الرجاء يشتكي آيت منا إلى القضاء    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي        الرباط: المنظمة العربية للطيران المدني تعقد اجتماعات مكتبها التنفيذي        28 ناجيا من تحطم طائرة بكازاخستان    مسؤول روسي: المغرب ضمن الدول ال20 المهتمة بالانضمام إلى مجموعة "بريكس"    التوحيد والإصلاح: نثمن تعديل المدونة    بلاغ رسمي من إدارة نادي المغرب أتلتيك تطوان: توضيحات حول تصريحات المدرب عبد العزيز العامري    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    بعد تتويجه بطلا للشتاء.. نهضة بركان بالمحمدية لإنهاء الشطر الأول بطريقة مثالية    الوداد يطرح تذاكر مباراته أمام المغرب الفاسي    تأجيل محاكمة عزيز غالي إثر شكاية تتهمه بالمس بالوحدة الترابية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    الريسوني: مقترحات التعديلات الجديدة في مدونة الأسرة قد تُلزم المرأة بدفع المهر للرجل في المستقبل    الحصيلة السنوية للمديرية العامة للأمن الوطني: التحفيز والتأديب الوظيفي آليات الحكامة الرشيدة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    "ميسوجينية" سليمان الريسوني    ترامب عازم على تطبيق الإعدام ضد المغتصبين    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    بنحمزة: الأسرة تحظى بالأهمية في فكر أمير المؤمنين .. وسقف الاجتهاد مُطلق    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ونجح الاتحاد في جمع كل الاشتراكيين! .. اِشهدْ يا وطن، اِشهدْ يا عالم    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    الخيانة الزوجية تسفر عن إعتقال زوج وخليلته متلبسين داخل منزل بوسط الجديدة    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    ‬برادة يدافع عن نتائج "مدارس الريادة"    المخرج شعيب مسعودي يؤطر ورشة إعداد الممثل بالناظور    الاعلان عن الدورة الثانية لمهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية والموسيقى    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث        ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطريقة القادرية البودشيشية وشبهة ممارسة السياسة
نشر في بريس تطوان يوم 27 - 10 - 2011


بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
العنوان" الطريقة القادرية البودشيشية وشبهة ممارسة السياسة"
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية،وجدة
[email protected]
أولا:الكتابة عن الطريقة بين المسؤولية والأهلية:
بادئ ذي بدء أود أن أشير إلى أن ما نكتبه قد يعبر عن رأينا الشخصي ووجهة نظر خاصة بالكاتب وحرية تعبيره وتخصصه وقابلية رأيه للأخذ والرد.وهذا هو المنطق العلمي والموضوعي الذي ينبغي أن يضعه في الحسبان سواء المؤيد والمنتمي للطريقة أو المعارض والمنتقد لها...فليس لدينا كبت أو وصاية على الفكر ولا التعبير أو النقد والنقد المضاد، طالما ندعي أننا نطلب الحقيقة أو نمتلكها بوجه ما...
كما أن الطريقة القادرية البودشيشية هي موضوع خاص بشيخها سيدي حمزة القادري بودشيش ،والذي له الحق وكامل الأهلية في أن يعرفنا بها وبأهدافها وغاياتها والتي قد تنحصر مبدئيا في" وأن إلى ربك المنتهى".
فمهما قلنا عن الطريقة وشيخها فقد لا نستوفي الموضوع حقه ومقصودها وسرها ،خاصة إذا تعلق الأمر بالكتابة والتحليل اللغوي والفكري المحض،تماما كما عبر الغزالي عند طلبه للحقيقة وعجز علم الكلام الجدلي عن أن يسبر غورها كما هي :"فوجدته علما وافيا بمقصوده غير واف بمقصودي".
والسبب ببساطة وراء هذا الاعتراف بالعجز عن وصف حقيقة الطريقة والمتمركزة في شيخها سيدي حمزة هو أن المريد قد لا يمكن له أن يحيط بسر شيخه مهما علا شأنه وتقدم في سلوكه وعرفانه.فلا يعرف الأستاذ حق معرفته إلا الأستاذ ولا يعرف الولي إلا الولي ولا يعرف النبي أو الرسول إلا النبي أو الرسول ولا يعرف الله تعالى حق معرفته إلا الله تعالى .
