هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن الخطيب الخَثعمي السُّهيلي الحافظ الإمام، أحد رجال مراكش السبعة.. والسُّهيلي نسبة إلى سُهَيْل، ولد بالأندلس من كورة مالقة، حسب ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، أما لسان الدين ابن الخطيب فيرى في معيار الاختيار أنه "حصن حصين يضيق عن مثله هند وصين". ويذكر الباحث De Castries في مقاله [1] Les Sept patrons de Marrakech أن "سُهيل" اسم نجم كان مقدسا عند العرب قبل الإسلام، وقد نسب إليه السُّهيلي كلقب تمجيدي على عادة أهل الأندلس... والخَثعَمي نسبة إلى خثعم وهي قبيلة معروفة، وقد قال بن دِحية الكلبي تلميذ السهيلي في كتابه "المطرب من أشعار المغرب": "أملى عليَّ نسبه وقال: إنه من ولد أبي رُويحة الخثعمي الذي عقد له الرسول صلى الله عليه وسلم اللواء عام الفتح..". وحدد السُّهيلي تاريخ ميلاده بنفسه جوابا على سؤال تلميذه ابن دِحية الكلبي إذ أخبره بأن ذلك كان عام 508ه/ 1114م بمدينة مالقة بالأندلس، وهذا ما يؤكده ابن كثير في "البداية والنهاية"... وتكاد تتفق المصادر على أن بصره كف وهو ابن سبع عشرة سنة كما في "بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس" لأحمد بن يحيى الضبي، وذلك لمرض عضال ألم به كما جاء عند ابن الأبَّار في كتاب "التكملة" الذي قال: "وكفّ بصره بما نزل به".. والجدير بالملاحظة أن أغلب الكتب تذكر إصابة السُّهيلي بالعمى، لكن ابن دِحية الكلبي أشهر تلاميذه لم يذكر ذلك، بينما نجد تلميذه أبو بكر بن العربي الحاتمي يحلّيه في "مسامراته" بشيخنا الضرير أبي زيد السُهيلي المالكي.. عاش الإمام عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي في مالقة بالأندلس معظم حياته فقيرا معدما ولسان حاله "شغلنا بكسب العلم عن مكاسب الغِنى كما شغلوا عن مكاسب العلم بالوَفر". لكنه كان من أسرة علم ودين وفقه، وقد أصبح "من أعلام اللغة والحديث والفقه في الغرب الإسلامي"[2]. يشهد على عراقة العلم في أسرة السُّهيلي ما أورده تلميذه ابن دِحية في "المطرب من أشعار المغرب" بقوله: "سمع الموطأ على خال أبيه الفقيه المحدث الخطيب الظاهري أبي الحسن بن عياش..."، وكان جده أيضا من العلماء، فقد قال السهيلي في "الروض الأُنُف": "وروي حديث غريب لعله أن يصحّ وجدناه بخط جدي أبي عمران أحمد بن أبي الحسن القاضي -رحمه الله- بسند فيه مجهولون..." تتلمذ الإمام السهيلي على ثلة من الشيوخ منهم العالم أبو بكر بن العربي المُعافري المتوفى بمحروسة فاس سنة 543ه، كما أخذ السهيلي القراءات عن سليمان القرطبي المعافري المعروف بأبي داود الصغير.. وذكر المَقَّري في "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" أن الإمام السهيلي أخذ لسان العرب في اشبيلية عن سليمان بن محمد السباي (ت528ه)، كما أخذ عن أبو القاسم بن الرمّاك (ت551ه) في اشبيلية فوائد في النحو حسبما أخبر به ابن دِحية الكلبي في "المطرب من أشعار المغرب". وتتلمذ السهيلي أيضا على يد منصور بن الخير المغراوي المالقي المعروف بالأحدب (ت526ه).. وللإمام السهيلي تلاميذ كثر منهم فرج بن عبد الله الأنصاري الاشبيلي، سمع عن أبي القاسم السُّهيلي بعض مصنفاته كما