاقتباس"، و"درة الحجال"، وعرفنا أنه ينتمي إلى سلسلة مباركة لانتقال العلم والحكمة يكفي أن نذكر منها العلامة المنجور-وما أدراك ما المنجور- وقلنا أيضا أن ابن القاضي تتلمذ على يديه ثلة من النوابغ سنقف في هذه الحلقة مع أحدهم؛ يتعلق الأمر بالعلامة أحمد المقري التلمسانيالفاسي صاحب موسوعة "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب".. هو أبو العباس أحمد بن محمد أحمد بن يحيى بن عبد الرحمان بن أبي العيش بن محمد المقري، أصله من مَقْرة أو مقَرَّة بمنطقة الزاب، ومن قرية مقرة انتقل جده عبد الرحمن بن أبي بكر إلى تلمسان، فاستقر بها، ومن أشهر رجال هذه الأسرة في القرن الثامن الهجري القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المقري قاضي الجماعة بفاس والمتوفى بها عام 759ه، وهو مؤلف كتاب "القواعد" و "الطرف والتحف" وغيرها [روضة الأس العاطرة الأنفاس لأحمد المقري، المطبعة الملكية الرباط (الطبعة الثانية) 1403 ه/1983 م].. ولد أحمد المقري سنة 986 ه بمدينة تلمسان، وعن ولادته قال المقري في "النفح": "وبها ولدت أنا وأبي وجد جدي، وقرأت بها ونشأت إلى أن ارتحلت عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة 1009ه. ثم رجعت إليها آخر عام 1010ه. ثم عاودت الرجوع إلى فاس سنة 1013ه إلى أن ارتحلت عنها للمشرق أواخر رمضان سنة 1027ه".. من أهم شيوخ المقري التلمسانيين: عمه الشيخ أبو عثمان سعيد المقري مفتي تلمسان وكبير مشايخها والذي كان عمدته في العلم الأول، وكان سعيد هذا شيخا عزيز العلم مبرزا في فنونه ولاسيما الفقه والحديث، وكانت صلته بفاس، وشيوخ العلم بها وثيقة، والمراسلات بينه وبينهم قائمة في الشؤون العلمية، وهو الذي كان يزين لابن أخيه الرحلة ويحببه إليه ويرغبه في أن يكمل بها المعارف والعلوم التي حصل عليها ببلده، ويروم بالإضافة إلى ذلك أن يبوئه مقعدا بديوان السلطان أبي العباس أحمد المنصور الذهبي الذي كانت شهرته طبقت يومئذ أفاق المغرب والمشرق.. وقد كنت ذكرت في مقالتي حول ابن القاضي المكناسي كيف أنه اجتمع حول مجلس السلطان أحمد المنصور الذهبي "مجمع علماء" متعددي الاختصاصات كانوا يساهمون بشكل قوي في حل مشاكل المدينة الإسلامية.. دخل المقري إلى مدينة فاس وأخذ العلم على عدد من العلماء بالجامع المبارك والمدارس التابعة له؛ ولما قدم الفقيه إبراهيم بن محمد الأيسي أحد قواد السلطان أحمد المنصور الذهبي، أثار انتباهه نبوغ المقري، فاصطحبه معه إلى مراكش فقدمه إلى السلطان أحمد المنصور الذهبي. نقرأ في مقدمة الجزء الأول من كتاب ("نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" لأحمد المقري طبع دار صادر- بيروت 1988م) أنه بمراكش التقى المقري بأحمد ابن القاضي وبأحمد بابا التنبوكتي، وقد مثلت هذه الرحلة المباركة مادة كتابه "روضة الأس" الذي شرع في كتابته حين عودته إلى فاس ومنها إلى تلمسان، وكان المقري ينوي تقديمه للسلطان المنصور، لكن أحمد المنصور توفي سنة 1012ه، والمقري لا يزال في تلمسان، ولم يلبث المقري أن غادر مسقط رأسه نهائيا إلى فاس (1013ه) وأقام فيها حوالي خمسة عشرة سنة، فشغل