فهذه قاعدة مهمة ومعرفية يجب أن يعيها القارئ والكاتب معا، سواء كان من مريدي الطريقة أو ممن هو خارج حقلها ،وإلا فإذا زعم زاعم أنه يتحدث بلسان شيخه ويعرف حقيقة سره لغاية أن يصير ناطقا رسميا أو ممثلا عنه ،من غير تفويض ثابت ومحدود صيغة ولفظا ،فإنه سيكون حينئذ قد وضع نفسه نِدّا له بل حاجبا عنه ومتطاولا على مكانته ومقامه .وهذا ما لا يقبله الشيخ نفسه، ولا قواعد التصوف وأصول التلمذة ومنطق العلوم وقانون وأخلاقيات الصحبة.
من هنا فلا أحد من المريدين مهما كان قربه أو عهده بالشيخ يمكن له أن يزعم بأن خطابه وفهمه هو الأولى والأصح لكي يمثل خطاب الطريقة الرسمي والقار ،سواء على مستوى الفهم المعرفي المحض أو الوعي بمجريات الأحداث الآنية والمستقبلية ، سياسية كانت أو اجتماعية أو إعلامية وعالمية...
فالمريدون كما تذكر كتب التصوف قد يختلف فهمهم عن خطاب شيخهم الملقى عليهم في مجلس واحد ومن خلال خطاب واحد وفي موضوع واحد وذلك على شكل التفسير الإشاري للنصوص كالذي كان يحدث لدى الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ،وبهذا فقد يتفاوت الفهم ولا يتعارض العمل والقصد .. كما قد تختلف المواقف والصيغ وتتوحد القلوب وتصبغ...
ثانيا: الطريقة بين مدركات الفراسة ودواليب السياسة
طريق الصوفية عبر التاريخ وكما يشهد له الواقع والنصوص المعبرة هو منهج مبني على تصفية القلوب وتطهيرها وتهذيب السلوك وترسيخه بالرياضة والمجاهدة والمراقبة والمحاسبة مع اعتماد خطاب الإشارة قبل العبارة حيث عبر أحدهم:"كلامنا إشارة"وهم بهذا المسلك كما يعرفهم السراج في اللمع:"العلماء بالله وبأحكام الله ،العاملون بما علمهم الله تعالى ،المتحققون بما استعملهم الله عز وجل ،الواجدون بما تحققوا ،الفانون بما وجدوا ،لأن كل واحد قد فني بما وجد".كما أنهم يمثلون الطائفة الرئيسية في تصنيف طوائف أهل السنة مع أهل الحديث والنظر العقلي- كما يذكر ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب - باعتبارهم أهل الوجد والكشف:"ومبادئهم مبادئ أهل النظر والحديث في البداية والكشف والإلهام في النهاية" وهو ما يؤكده الغزالي في ترتيب لمنهج الصوفية عند التحصيل بأن :" التصوف أوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة ،فالعلم يكشف عن المراد والعمل يعين على الطلب والموهبة تبلغ غاية الأمل".
ومن أهم المواهب عند الصوفية ذات البعد المعرفي تطرح مسألة الفراسة ،وهي على حد تعريف القشيري:"خاطر يهجم على القلب فينفي ما يضاده،وله على القلب حكم اشتقاقا من فريسة السبع ،وليس في مقابلة الفراسة مجوزات للنفس،وهي على حسب قوة الإيمان ،فكل من كان أقوى إيمانا كان أحد فراسة ".كما قد تقسم إلى نوعين حسب الشيخ محيي الدين بن عربي وهما:الفراسة الإلهية والفراسة الطبيعية.
فالفراسة الإلهية لها ارتباط بالإيمان والولاية والتقوى وكل ما هو ديني ووجداني كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله".
ومعناها - في نظرنا وبحسب التعاريف السابقة ومعطيات النصوص- أنها نوع من إدراك شفاف لقضايا غائبة عن أدوات الحس وعن تحليلات العقل ومقدماته،وهي مما قد يسبر بها نوايا وخلفيات توجه الآخر ،بالرغم من احتفاظه بسريتها وغيبيتها عنده.قد يتطابق هذا المفهوم مع قول الواسطي أحد الصوفية بأنها:"سواطع أنوار لمعت في القلوب وتمكين معرفة حملت السرائر في الغيوب ،من غيب إلى غيب حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق سبحانه إياها فيتكلم على ضمير الخلق".الرسالة القشيرية ص105.
وفيما يخص مستوى حضورها بين الشيخ والمريد واتساع نطاقها يقول القشيري:"فراسة المريدين تكون ظنا يوجب تحقيقا،وفراسة العارفين تحقيق يوجب حقيقة" .