في كتاب "الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة" لابن عبد الملك المراكشي. ومنهم أبو القاسم ابن الملجوم الفاسي (ت603ه)، أخد عن الإمام السهيلي بمالقة، ومنهم محي الدين بن العربي الحاتمي صاحب "الفتوحات المكية" المتوفى بدمشق سنة 638ه، وقد أخطأ صاحب "شجرة النور الزكية" محمد بن محمد مخلوف بجعله شيخا للسهيلي بينما هو تلميذه على الحقيقة كما عند صاحب "الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام" العباس بن إبراهيم السملالي.. ومن أشهر من تتلمذ على السهيلي محمد بن محمد الكاتب من أهل غرناطة (ت607ه) الذي قرأ عليه بمالقة... من تلاميذه أيضا أبو الحسن علي بن محمد الحضري السبتي يعرف بابن خبازه (ت610ه) وقد لازم السهيلي حتى حمل عنه كتابه "الروض الأُنُف"، وعن هذا الأخير أخذ أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن الشُّريشي شارح المقامات الحريرية، ومنهم عبد الغني بن محمد الغرناطي الصيدلاني (ت620ه). ويعتبر أبو الخطّاب ابن دِحية الكلبي السبتي (ت633ه) أشهر تلاميذ الإمام السُّهيلي على الإطلاق.. ذكر الأستاذ أنس وجّاج في كتابه "أبو الخطّاب ابن دِحية الكلبي السبتي الرّحال"[3]، أن العلامة بن دِحية الكَلْبي سمع من الإمام أبي القاسم السُّهيلي بمسجده بمالقة، وكان قد أملى عليه كثيرا من تصانيفه، وأجاز له ولأخيه جميع مسموعاته ومجموعاته.. وإليه يرجع الفضل أولا في التعريف بالأستاذ السُّهيل مؤلفاته في المشرق العربي خصوصا عندما ترأس مشيخة المدرسة الكاملية بالقاهرة. والظاهر أن ابن دِحية وغيره من تلامذة السُّهيلي ساهموا كل من موقعه في التعريف بأستاذهم وبكتابه النفيس "الروض الأُنُف" وكان بعضهم ذا حظوة عند ملوك وأمراء الموحدين كأبي محمد عبد الله بن حوط الله الأنصاري (ت 612 ه) الذي ولي القضاء في الأندلس والمغرب، وكان يميل في الاجتهاد في نظره، ويغلب طريقة الظاهرية، ومثله أبو القاسم أحمد بن يزيد بن بقي الأنصاري (ت 625 ه) وكان قاضي الخلافة المنصورية، وكان يميل هو الآخر إلى الظاهر في أحكامه وعلى ذلك كان السلطان يعقوب المنصور الموحدي.. وعلى الرغم من قصر المدة التي عاشها السُّهيلي تحت سماء الحضرة المراكشية، فقد كان له نشاط علمي متميز. يقول صاحبا كتاب "أعلام مالقة" أبي عبد الله بن عسكر وأبي بكر بن خميس: "وامتد به أجله وأنساه في شأو الحياة مهله، حتى تطلع في سماء مجلس أمير المؤمنين بدرا، وتبوأ منه بعلمه البارع محلة ووكراً فخلع على أهله من منمنم أمداحه خلعا، وابتع من مليح قريضه بدعا أصارت إليه منهم قلوبا، وأنالت من أكفهم مأمولا ومطلوبا.."[4]. ويبدو أنه استطاع بذلك، أن يسرق الأضواء من بعض علماء الموحدين حتى ضاقوا به ذرعا. يقول ابن دِحية في كتابه "المطرب من أشعار أهل المغرب": "وفي كل يوم يجنيهم من حديثه أزهارا، ويقطفهم من ملحه أسا وبهارا، حتى حسده الطلبة، وجردوا لملامه حساما، وحددوا للكلام فصولا وأقساما"[5]، ومن المعلوم أن ملوك وأمراء الموحدين كانت لهم مشاركات في العلوم، وكان يعقوب المنصور كثيرا ما يعد أمورا للمذاكرة والمناظرة بمجلسه. يقول ابن عبد الملك المراكشي في "الذيل والتكملة": "كان المنصور من بني عبد المؤمن كلما وقعت