بأمور التدريس والإمامة والخطابة.. والحق أن المقري أصبح في هذه الفترة من أعلام العلماء في الغرب الإسلامي. ويبدو أن فاس وفرت للمقري كل ظروف التألق والإبداع: مجالس علم في كل أرجاء المدينة، وخزائن الكتب، وكثرة العلماء، مما نتج عنه أخذ وعطاء ومشاركة، حتى علا نجمه، وعرف فضله، وصار مجلسه بجامع القرويين مجلسا مقصودا يؤمه طلاب العلم ورواد الأدب، ويقبل الفقهاء والعلماء والمثقفون على قراءة كتبه الدينية والأدبية والعلمية ويتنافسون في اتتساخها، ويلتمسون منه الإجازة ، وهو الذي وقف مواقف مشرفة دفاعا عن الدين والوطن، لما أراد محمد الشيخ السعدي تبرير تسليمه مرسى العرائش للنصارى بفتوى من العلماء فتقدر حميته وغيرته، وبلغ من علو شأنه وارتفاع مكانته أن ولى الخطابة والإمامة والفتوى بجامع القرويين (أنظر عبد الوهاب بن منصور: مقدمة روضة الأس..). وبعد تدهور أحوال المغرب خرج المقري من فاس بسبب اتهامه بالميل إلى قبيلة شراكة في فسادها وبغيها أيام السلطان محمد الشيخ السعدي، فارتحل إلى الشرق عام 1017ه/1027ه، وحج مرارا وجاور في المدينةالمنورة مدة، ألف فيها كتبا عديدة، ودخل إلى مصر والشام ونال فيهما حظوة كبيرة، وألف كتابه الموسوعي "نفح الطيب" ولكنه مع ذلك لم يحل له العيش، إذ لقي عنتا كبيرا من بعض العلماء الشرقيين الذين نافسوه وشوشوا عليه (محمد حجي: الزاوية الدلائية وردوها الديني والعلمي والسياسي المطبعة الوطنية، الرباط 1348-1964، ص: 109).. تتلمذ أحمد المقري في الزاوية الدلائية على الشيخ محمد بن أبي بكر الدلائي، وهو القائل عنه: "إنه حافظ ضابط غير ثقة، وبالرغم من هذا الحكم القاسي الذي أصدره في حقه الشيخ محمد ابن أبي بكر الدلائي؛ فإن العلاقة ظلت طيبة بين الرجلين إلى آخر حياتهما. وبقي ابن أبي بكر يثني على المقري في الدلاء ويشيد بقدرته العلمية وأدبه الرفيع، والمقري بدوره يراسل أستاذه محمد بن أبي بكر الدلائي من الشرق، ويبعث إليه بنسخ مما يؤلفه هناك من الكتب.. قال الشيخ اليوسي في المحاضرات: حدثني الرئيس الأجل أبو عبد الله محمد الحاج بن محمد بن أبي بكر الدلائي قال: لما نزلنا في طلعتنا للحجاز بمصر خرج للقائنا الفقيه النبيه المقري قال: وكنت أعرفه عند والدي لم يشب، فوجدته قد شاب فقلت له: قد شبت يا سيدي؟ فضحك المقري رحمه الله.. ثم زار أحمد المقري بيت المقدس في شهر ربيع الأول من عام 1029 ه، ورجع إلى القاهرة وأخذ يكرر منها الحج، وفي كل مرة كان يعقد مجالس العلم ويملي دروسا في الفقه والحديث والسيرة والأدب، وأملى دروس الحديث بجوار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى مصر سنة 1039 ه ودخل القدس في رجب من نفس السنة، ثم سافر إلى دمشق فدخلها في أوائل شعبان فأبهره عمرانها وبنيانها الذي ذكّره بتلمسانوفاس، وقد أعجب كثيرا بالصالحية (حيث دفن الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي) التي ذكر أنها كثيرة الشبه بقرية العُباد بتلمسان حيث دفن العارف أبي مدين الغوث، كما استحسن أخلاق أهل دمشق وليونة طباعهم وكرم طبعهم، وأرسل إليه العالم شهاب الدين أحمد بن شاهين مفتاح المدرسة الجقمقية