اعتلى الشاب محمد بن يوسف عرش أجداده الشرفاء العلويين وهو في ما بين السنة السادسة عشرة والسابعة عشرة. وتمت بيعته بالقصر الملكي بفاس يوم 18 نونبر 1927، وذلك بينما كنت أخطو نحو الرابعة من عمري. وشاءت الأقدار أن أرتبط بهذا السلطان البطل المقاوم المصلح في فترات من حياتي كان أولاها ما ذكرته لي والدتي أنني انطلقت أردد اسمه دون وعي يوم بيعته وأنا في سن الطفولة وأسرتي تتحدث عن بيعته وأنا أكرر: السلطان سيدي محمد. السلطان محمد في سذاجة طفل لا يعي ما يقول. كان ذلك مبتدأ الخبر. ولم يكن أحد من أسرتي يتوقع أن خبر هذا المبتدأ سيؤلف في حياتي قصة ممتدة الفصول لم تنته إلا بوفاته التي حضرتها بالقصر الملكي وشيعته من قصره إلى قبره. ظروف بيعة السلطان الشاب في القصر الملكي بمدينة فاس انعقد اجتماع سلطة البيعة مؤلفا من كبار رجال المخزن والشرفاء والعلماء والقُضاة والأعيان. وكانت المفاجأة الكبرى توفر إجماع سلطة البيعة على اختيار سيدي محمد الابن الأصغر للسلطان مولاي يوسف المتوفى. كان السلطان الشاب يعيش بالقصر الملكي بمدينة فاس التي لم تعد عاصمة المغرب بانتقال حكومة المخزن إلى الرباط. كان السلطان الشاب يتلقى بقصر فاس تعليما ابتدائيا باللغتين العربية والفرنسية من الفقيه الشاعر المعمري الجزائري، بينما كان أخواه الأكبران مولاي إدريس خليفة لوالده على مراكش والأخ الأوسط مولاي الحسن المعروف بسيدي بابي خليفة لوالده السلطان على تيزنيت. وكانت سلطة البيعة تتألف من جبهتين تتنافسان على السلطة والنفوذ: جبهة يقودها الصدر الأعظم محمد المقري وأخرى يقودها حاجب السلطان التهامي اعبابو الذي كان يعمل ليجعل من الأمير إدريس الأكبر ولي عهد المملكة. ورجح جانب الأمير سيدي محمد تزكية الفقيه المعمري لتلميذه الشاب الذي لم يلتصق اسمه طيلة عهد والده مولاي يوسف بصراع النفوذ. ويروي الصحفي الفرنسي جورج فوشي في كتابه المعنون: «تحت أشجار الأرز بإفران» أن الفقيه المعمري ذكر أنه عندما كلفه السلطان مولاي يوسف بتعليم أبنائه الأمراء الثلاثة دُهش لذكاء الابن الأصغر سيدي محمد الذي كان يتميز عن أخويه باستيعاب كل ما يسمع، ويحسن استظهاره لما يلقن من القرآن. لا شيء في تقاليد العرش المغربي لا في عهد الدولة العلوية ولا قبلها كان يفرض أولوية الابن الأكبر في تولي مسؤولية العرش. فالاختيار في الغالب كان يتم بما تتفق عليه سلطة البيعة. ما يعني أن البيعة الشرعية كانت تنتهي إلى اختيار الأصلح. وذلك ما تم ببيعة الأمير الأصغر سيدي محمد. الوصاية غير المعلنة لقد أحيط السلطان الشاب منذ بيعته بمجلس وصاية كان على رأسه المقري الصدر الأعظم وإن لم يعلن رسميا عن هذا المجلس أو سمي بهذا الاسم. وهذا ما يفسر صدور ظهير 16 مايو سنة 1930 الذي أطلق عليه اسم الظهير البربري، والذي لم يلفت أحد من الحاشية نظر السلطان إلى خطورته. السلطان في صف واحد مع الوطنيين وحدها الحركة الوطنية الناشئة وعت خطورة هذا الظهير الذي أسس لتقسيم المغرب إلى منطقتين: عربية إسلامية، وأخرى أمازيغية اللسان مسلمة العقيدة ولكن لها محاكمها العرفية الخاصة وتعليمها المنفرد وتنتمي إلى المغرب الإسلامي في روابط تاريخية وثيقة العرى. بادرت الحركة الوطنية إلى التوجه إلى الرباط للاتصال بالسلطان الجديد وتحسيسه بخطورة الظهير. وكان يرأس وفدها شابان