إليه مسألة غريبة وقدر شذوذها، ذكرا أو فهما، عن الحاضرين بمجلسه من أهل العلم أجرى ذكرها بينهم، فوقعت المذاكرة فيها بينهم حتى إذا استوفى كل منهم ذكر ما حضره فيها استشرف المنصور إلى الشفوف عليهم باستقصاء ما من الأجوبة فيها لديهم...". كان الإمام السهيلي من مؤيدي الدعوة الموحدية والمدافعين عنها، يبدو ذلك جليا في مقدمة كتابه "الروض الأُنف" لذلك دعاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن إلى العاصمة مراكش وأرسل إليه المراكب، واهتم بدخوله المدينة عام 579ه/ 1183م ومكث بها ثلاث سنوات يدرس ويحضر مجالس العلم والمناظرة. إذ كانت وفاته عام 581ه/ 1185م. وقد تم اختياره فيما بعد من رجالها السبعة"[6]. ما هي الظروف الموضوعية التي جعلت السلطان الموحدي يستدعي الإمام السهيلي كأستاذ كرسي بحاضرة مراكش؟ إن جل المصادر والمراجع، تجمع على أن مدة إقامة السُّهيلي بمدينة مراكش كانت نحو ثلاث سنوات، وإذا كانت وفاته في أواخر شعبان سنة 581ه حسب ابن دِحية وأكثر مترجميه؛ فإن مجيئه إلى مراكش سيكون في حدود 578ه أو 579ه على عهد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الموحدي (ت 580ه). وينسب ابن دِحية الكلبي إلى نفسه في كتابه "المطرب" فضل التعريف بالإمام السّهيلي لدى الموحدين فيقول: "وكان ببلده يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف إلى أن وصلت إليه وصحح" الروض الأنف" بين يديه فطلعت به إلى حضرة مراكش فأوقفت الحضرة عليه فأمروا بوصوله إلى حضرتهم وبذلوا له من مراكبهم وخيلهم ونعمتهم وقوبل بمكارم الأخلاق وأزال الله عنه علام الإملاق".. ومعلوم أن السلطان الموحدي أبو يعقوب يوسف الموحدي (ت580ه) كان قد ارتأى جلب ثلة من خيرة علماء الأندلس من أجل إثراء الحركة العلمية بالعاصمة مراكش فيما يشبه جلب أساتذة زائرين يشاركون علماء البلد في تعميق القضايا والمسائل وإذكاء روح المناظرة والارتفاع بمستوى الطلاب بما يليق بسمعة الدولة والبلد.. من هؤلاء العلماء ابن طفيل وابن رشد الحفيد والإمام السهيلي، نفهم هذا جيدا عندما نجد عبد الواحد المراكشي يقول في كتابه "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" عن السلطان يوسف بن عبد المؤمن الموحدي: "ولم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب ويبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر إلى أن اجتمع منهم ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك المغرب". خلف الإمام السهيلي مؤلفات مهمة في الحديث والسيرة واللغة والفقه، إلى جانب شعره الجيد الرقيق في موضوعات المدح والزهد، وأهم كتبه: "نتائج الفكر في علل النحو"، حققه الدكتور محمد إبراهيم البنا، وكتاب "التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام" تحقيق عبد الله محمد علي النقراط، وكتاب "حلية النبيل في معارضة ما في السبيل"، وكتاب "قصة يوسف عليه السلام"، مخطوط في الخزانة العامة بالرباط، وكتاب "الفرائض وشرح آيات الوصية"، وقد حققه الدكتور محمد إبراهيم البنا الذي يرجع له الفضل الكبير في التعريف بمؤلفات الإمام السهيلي.. له أمالي متناثرة كان يسميها "المسائل المفردات" وقد أحصى المحقق محمد إبراهيم