فشتان الفرق بين هذا وذاك،قد سبق ومهدنا له حول الطريقة القادرية البودشيشية، على جهة ضبط التمثيل الشخصي للشيخ من طرف المريد أيا كان ،أو تحميل الشيخ مسؤولية أقوال مريديه عنه كيفما كانت صيغتها ومضمونها حتى لا يقع الخلط بين مقام الأستاذ والتلميذ ولا بين أحوال وأقوال المسلمين وبين النص الديني القدسي ،سواء كان قرآنا أو حديثا نبويا.
وهذا النوع من الفراسة الإلهية سنجده عند شيخنا سيدي حمزة بالحال والمقال والعبارة والإشارة المكثفة ،قد نال كل منا نصيبه وتأكد منها على سبيل الخبرة والتجربة الواضحة للعيان وضح النهار.حتى إن الشيخ قد ينطق وبشكل مباشر عما يختلج أنفسنا ويجول بخاطرنا من غير سابق إعلام ولا استعمال وسيلة استدراجية أو شعبذة وتمويه.وهذا ما قد يتطلب من المريد أو يفرض على الصادقين نوعا من الهيبة والوقار وضبط الخواطر والأنفاس عند ملاقاة الشيخ ومحادثته في شتى الأمور سواء كانت دينية أو دنيوية محضة حسب وصية أحمد بن عاصم أحد الصوفية :"إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون قلوبكم ويخرجون من حيث لا تحتسبون".الرسالة القشيرية ص107 .
أما الفراسة الطبيعية فهي مبنية على قوة الحدس العقلي والتجربة العادية في قراءة الأفكار للتوصل إلى رأس خيط الأمور وحل الإشكالات بأسرع وقت ممكن ،وهذا مما قد يستعمله أهل الدنيا من الحكام والقضاة ورجال الأعمال والشرطة والاستخبارات...وكذا المنخرطين في الأعمال الاجتماعية وجمع التبرعات والأفراد على حد سواء،وهي تتفاوت بحسب الذكاء والخبرة واعتبار القرائن وما إلى ذلك .
إذن فهي صورة من الفراسة المصلحية الآنية و مؤدية إلى تحقيق مكاسب محدودة وفانية ،وقد لاتصل إلى مستوى الفراسة الإلهية من حيث الدقة والبعد، بل هي قد تكون تابعة لها بحكم سلامة النية والغاية لا بحكم المواضيع والقضايا.
وشيخنا سيدي حمزة بحسب تجربته في الحياة ومواجهة متاعبها عبر طول العمر وما اعترض طريقتة من الأشواك والتشويش سواء من جانب السياسيين والطائفيين والإعلاميين والعاميين،فقد لا يعدم حظه ونصيبه الوافر من هذه الفراسة التي قد تبدو ثانوية وغير ذات قيمة بالنسبة للفراسة الأولى .بحيث أن حديثه عن قضايا الساعة وما يجري في العالم من أحداث وتغيرات قد يبدو جد متقدم وعميق إلى أقصى الحدود ،بل عقلانيا بكل ما تحمله العقلانية من كلمة ومعنى،كما أن جل تفسيراته وتوقعاته قد تتطابق مع الواقع والحقيقة وتخرج من الإمكان الذهني إلى الوجود الفعلي.
ولئن كانت السياسة نظريا هي الوعي بقضايا الحكم والمحكومين وتحديد النظام الملائم لتدبير الشأن العام فسيكون شيخنا قد نال حظه الأوفر منها من غير ارتياب،بل قد يتخطى وعي أهل زمانه بأشواط بعيدة نظرا لامتلاكه خاصيتين رئيسيتين عند التحقيق وقراءة ما بين السطور وهما :الفراسة الإلهية بالمفهوم الصوفي والفراسة الطبيعية بالمفهوم النفسي والسياسي ...أو كما يعبر عنه بالتوقعات والتخطيط المستقبلي.ولقد قيل بهذا الشأن متى يصح تلقيب الشيخ بالأستاذ؟فالجواب كما قال عبد الوهاب الشعراني:"إذا جمع هذه الثلاث خصال وهي:أن يكون عنده دين الأنبياء وتدبير الأطباء وسياسة الملوك..."الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفيةج2ص99.وشيخنا سيدي حمزة أكيد بأنه من طبقة هذا الطراز الرفيع.