إكراما له واعترافا بمقامه العلمي الرفيع، والمدرسة الجقمقية نسبة إلى الأمير سيف الدين جقمق الذي حول حانقاه (مدرسة صوفية) هدمت بعد استباحة تيمورلنك لدمشق إلى مدرسة لتلقين العلم؛ شرع المقري أيضا في إلقاء دروس علمية بالجامع بالجامع الأموي -وما أدراك ما الجامع الأموي- وكان درسه مبرمجا بعد صلاة الصبح، ولما كثر الناس وتزاحموا على حلقة درس المقري خرج إلى صحن الجامع تحت القبة المعروفة بالباعونية، وهي قبة اختص في التدريس بها كبار العلماء، وكان يوم ختمه من الأيام الخالدة بالشام. حضره الألوف من الناس، فنقلت حلقة الدرس إلى وسط الصحن، ثم إلى الباب الذي يوضح فيه العلم النبوي في أيام الجمع من شهور رجب وشعبان ورمضان وجيء له بكرسي الوعظ فارتقاه وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمح له نظير من قبل، وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قرب الظهر. ولما نزل من الكرسي ازدحم الناس عليه يقبلون يده ويلتمسون بركته، ويطلبون دعاءه، ولم يتفق لأحد من العلماء الذين زاروا دمشق من قبل ما اتفق له من الإقبال والقبول في ذلك اليوم. ويمكن القول أن الإمام المقري لم يجد عزاء منذ غادر فاس إلا في محروسة دمشق، كما يدل على ذلك ما أورده بشأنها في "نفح الطيب" من ثناء وحسن ذكر (أنظر مقدمة المحقق المرحوم عبد الوهاب بن منصور لكتاب روضة الأس). وقد وجه الشيخ محمد بن أبي بكر الدلائي إلى المقري في البلاد الشرقية أسئلة مختلفة وطلب منه أن يكتب على كل واحدة منها ما ظهر من موافقة أو مخالفة ليختبر مدى تقدمه في العلوم الدينية "فقبلها المقري ووضعها على رأسه، وعلم أن يومه بسببها خير من أمسه، ثم كتب عليها ما ظهر له بقدر الإمكان، وأبرزها في صورة تأليف حسن الوضع سماه: أعمال الذهن والفكر، في المسائل المتنوعة الأحباس، الواردة من الشيخ سيدي محمد بن أي بكر، بركة الزمان وبقية الناس، ووجهها إلى شيخه بالزاوية البكرية فسر بها كثيرا توفي عام 1046ه (محمد حجي: الزاوية الدلائية، ص: 108-109). عرفنا أن المقري يعد من أبرز تلاميذ العلامة ابن القاضي المكناسي؛ إذ نجده يقول عنه.. "وقد أجازني شيخنا شهاب الدين بن أبي العافية أسماه الله جميع ما يجوز له وعنه روايته، وما أخذ عن هؤلاء الأعلام المذكورين هنا وغيرهم. وكتب لي بذلك بخطة ثلاث مرة بفاس المحروسة، ومرتين بحضرة الإمامة بمراكش حاطها الله، وكان تاريخ ذلك اليوم يوم عرفة المعظم من عام تسعة وألف بالمحلة المنصورية أعلا الله كلمتها بمراكش، وأما تاريخ إجازة فاس فبعد ذلك بأشهر، كما يقول: أجازني شيخنا المذكور تلخيص ابن البناء يقصد تلخيص أعمال الحساب لابن البنا العددي المراكشي، وهو الكتاب الذي غير كثيرا من مفاهيم الطبقة المثقفة المغربية خلال العصرين الوسيط والحديث.. تتلمذ المقري أيضا على يد أبو عبد الله محمد بن قاسم القصار تلميذ سيدي رضوان الجنوي تلميذ عبد الرحمن سقين، وتتلمذ أيضا على أحمد بن أبي القاسم التادلي، وأحمد بابا التنبوكتي السوداني الذي يقول بشأنه: لقيته بمراكش بحضرة أمير المؤمنين مولانا المنصور، وانتفعت به واستفدت منه، وكنت كثيرا ما أذهب معه إلى