البنا منها سبع مسائل في النحو، وسبع عشرة مسألة في التفسير والحديث.. أما أشهر كتب السهيلي على الإطلاق فهو "الروض الأُنُف والمنهل الرَّوي في ذكر ما حُدِّث عن رسول الله ورُوى"، وهو في شرح السيرة النبوية لابن هشام.. ويستفاد مما ذكره ابن دحية في "المطرب" عن كتاب "الروض الأنف" أنه بسببه استدعي الإمام أبو القاسم السُّهيلي إلى مراكش، فكان مقامه بالحضرة نحوا من ثلاثة أعوام إلى حين وفاته... وذكر ابن الفوطي في ترجمة عفيف الدين من الملقبين بهذا اللقب من "تلخيص مجمع الآداب" ما نصه: "سمع على ذي النّسبين مجد الدين أبي الخطاب الكلبي كتاب "الروض الأنف" في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وستمائة". ويعلق الأستاذ أنس وجاج على هذا النص في كتابه عن ابن دِحية المذكور آنفا بقوله: "وهذا النص مما يشهد للمترجم-أي بن دِحية- بالفضل في شهرة "الروض الأنف" بالمشرق.. وهذه مسألة تحتاج بدورها إلى وقفة تأمل.. فابن دحية الكلبي، تلميذ السهيلي سيتقلد أرقى مراتب العلم والتدريس بالمشرق العربي وسيصبح على رأس المدرسة "الكاملية" بالقاهرة، وهي المدرسة التي بناها الملك الكامل سنة 621ه وجعل مشيختها لصاحبنا ابن دحية.. وقد تصدر للتدريس بها حتى ذاع صيته شرقا وغربا وهو المغربي الذي تلقى تعليمه بسبتة ومراكشوفاس ومالقة بالإضافة إلى المشرق.. ولا شك أنه نشر علم أستاذه السهيلي بالمشرق خصوصا كتابه الفريد "الروض الأُنُف".. وما أكثر العلماء المغاربة الذي نبغوا في بلاد المشرق وساهموا في تعميق العلم في جامعاته، وهذه قضية أثيرها أملا في استعادة الاهتمام بمثل هذه المسائل العلمية؛ لأنها أدعى إلى إعادة بناء علاقات مشرق-مغرب على أساس من التعارف المتين والعرفان المتبادل.. وأود أن أختم هذا المقال بأبيات في التوسل للإمام السهيلي من قصيدته العينية الشهيرة، قال رحمه الله: يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المُعد لكل ما يُتوقع يا من يُرجى للشدائد كلها يا من إليه المُشتكى و المَفزع يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع مالي سوى فقري إليه وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع مالي سوى قرعي لبابك حيلة ولئن رددت فأي باب أقرع ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لجودك أن تقنط عاصيا الفضل أجزل والواهب أوسع ثم الصلاة على النبي محمد خير البرية من به يتشفع توفي الإمام السهيلي –رحمه الله- بحاضرة مراكش سنة 581ه/ 1185م، والجدير بالملاحظة أنه لا يوجد من ينافسه في موقعه الذي دفن به أي روضة باب الشريعة أو باب الرُّب، والتي ستحمل اسمه فيما بعد. وهو الوحيد من سبعة رجال المنتسب للأندلس والقادم منها إلى مراكش.. والله الموفق للخير والمعين عليه. ---------------------------- 1. Hespéris Tome IV, 1924 2. حسن جلاب، سبعة رجال، الطبعة 5، مراكش، 2007، ص 48. 3. منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث -الرابطة المحمدية للعلماء- 2010، ص37-38. 4. دار الغرب الإسلامي بيروت ودار الأمان الرباط، 1999 تحقيق عبد الله المرابط الترغي. 5. طبعة بيروت، دار العلم للجميع. 6. حسن جلاب، سبعة رجال، الطبعة 5، مراكش، 2007، ص 49.