ثالثا: الطريقة القادرية البودشيشية وأوهام شبهة السياسة
غريب أمر بعض مثقفي بل إن صح التعبير والوصف مسقّفي عصرنا ،نسبة إلى السقف الضيق والمنحني والقصير في القامة والفكر والتفسير لتحركات الآخر ونواياه ،وخاصة إذا كان المنتقد لديهم من طراز أهل الهمة وعلو المقام وسعة المجال،وذلك لأنهم -فيما أرى والله أعلم - قد يفتقدون كلا طرفي الفراسة التي سبق وعرفنا آنفا ،ومن كان هذا دأبه فلا يمكن له يناجز من هذا مقامه ولا أن يدرك حتى معنى السياسة العادية سواء في مفهومها العلمي التنظيري العام أو الذاتي الحزبي والطائفي المذهبي .
فالعلماء كما يقول ابن خلدون أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها :"والسبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات...".
وهنا سيفرق ابن خلدون بين السياسة وممارستها،باعتبارها ميدانا دقيقا وصعب المران ،لا كما قد يتوهم بعض اللاهثين نحو الاعتراض بسبب شبهة السياسة المتخيلة في أذهانهم أنها ذات وصف سلبي منبوذ ومتعارض مع الدين والأخلاق.فالسياسة ليست رجسا ولا حراما ولا وبالا ،ولكنها وظيفة ووسيلة لتحقيق السير العام للمجتمع أيا كان هذا المجتمع ،ولا يمكن لمجتمع أن ينتظم ويكون له كيان بغير رجال السياسة والحكم ،وإلا فسيكون قانون الغاب ومنطق الفوضى والتطرف هو السائد.ولكن المقصود من طرحنا للسياسة والممارسة كتأكيد على أن هذا الحقل له متخصصوه ،كما أن لمجال الروح أهله ولمجال النظر والفكر منتحلوه أيضا ،وذلك لكي يستقيم الأمر في المجتمع ويتكامل ويتواصل، لا أن يتقاطع ويتحاسد ويتخاذل.
فإذا كان هذا حال السياسة مع أهل النظر والفكر فما بالك بمقام الأولياء الصالحين وأهل العرفان والتحقيق من الصوفية في تجردهم إلى الله تعالى لمعرفته والتقرب إليه ،والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم قلبا وقالبا ،وانشغالهم الكلي بالذكر والعبادة؟.
فلقد أبعد النجعة بل قلد النعجة من حاول إسقاط هذا الأمر على غاية وتوجه الصوفية وخاصة الطريقة القادرية البودشيشية والمتمثلة في شيخها سيدي حمزة بالدرجة الأولى .
فالطريقة ليست طارئة على الساحة المغربية أو أنها وليدة الأحداث وتأليف وتواصل الفايس بوك أو التويتر ...وإنما هي أصيلة ومسترسلة عبر القرون والأجيال ،ولو كان لها غرض سياسي ابتداء كمؤسسة وكتلة لتصدرت الميدان من غير تلكؤ أو تردد ومغالطة ،وذلك من بابه الرسمي والواسع ومنذ سنين خلت حينما كان للتحزب هيبته وصيته ورونقه،ولأصبحت حزبا يناطح ويقارع في كراسي البرلمان وصفحات الجرائد والقنوات...ولكن هيهات هيهات ! لأن مطلبها قد كان وسيبقى أعلى من كل هذا وذاك، وغايتها أشرف من كل شريف.
لكن حينما يتعلق الأمر بوحدة الوطن ومصلحته العليا واستقراره ورمزه فهناك سيتبين من كان يبكي ممن يتباكى.
حتى إذا ما انجلى عنك الغبار تبين هل فرس تحتك أم حمار
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
فموقف الطريقة من الدستور الجديد وخروج أفرادها بكل فئاتهم وشرائحهم ومقاماتهم لتأييده هو موقف وطني وشرعي في آن واحد،كما أن المريدين الخارجين هم فئة الشعب نفسه لهم همومهم وحاجياتهم ومتطلياتهم كباقي الناس،وهذا التظاهر قد كان وسيلة لسدا لباب الفراغ الدستوري المحتمل ،والذي في حالة غيابه أو إفشاله قد يمكن أن يؤدي -لا قدر الله تعالى- وخاصة في مرحلة الاضطرابات والمطالبة المتزايدة والمزايِدة بالإصلاحات إلى فوضى عارمة وإلغاء المرجعية القانونية التي بها يمكن أن تتوحد البلاد والعباد على نظام وانتظام.