زيارة الصالحين بحضرة الإمامة مصحوبين بجملة أعلام. فنذاكر في طريقنا فنونا جمة وأعارني جملة كتب من خزانته الفريدة. وقد خلف الإمام المقري وراءه ثروة هائلة من الكتب التي ألفها بتلمسانوفاس ومصر والحرمين والشام في الأدب والتاريخ والعقائد والفقه. من أشهر كتب المقري "نفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب"، و"أزهار الرياض في أخبار عياض"، و"روضة الأس، العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكشوفاس (تبتدئ أثناء ترجمة أحمد المنصور، طبعت بالمطبعة الملكية بالرباط سنة1383-1964، وطبعة ثانية سنة 1983، وله كتاب في أخبار دمشق، وشرح مقدمة ابن خلدون، وللمقري حاشية على شرح أم البراهين للشيخ السنوسي. وله أيضا حاشية على مختصر الشيخ خليل، وإعمال الذهن والفكر، في المسائل المتنوعة الأجناس، الواردة من الشيخ سيدي محمد بن أبي بكر، بركة الزمان وبقية الناس، توجد ضمن كتاب "البدور الضاوية في التعريف بأهل الزاوية الدلائية" لسليمان بن محمد الحوات. له أيضا "نيل المرام المغتبط لطالب المخمس الخالي الوسط" وهو رجز في علم الوفق وسر الأسماء. والمثير في هذا العنوان الأخير هو تعاطي الإمام المقري لشيء من "العلوم الخفية"، وبعيدا عن كل حكم قيمة أقول أن هذا الخيار الثقافي الذي يجمع بين علوم الشريعة والأدب والمنطق والحساب والنجوم وأسرار الأسماء يعبر عن منعطف حاسم في تاريخ المغرب الفكري بين الألق العلمي الكبير والركود الذي سيعرفه المغرب بعد ذلك عندما ستهيمن علوم المقال على علوم الحال، هذا ما يلامس في نظري بعد عناصر الإجابة على الارتباك الذي عاشه مثقفونا في خياراتهم العلمية، ومع ذلك يبقى المقري أستاذا حاملا لمشروع يشهد على ذلك تراثه الفكري الذي خلفه للإنسانية خصوصا في مجال التاريخ، تخصصه المفضل بلا مراء. وكتاب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب" هو أضخم ما خلفه الإمام المقري في مجال التاريخ والأدب، وقد حدثنا المقري في مقدمة كتابه عن المرحلة التي سبقت تأليف الكتاب، فقد حدث تلاميذه بدمشق فيها عن لسان الدين بن الخطيب ومكانته العلمية والأدبية والسياسية فأثار عن نفوسهم حب الاستطلاع إلى مزيد من التعريف به، وكان أحمد الشاهيني المدرس بالجقمقية سابقة الذكر أكثرهم إلحاحا في ذلك، وكان هذا حافزا للمقري لتأليف "نفح الطيب"، وهذا يؤكد أيضا النجاح العلمي الكبير الذي حققه المقري بدمشق.. كان المقري كغيره من المغاربة يحس مدى إهمال المشارقة للتراث الأندلسي والمغربي، وقد سبقه إلى هذا الإحساس ابن دحية الكلبي صاحب المطرب، وهو نفس الإحساس الذي شعر به العلامة كنون عندما ألف "النبوغ".. وقد أخرجت مطبعة بولاق الكتاب كاملا في 1279 ه / 1862م في 4 أجزاء كبيرة. ويوجد كتاب نفح الطيب في 11 جزءا بتحقيق الدكتور الفاضل إحسان عباس، وقد طبع طبعته الأولى في بيروت سنة 1968. ويعتبر كتاب "أزهار الرياض في أخبار عياض لأحمد المقري من أخير ما ألف في أدب المغاربة؛ لأنه أضاف إلى الأدب العربي صفحة مشرقة من الأدب المغربي الراقي. وهو كتاب يدل على بعد نظر المقري وتفننه في الأدب وولعه بالمغرب ورغبته في