وطنيان هما الفقيه علال الفاسي والسياسي محمد بن الحسن الوزاني، وكانا بصدد تأسيس كتلة العمل الوطني. وتشكل وفدها أيضا من وزير العدل السابق في حكومة المخزن الفقيه القاضي محمد بن القرشي الذي كان يتميز بارتدائه الجلباب والسلهام، وبعمامة بيضاء يلفها حول رأسه، ولحية طويلة كان العلماء يحرصون على إطالتها تمييزا لهم عن العامة، وإشارة إلى انتمائهم إلى طبقة العلماء وخاصة علماء القرويين. الفقيه محمد بن القرشي ترك العمل في المخزن عزوفا عن التعاون مع المحتل الأجنبي وبرز داخل الوفد بهندامه: هندام العلماء وخاصة بعمامته البيضاء الكثيفة التي كان يلفها على رأسه ليبدو وهو يرتديها في حُلّة كبار العلماء وكان بالفعل كذلك. كان هذا الشيخ الوقور الناطق باسم الوفد المغربي فوعظ السلطان حتى أجهشا معا بالبكاء: ما بدا معه السلطان مستنكرا صدور هذا الظهير التاريخي، وما يؤكد أنه أمضى عليه في ظروف الالتباس، بل إن السلطان بدا مستنكرا ورافضا الظهير في لقطة من هذا المشهد الرهيب: مشهد عالِم شيخ وقور وهو يعظ السلطان الشاب وهما يحبسان معا بصعوبة دموعهما. وضع وزير العدل السابق يده على عمامته الكثيفة وقال مخاطبا السلطان: جئت إلى هذا القصر حاملا كفني على رأسي أقول الحق لمن يسمعه، فأجاب السلطان بالدموع وتعطلت لغة الكلام حيث لا يكفي ولا ينفع كلام. كان وجود هذا العالم الوقور من أعلام الشرع على رأس الوفد كافيا مغنيا عن الكلام. وكان وجود الوطنييْن الشابيْن -في سن زادت بقليل على العشرين- (علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني) يضفيان على المشهد نكهة خاصة تعبق بأن معارضة الحماية الفرنسية التي فرضت على المغرب أصبح يقاومها الشعب المغربي كله على اختلاف أعماره من شباب وشيوخ، ومراكزِه ومواقعِه. وكانت دموع السلطان تشير إلى إجماع الشعب المغربي على استنكار قبول الحماية. وأن المستقبل يؤشر على وحدة صف المقاومة المغربية حتى ما بين المخزن وقادة الحركة الشباب. وما كان للسلطان الشاب أن ينأى بنفسه عن التناغم مع الحركة الوطنية التي تعلن ميلاد المقاومة الشعبية للدخيل الأجنبي. متابعات وحملة اعتقالات تألمت كثيرا لرؤية والدتي تبكي على أخيها الأكبر خالي عبد العزيز بوطالب الذي اعتقلته سلطة الحماية وحكم عليه الباشا البغدادي بالسجن شهرا لمشاركته في مظاهرة التنديد بالظهير البربري. لم أكن أعلم ما يكفي عن خلفيات هذا الاعتقال الذي كان بمثابة زلزال هز عائلتنا كلها. وجاء للبيت جميع أفرادها وأصهارها وجيران الحومة وكأنما تحول مشهد البيت إلى مشهد عزاء. عبد العزيز بوطالب هذا توفي رحمه الله في حوادث 11 يناير 1944 وهو يُحرِّض المتظاهرين على الثبات والصمود وهم معرضون للقتل ببنادق الجيش السنغالي القاتلة. وعندما رفعه بعض المتظاهرين على أكتافهم وهو يصرخ: الثبات الثبات صوّب إليه جندي من بندقيته رصاصة سقط بها جريحا على الأرض فنقل إلى مستشفى كوكار الفرنسي بضواحي فاس وهناك حمل إليه الطبيب الفرنسي حقنة من دم وقال له: «إنك تكره فرنسا وهذا الدم الفرنسي هو الذي سينقذك من الموت فكن ممنونا لفرنسا بحياتك»، رفض الجريح الدم الفرنسي ببرودة دم وقال للطبيب: «دعني فالأحسن لي أن ألقى الله شهيدا على أن أدين لفرنسا بحياتي»، ثم لفظ أنفاسه ولقي الله شهيدا. ويستمر الحديث ويحلو لي مع قراء «المساء».