بحيث أن هذا الخروج المبارك قد خدم، ومن غير مضادة لموقف أحد أو تغليب فئة على فئة، جهتين متكاملتين في آن واحد وهما:جهة المطالبين بالإصلاح والتغيير وتحسين الأوضاع المعيشية لكل فئات المجتمع من أجل الإشعار بأن المسالة جد وحزم ولا بد من تقديم حل مبدئي ومطمئن ولو نفسيا،وهذا هو مطلب الشعب بكل شرائحه في إطاره المعقول والممكن،وجهة الملك، والنظام أو الدولة، والذي لا ينتظم أمر البلد إلا به ومقتضى سلطاته، وهو لكي يحقق تلك المطالب لا بد و أن يجد المتكأ والمستند لتسهيل الشروع فيه.وهذا كله من حيث المآل والثمرة قد يصب في بوتقة المصلحة الوطنية العليا وتحقيق الأمن والاستقرار،كما أنه سيسد الباب في وجه من يريد أن يستغل تلك المطالب المشروعة للشعب،وبالمقابل الوعود الجدية للدولة، لكي لا يحوِّلها عند التباطؤ أو أي عارض آخر إلى صراع دامي وصدام مسترسل وتكريس للفوضى الخرّاقة وتبرير التدخل الأجنبي المتربص بالبلاد والعباد...وهذا مما لا يقبله أي مواطن عادي غيور فما بالك بمؤسسة روحية أصيلة على مستوى الطريقة القادرية البودشيشية،والتي جل أفرادها وطنيون من الدرجة الأولى وعلى رأسهم شيخها: سيدي حمزة القادري بودشيش ...
وهكذا فقد تحقق التصويت بنعم !على الدستور ،قبل الانتخابات وعندها وبعدها وبإجماع وطني، سواء صوت البعض أم لم يصوت، على أمل التفعيل والتدرج في التحقيق ومباركة خطوات أمير المؤمنين وعاهل البلاد الملك محمد السادس حفظه الله تعالى وسدد خطاه...
والافتراض الفلسفي العقلاني هنا قد يطرح نفسه بنفسه وهو:إما أن نكون بدستور أو لا !.فإذا كنا بدستور فقد انتظمت وانضبطت عندنا الأمور،وإذا كنا بلا دستور فقد نبقى في الدوامة والفراغ ندور وعلى العبث نبحث ونحور ،وسنغرق حينئذ في سفسطائية سياسية لا تقر حقيقة ولا تستجيب لمنهج أو طريقة.فأيهما أحسن في الاختيار يا ترى؟.
فالطريقة القادرية البودشيشية قد أدت دورها الوطني والإسلامي وساهمت في تحقيق التوافق الوطني واستقرار البلاد والعباد ثم عاد أفرادها ومريدوها وأطرها ،الذين لا تنقصهم كفاءة علمية أو سياسية، إلى زاويتهم، مستأنفين الطريق الذي اختاروه لوجودهم وسعادتهم، والذي هو أطول من عمر الإنسانية جمعاء ومن الكون كله بزمانه ومكانه، لا بمجرد أيام خريفه أو ربيعه المتعرضة للذبول في كل لحظة وحين وبمجرد تغير الأمزجة وتبدل الأجهزة...
فلا تلتفت في السير غيرا فكل ما سوى الله غير فاتخذ ذكره حصنا
هذا هو شعارها التقدمي والذي لا رجعة فيه إلى الأبد ،وما علاقتها بأمير المؤمنين الملك محمد السادس كحاكم وكشخص إلا كعلاقة كل فئات الشعب به ،باعتباره رمزا وركيزة سياسية وأمنية لوحدة البلاد واستقرارها .وهذا موقف شرعي ووطني بالدرجة الأولى لا يمكن إسقاطه بحسب التغيرات والشعارات السياسية والحزبية والاقتصادية الطارئة كالأزمة المالية العالمية مثلا،إذ أنه مبني على طاعة ولي الأمر والنصح له ولأئمة المسلمين وعامتهم،كما أنه مبني على مبدأ الصبر والمصابرة والجد والمثابرة ،ولو في مواجهة المكاره وما قد لا يستحسن من أفعال الحاكم ظاهرا ومتخيلا فرضيا.لأنه كيفما كان حاله فهو بشر، والذين معه كذلك، قد يتعرضون للخطأ والصواب.في حين أن البطانة قد تشمل الصالح وغيره،وهذا متوقع وواقع في هيئة حاكمة ،بل كل مجتمع بشري منذ أن خلق الله تعالى الإنسان،بل الشخص في حد ذاته له لمّة الملك ولمّة الشيطان على مستوى تضاد النزعات والمحفزات،والحكيم هو من يوظف الإيجابي من اللّمّتين ويتوقى السلبي في غالب التصرفات لا في كلها طبعا.