إبراز النبوغ المغربي هذه المرة من خلال عياض وما أدراك ما عياض.. بقيت الإشارة إلى كتاب "روضة الأس العاطرة الأنفاس عن ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكشوفاس"، والمقري كتب هذا الكتاب ليهديه إلى الخزانة الأحمدية المنصورية عند ارتحاله إلى المغرب، أما تاريخ تأليف هذا الكتاب فكان أول شوال سنة 1011ه وانتهى من تأليفه سنة 1013 ه. بدأ المقري كتابه بمقدمة ذكر فيها دواعي رحيله إلى المغرب ومقدمة على حضرة السلطان أحمد المنصور الذهبي، الباب الثاني يصف فيه احتفالات المنصور بعيد المولد النبوي الشريف، ووفادة العلماء عليه من الأقطار الشرقية، وبناءه المساجد والقناطر والسدود والحدائق والمرافق والقصور، ثم يذكر المقري في الباب الثالث أسماء العلماء الذين أخذ عنهم السلطان أبو العباس المنصور، وأسماء العلوم التي قرأها عليهم، ويذكر المقري أيضا المباني التي شيدتها السيدة مسعودة الووزكيتية والدة المنصور، وكانت سيدة فاضلة تبني المساجد والمدارس المرافق الخيرية، من مآثرها الشهيرة مسجد باب دكالة، ويختمه بذكر فك المنصور للأسارى، ولا ننسى فك أحمد المنصور الذهبي لصاحبنا أحمد بن القاضي المكناسي أستاذ المقري.. ثم يشرع المقري في ذكر الأشخاص الذين لقيهم بفاسومراكش وعددهم أربعة وثلاثون، وإذا كان الشخص المتحدث عنه عالما مشهورا، ومحدثا كبيرا ذكر رواياته وأسانيده وإجازته له كما فعل لدى الكلام على ابن القاضي المكناسي والعلامة القصار و الداهية أحمد بابا السوداني. لقد أفادنا المقري في هذا الكتاب إفادات جمة، "ووسع معلوماتنا ومعرفتنا بآخرين كنا لا نعرف إلا أسماءهم أو لا نعرف عنهم إلا القليل، ولو قارنا ما كتبه مثلا عن الأديب محمد الوجدي (29 صفحة من هذا الكتاب) بما كتبه عنه محمد الطيب القادري في (نشر المثاني) وهو لا يبلغ السطرين، لعلمنا أي معروف أسداه المقري بهذا الكتاب إلى هذه البلاد. وبالإضافة إلى الرجال الذين عرف بهم وأطلعنا على بعض أخبارهم يحتوي الكتاب على مجموعة من الموشحات والمقطعات التي لم يرد لها ذكر فيما يتداوله الناس من هذه الكتب، إن لم تبلغ كلها القيمة البلاغية فإنها تنمي ثروتنا الأدبية من جهة أولى، وتربط حلقات العصور الأدبية بالمغرب من جهة ثانية، ويتبين لنا من جهة ثالثة مدا ما بلغ إليه المغرب من رخاء على عهد المنصوري والسعدي" (أنظر مقدمة المحقق عبد الوهاب بن منصور لكتاب "زهرة الآس). وبعد، فكم هو رائع أن نقف وقفات مع أمثال هذا الرجل العالم الذي صال وجال في البلاد مشرقا ومغربا، وألف في مختلف الفنون وحاضر وفرض نفسه في المشرق العربي، وهو ما يدل على الحيوية الفكرية التي كانت سائدة في زمن المقري، ويدل على المكانة الكبيرة التي كان يحظى بها العلماء، وأعتقد أن المغرب بدون حركة علمية يفقد الكثير من عناصر وجوده الحقيقية، وهذا ما نتعلمه من هذا الحفر الذي نقوم به في تاريخ مغربنا الفكري، وللحديث بقية.. توفي العلامة أحمد المقري في شهر جمادى الثانية سنة 1041ه - 1632م بمصر، بعد زيارة قام بها لإسطنبول، ودفن بمقبرة المجاوين بالقاهرة، رحمه الله ونفعنا بعلمه، والله الموفق للخير والمعين عليه.