فالمسلم الحقيقي أو المواطن الوفي والصادق ،ولو لم يكن مسلم الدين والعقيدة، هو من يقدر أعمال حاكمه ويذكر حسناته ومنجزاته أكثر من سيئاته،ويعذره في هفواته وكبواته وينظر إلى صولاته ومنازلاته،لأن للحكم أحكام وضغوط وخلفيات ومكائد قد تحاك ضد الحاكم المخلص من خارج الوطن وداخله،ربما يفي عندها ببعض وعوده وتطلعاته وقد لا يفي لاستحالة الأمر في كثير من الأحيان.وهذا كله ينبغي أن يدرك بفراسة الوطنية الصادقة والرؤية المتأنية والوعي السياسي العام،وخاصة حينما يتعلق الأمر بالأزمات الاقتصادية وضيق الأحوال المعيشية الخارجة عن إرادة الحاكم والمحكوم معا.
فإثارة شبهة ممارسة الطريقة القادرية البودشيشية للسياسة قد تعبر عن يأس وانتكاسة سياسية على مستوى الوعي والفراسة الطبيعية كما عبرنا آنفا، وهي عبارة عن سفسطة سياسية لا غير وجس لنبض قد لا ينبض شريانه وأوردته إلا بذكر الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب المسلمين، بل حب الخير لجميع البشرية على الأرض.مع العلم بأن بعض الذين يعترضون على تسييس الطريقة توهما هم أنفسهم متطلعون ولاهثون بكل ما أوتوا من قوة وأصوات إلى الظهور والنجومية عبر القنوات والجرائد والمنتديات قد يعلمه الجميع،مرة باسم الدين والفتوى والمراكز المنتفخة أسماؤها والمنفوشة مردوديتها ومستوياتها ،ومرة باسم التربية والعلوم وأخرى باسم الأعمال الخيرية ...وهذا شأنهم وديدنهم ،قد لا يهمنا في شيء ،طالما أن الطريقة لم تدعم طائفة أو حزبا ضدا على حزب أو طائفة وجماعة أخرى ،وطالما أن السياسة في تصورهم قد تعني تدبير الشأن العام بالحكمة والعدالة والتوافق الوطني وتحقيق الأمن والاستقرار.أما إذا كانت السياسة غرضها الانتهازية والقفز على الرقاب واستغلال حسن ظن الجماهير ببعض الشعارات واللعب على بمشاعرهم والضرب على أوتار انفعالاتهم، للوصول إلى كراسي ثم بعدها تعريض البلد والعباد للخلل والمآسي، فهذا أمر مرعب ومستهجن أيما استهجان ويحتاج إلى فراسة العارفين لكشفه وإصلاحه وتصحيحه...
كما أنه قد لا يستبعد ،وهذا على سبيل الفرض،أن يكون لدى بعض المنتمين إلى الطريقة تطلعات سياسية ، أو بلغة التصوف دنيوية محضة، كأي مواطن يريد أن يصل إليها عبر الانتماء وأثره المعنوي وبطريق مشروع، فهذا شأنهم ،ولهم الحق في ذلك كأفراد ،إذ قد يكذب الشخص العادي وينافق نفسه أو غيره حينما يزعم بأنه ليست له تطلعات دنيوية أو مادية في حياته الخاصة .فالنفس قد تميل إلى المال والجاه بطبعها ،وهذا ما لم يستنكره النبي صلى الله عليه وسلم على بعض المهاجرين حينما قال:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرتها إلى ما هاجر إليه ".
وهذا الصنف إن كان يوجد في الطريقة ،كما هو في سائر التجمعات البشرية، فقد يعي الشيخ سيدي حمزة به كل الوعي فراسة وإدراكا، حتى إنه كان يقول مرارا :"اللِّي جا عْلى شي حاجة يدِِّيها".مما يعني أن الطريقة فيها خيري الدنيا والآخرة "وللآخرة خير لك من الأولى"،وهو بهذا كأنه يشخص أو يطبق بفراسته الدقيقة ومن غير غفلة أو تغرير قصة الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث كان"إذا رأى واحدا من عبيده يحسن الصلاة يعتقه،فعرفوا ذلك من خلقه،فكانوا يحسنون الصلاة مراءاة وكان يعتقهم،فقيل له في ذلك،فقال:من خدعنا في الله انخدعنا له !!!".والله من وراء القصد والطلب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.